الرئيسية أخبار القضاء محاكم المغرب العميق… عدالة تتنفس بالصبر وسط المعاناة

محاكم المغرب العميق… عدالة تتنفس بالصبر وسط المعاناة

IMG 8410 1
كتبه كتب في 12 نوفمبر، 2025 - 1:37 صباحًا

صوت العدالة – عزيز بنحريميدة

في عمق المغرب، بعيداً عن الأضواء ووسائل الإعلام، تعمل محاكم صغيرة في مدن وقرى نائية على حمل عبء العدالة في صمت. محاكم تفتقر في الغالب إلى التجهيزات الكافية وإلى عدد كافٍ من القضاة وموظفي كتابة الضبط، لكنها تواصل أداء رسالتها النبيلة في خدمة المتقاضين، في ظروف تكشف الوجه الحقيقي لما يسمى بعدالة المغرب العميق.

في مدن مثل طاطا، زاكورة، تنغير، فكيك، ميسور، أزيلال، جرادة، والريصاني، يشتغل القضاة في ظروف مهنية صعبة، ومسافات طويلة تفصلهم عن محاكم الاستئناف، وموارد محدودة لا تكفي لتغطية حجم الملفات التي تُسجَّل سنوياً والتي تفوق في بعضها ثلاثين ألف ملف رغم قلة الأطر البشرية. ومع ذلك يصرّ القضاة هناك على أن العدالة ليست موقعاً جغرافياً بل قناعة ومسؤولية. يقول أحد القضاة العاملين بإحدى هذه المحاكم في حديث غير رسمي: “نعيش ضغطاً مهنياً كبيراً، فالقاضي هنا لا يفصل فقط في القضايا، بل يضطلع بأدوار إدارية وتأطيرية بسبب النقص الحاد في الطاقم البشري. ومع ذلك نعتبر وجودنا هنا واجباً وطنياً قبل أن يكون مهمة وظيفية.”

ولا تقل معاناة موظفي كتابة الضبط عن معاناة القضاة، فهؤلاء يتحملون ضغطاً هائلاً في تدبير آلاف الملفات دون أن تتوفر لهم في كثير من الأحيان وسائل العمل الأساسية مثل البرمجيات الحديثة أو التجهيزات المكتبية اللائقة. يعمل بعضهم في مبانٍ قديمة أو مكيفة جزئياً، ويضطرون أحياناً إلى استخدام مواردهم الخاصة لتأمين مستلزمات الطباعة أو التنقل. إحدى الموظفات بإحدى محاكم الأطلس قالت بصراحة: “نحن جزء من العدالة، لكننا الحلقة المنسية. كل وثيقة تمرّ عبر أيدينا، ومع ذلك لا أحد يسأل عن ظروفنا أو عن حجم المجهود الذي نبذله.”

وتزداد الصورة قتامة في مراكز القاضي المقيم المنتشرة عبر ربوع الوطن، والتي تمثل الواجهة الأولى للعدالة في المناطق البعيدة. هذه المراكز، التي أُحدثت لتقريب القضاء من المواطنين، تعاني من نقص حاد في التجهيزات، وضعف في الموارد البشرية، وغياب ظروف العمل اللائقة. ففي كثير من الأحيان يشتغل القاضي المقيم في بنايات متقادمة لا تتوفر على قاعة جلسات بالمعنى الحقيقي، ولا على فضاءات ملائمة لاستقبال المتقاضين أو حفظ الملفات. كما أن القاضي المقيم يجد نفسه مطالباً بالقيام بمهام قضائية وإدارية متعددة في غياب الطاقم الكافي للمساندة، فضلاً عن غياب الدعم اللوجستي الضروري كوسائل النقل أو الاتصال الدائم بالمحكمة الأم.

أحد القضاة المقيمين عبّر عن ذلك قائلاً: “نعيش في عزلة حقيقية، نقطع عشرات الكيلومترات أسبوعياً لحضور الجلسات أو لإيصال المراسلات، ومع ذلك نحاول أن نحافظ على صورة العدالة في عيون المواطنين الذين ينتظرون منا الحضور والإنصاف.”

وتبقى هذه المراكز، رغم ضعف إمكانياتها، جسراً أساسياً بين المواطن والدولة، إذ تكرّس حضور القضاء في مناطق قد لا تصلها حتى بعض المصالح العمومية الأخرى.

ورغم الجهود التي تبذلها وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية في تحديث البنية التحتية للمحاكم، إلا أن الواقع الميداني يكشف تفاوتاً صارخاً بين المحاكم الكبرى في المدن كالدار البيضاء والرباط ومراكش، ومحاكم المناطق النائية التي ما زالت تفتقر حتى إلى قاعة مهيأة لاستقبال المواطنين في ظروف إنسانية. وفي بعض المناطق الجبلية، تتعذر حتى تغطية الإنترنت، مما يعطّل العمل بالنظام المعلوماتي القضائي ويجعل الإجراءات تسير بوتيرة بطيئة.

في السنوات الأخيرة، أطلقت وزارة العدل عدداً من المشاريع الإصلاحية التي تسعى إلى تقليص هذا التفاوت، من بينها مشروع رقمنة المساطر القضائية، وبرنامج “محكمة رقمية” الذي يروم تسهيل الولوج إلى العدالة عبر المنصات الإلكترونية، إلى جانب برنامج التهيئة وإعادة بناء عدد من المحاكم الابتدائية في المناطق النائية. كما تم توظيف دفعات جديدة من القضاة وكتاب الضبط لتقوية الموارد البشرية بهذه المحاكم. غير أن هذه المبادرات، رغم أهميتها، ما تزال في حاجة إلى نفس طويل وإرادة مؤسساتية قوية لضمان استدامتها وفعاليتها على أرض الواقع.

ويطالب المهنيون بضرورة تحفيز القضاة والموظفين العاملين في المناطق الصعبة عبر تعويضات إضافية ونظام خاص للتنقل والإقامة، مع توزيع عادل للموارد البشرية يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الجغرافية والظروف المعيشية. كما يدعون إلى توفير برامج دعم نفسي ومهني للعاملين في محاكم الضغط لما يعانونه من إرهاق متواصل وانعدام التوازن بين الحياة المهنية والخاصة.

ورغم كل هذه التحديات، تظل محاكم المغرب العميق ومراكز القضاة المقيمين شاهدة على روح المسؤولية والتفاني التي تطبع عمل رجال ونساء العدالة، ممن اختاروا أن يكونوا في الصفوف الأمامية للدفاع عن الحقوق وصون الكرامة الإنسانية في مناطق لا تصلها إلا قوافل الالتزام الوطني. إنها مؤسسات لا تصنع العناوين، لكنها تصنع الفرق كل يوم، في صمت.

مشاركة