الرئيسية أخبار القضاء مؤسسة قاضي التحقيق في قانون المسطرة الجنائية المغربية

مؤسسة قاضي التحقيق في قانون المسطرة الجنائية المغربية

F4CA44DA 599A 4DA3 9109 E515E7C90D86.jpeg
كتبه كتب في 4 فبراير، 2024 - 11:41 مساءً

مواضيع في قانون المسطرة الجنائية 

مؤسسة قاضي التحقيق في قانون المسطرة الجنائية المغربية

مؤسسة قاضي التحقيق

بعدما تطرقنا للمؤسسات المتدخلة في العدالة الجنائية بشكل عام، سنحاول من خلال هذه المحاضرة التركيز على بنيات مؤسسات العدالة الجنائية. وسنبدأ بمؤسسة قاضي التحقيق أو هيئات التحقيق.

متى وقعت جريمة من الجرائم تشرع السلطات المختصة في التحري عنها، بهدف التأكد من وقوعها، وجمع الأدلة عنها، ثم ضبط مرتكبيها. 

وقبل التطرق للسلطات المختصة بالتحري عن الجرائم، والصلاحيات المخولة لها للقيام بهذه المهمة، لا بد من الإشارة أن التحريات التي تتم في هذه المرحلة السابقة عن المحاكمة، تكون سرية. وهذه خاصية من خاصيات النظام التفتيشي الذي ينيط بالسلطات العمومية مهمة التحري عن الجرائم، ويقرر أن يتم ذلك في إطار من الكتمان والسرية.

والسلطات المختصة بالتحري عن الجرائم كما عددها قانون المسطرة الجنائية هي: الشرطة القضائية، النيابة العامة، وقاضي التحقيق.

وسأحاول التطرق لكل سلطة من هذه السلطات في فصل من الفصول، على أن نبدأ بمؤسسة قضاء التحقيق.

المبحث الأول: قاضي التحقيق أو هيئات التحقيق

إن الحديث عن هيئات التحقيق، تستدعي أولا مناقشتها على مستوى القاضي الفرد، وكذا على مستوى هيئات التحقيق. لكن لابد من استحضار تطور هذه المؤسسة، حتى نتمكن من استشراف مستقبل العدالة الجنائية ببلادنا.

المطلب الأول: تطور مؤسسة قضاء التحقيق

بالرجوع إلى مقتضيات ظهير 1959 ، نجده يتحدث في الفصلان 53 و213 عن هيئات التحقيق، على مستوى قاضي التحقيق كدرجة أولى، ويتحدث عن غرفة الاتهام كدرجة ثانية للتحقيق.

وقد أدخلت على هذا الظهير تعديلات، هناك من اعتبرها تراجعات، حيث أنه في سنة 1974 كان هناك تغيير جذري واضطراري عرفه التنظيم القضائي للمملكة.

من بين ماء جاء به ظهير الإجراءات الانتقالية، وضع قواعد جديدة سواء على مستوى قاضي التحقيق الفرد، أو على مستوى هيئة التحقيق الجماعية، حيث تم استبدال غرفة الاتهام بالغرفة الجنحية، وتم أيضا التقليص من نطاق التحقيق.

ففي ظهير 1959 كان التحقيق أوسع، لأن التحقيق الإلزامي يشمل كل الجنايات، سواء ارتكبت من طرف الرشداء أو الأحداث، وكان اختياري في كل الجنح، بل وكان من الممكن اللجوء إليه في المخالفات. وهذا ما كان ينص عليه المشرع الجنائي الفرنسي سنة 1958 .

في سنة 1974 وقع تقليص جوهري من هذا النطاق، حيث أصبح التحقيق إلزامي فقط في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد.ومن خلال المقارنة أيضا بين ظهير 1959 و1974 نجد قاضي التحقيق كان مقره بالمحكمة الابتدائية، ثم انتقل موقعه مع ظهير 1974 إلى محكمة الاستئناف. 

كما أن ظهير 1974 استبدل ما كان يسمى بالمحكمة الجنائية بالغرفة الجنائية، التي أصبح موقعها بمحكمة الاستئناف، كما استبدلت تسمية غرفة الاتهام بالغرفة الجنحية.

من بين مهام غرفة الاتهام النظر في قرارات قاضي التحقيق، التي يمكن الطعن فيها بالاستئناف. وبخصوص قضايا الجنايات كانت تعتبر درجة ثانية للتحقيق. إلا أنه اليوم وفي ظل قانون 2002 لم نعد نعرف درجة ثانية للتحقيق، بل أصبح قاضي التحقيق متواجد أيضا بالمحكمة الابتدائية، ومن ثم أصبحنا أمام ثنائية التحقيق.

في ظل ظهير الاجراءات الانتقالية نصصت المادة 10 على الغرفة الجنحية، وتضطلع بدور مزدوج، وهي هيئات للتحقيق لم تسند لها كل المهام التي كانت تقوم به غرفة الاتهام. واختفت بذلك الدرجة الثانية للتحقيق، وذلك من منطلق أن الفصل 7 من ظهير الاجراءات الانتقالية كان يقرر أن قاضي التحقيق يحيل بأمر قضايا الجنايات على الغرفة الجنائية، ومن ثم لم تعد هناك درجة ثانية للتحقيق، وهذا ما استنتجه الفقه المغربي.

المطلب الثاني: أهمية مؤسسة قضاء التحقيق

تستمد هذه المؤسسة أهميتها من خطورة ودقة القضايا المحالة عليها، إذ الغالب ما تكون معقدة، تحتاج إلى تعميق النظر، من أجل الوصول إلى كشف الحقيقة. مهمتها تجهيز القضايا، وهناك من الفقه من اعتبر هذه المرحلة بمثابة مشروع محاكمة، يضطلع فيها قاضي التحقيق بدور محوري ومركزي. فالنيابة العامة يمكنها أن تلتمس التحقيق من قاضي التحقيق ولو ظل مرتكب الجريمة مجهولا.

قاضي التحقيق يعين من طرف وزير العدل وباقتراح من وزير رئيس المحكمة، لمدة ثلاث سنوات، قابلة للتجديد، ويعفى بنفس الطريقة طبقا لما هو منصوص عليه في المادة 52 من قانون المسطرة الجنائية. ففي سنة 1959 كان الإعفاء يتم برأي مكتب المجلس الأعلى للقضاء.

الإعفاء والتعيين فيه نقاش، مادام أنه يتم من طرف سلطة سياسية، فوزير العدل ينتمي إلى السلطة التنفيذية، مما يطرح سؤالا حول استقلال هذا القضاء. كان بالأحرى أن يعرف هذا الجهازاستقلالا، كما هو الشأن استقلال النيابة العامة.

بالرجوع إلى المادة 90 من ق م ج نجدها تنص على أن:” إذا تعدد قضاة التحقيق في محكمة واحدة، فإن النيابة العامة أن تعين من يحقق في كل قضية على حدة”.

يتضح مما سبق أن النيابة العامة هي التي توزع الملفات على قضاة التحقيق ــ إذا كان بالمحكمة أكثر من قاضي للتحقيق ــ بمعنى أن النيابة العامة هي التي تعين من يحقق في القضية. وهذا فيه مساس باستقلال قضاء التحقيق. 

المبحث الثاني: صلاحيات قاضي التحقيق

يضطلع قاضي التحقيق بأهمية خاصة داخل منظومة العدالة الجنائية، خصوصا في القضايا المعقدة أو الشديدة الخطورة، التي يكون فيها التحقيق الزاميا، حيث يقوم بمجرد مطالبته بإجراء تحقيق إعدادي، بعدة إجراءات وأبحاث، وتصدر عنه اوامر. فهو محقق مكلف بالبحث وجمع الأدلة للوصول إلى الحقيقة والتعرف على مرتكبيها والإلمام بشخصيته. وهو يقوم من أجل ذلك ببعض المهام تتجلى أهمها في إجراء بحث اجتماعي ونفسي، وفي القيام باستنطاق المتهم، وسماع الشهود ومواجهتهم مع بعضهم أو مع المتهم، وفي القيام بتفتيش الأماكن وحجز ما بها من أشياء أو وثائق لها علاقة بالجريمة، وكذا القيام ببعض التحريات المفيدة للكشف عن الحقيقة، ولو عن طريق التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد.

المطلب الأول: وظيفة القيام ببحث اجتماعي ونفسي حول المتهم

يمكن لقاضي التحقيق فتح ملف حول شخصية المتهم، وحالته الاجتماعي والنفسية، بمعنى الإلمام بالظروف النفسية والاقتصادية للمتهم التي يكون لها تأثير من قريب أو بعيد على ارتكابه الجريمة. ويعد هذا البحث من المقومات الأساسية التي تساعد على فهمه كإنسان مرتبط بثقافة ومجتمع معين، مما يساعد على محاكمته محاكمة عادلة ومنصفة من شأنها أن تضع المسؤولية في إطارها الواقعي، وليس في إطار معيار مبسط ومجرد عن الواقع. ويساعد كذلك على تحديد الجزاء والعقوبة الملائمة، مما يساهم لا محالة في إصلاح المتهم وإعادة إدماجه في المجتمع.وهذا ما نصت عليه المادة 87 من قانون المسطرة الجنائية، حيث أوكلت إليه إجراء بحث مستقل حول شخصية المتهم وحالته العائلية والاجتماعية، بصفة إلزامية في الجنايات واختيارية في الجنح، بهدف التعرف على أحوال المتهم والظروف التي كانت محيطة به وقت ارتكاب الجريمة. وهذا لا يمكن أن يقوم به ضابط الشرطة القضائية.

كما يقوم قاضي التحقيق بإجراء بحث حول التدابير الكفيلة بتسهيل إعادة إدماجهم في المجتمع، إذا كان سن هذا الأخير يقل عن 20 سنة، وكانت العقوبة المقررة للجريمة لا تتجاوز خمس سنوات، وارتأى قاضي التحقيق وضعه رهن الاعتقال الاحتياطي، لتكتمل النظرة وتتضح الرؤية. والهدف من وراء ذلك هو التعرف على التدابير الحمائية الكفيلة بإصلاح الحدث وإعادة إدماجه في المجتمع كفرد صالح، بحيث يكون قاضي التحقيق ثم المحكمة في حالة إحالة القضية عليها ــ على علم بالأسلوب السليم لتقويم سلوك هذا الشخص بسبب صغر سنه. وهذا يبين بشكل واضح مدى سمو العدالة الجنائية.

ويجري قاضي التحقيق هذه الأبحاث إما بواسطة ضباط الشرطة القضائية عن طريق الإنابة القضائية، أو بواسطة أي شخص أو مؤسسة مؤهلين للقيام بذلك من المتخصصين في علم النفس أو علم الاجتماع الجنائي أو في علم الإجرام الذين يمكنهم إنجاز هذا البحث بكفاءة.

وبالرجوع إلى المادة 88 من ق م ج نجدها تسمح لقاضي التحقيق بأن يخضع المتهم لفحص طبي أو نفساني، وأن يأمر بعد لإطلاع النيابة العامة، بإخضاعه للعلاج ضد التسمم مثلا استهلاكه للكحول أو مادة مخذرة أو لمؤثر عقلي.

كما أنه يمكن للمتهم أو محاميه أن يطلب إجراء الفحوص المذكورة، أو إخضاعه للعلاج، وإذا رفض قاضي التحقيق، فعليه أن يصدر بذلك أمرا قضائيا معللا بأسباب الرفض. وهذا يفيد ان المتهم يتمتع بمجموعة من الضمانات أمام قاضي التحقيق، أو بعبارة أخرى حقوق الدفاع مكفولة. ومن شأن كل هذا أن يساهم لا محالة في تعزيز العدالة الجنائية.

المطلب الثاني: التنقل والتفتيش والحجز

يعتبر التنقل والتفتيش والحجز أهم الوسائل المتاحة لقاضي التحقيق، من أجل ضبط أدلة الجريمة والكشف عن الحقيقة، مادام أن الأمر يتعلق بأدلة قابلة للاندثار بسرعة. ويحق لقاضي التحقيق الحق في الاستعانة بمن يراه مؤهلا لذلك. وتقدم هذه الإجراءات أفضل دليل تطمئن إليه المحكمة في تكوين قناعتها.

والتفتيش أو الحجز ليس مجرد عمل مادي اقتضته الضرورة، وإنما هو إجراء جوهري يهدف إلى البحث عن الحقيقة في أي مكان قد توجد فيه، ولو في الأماكن الحميمية الخاصة بالأشخاص.

فإجراءات المعاينة أو التفتيش، وما يترتب عنهما من حجز، تمس المتهم في شخصه وحقوقه وحريته، لذلك أحاطها المشرع بضمانات معينة، تتمثل في صفة القائم بها، وفي توفر شروط موضوعية وأخرى شكلية لإنجازها على الوجه القانوني المطلوب.

المشرع لم يحدد تعريفا قانونيا للمعاينة أو التفتيش، لكنه حدد المقصود بالمنزل في الفصل 511 من القانون الجنائي. وأحدث بالمادة 60 من قانون المسطرة الجنائية إجراء جديدا يتمثل في تفتيش النساء بواسطة امرأة ينتدبها ضابط الشرطة القضائية. وهذا يبين مدى سمو العدالة الجنائية، من خلال احترام كرامة المرأة.

وهناك أوجه التشابه والاختلاف بين التفتيش والمعاينة، ويكمن التشابه في كون القائم بهما ينتقل إلى عين المكان للقيام بالمشاهدات وإجراء جميع التحريات. ويختلفان في النقاط التالية:

ــ المعاينة يقوم بها ضابط الشرطة القضائية وقاضي التحقيق وهيئة المحكمة على السواء تلقائيا، أو بناء على طلب أحد الأطراف. بخلاف التفتيش لا يمكن للمحكمة القيام به إلا في حالات استثنائية.

ــ المعاينة تهدف إلى إثبات وقائع مادية لحالة شيء من خلال المشاهدة أو فحص هذا الشيء مباشرة، أو فحص شخص معين لإثبات ما عليه من آثار العنف، أو إذا كان هو المتهم، لإثبات نسبة الكحول في دمه مثلا. أما غاية التفتيش الذي ينصب على شخص أو محل معين، فهي ضبط أدلة الجريمة موضوع التحقيق للكشف عن الفاعل.

ــ المعاينة تتم أثناء عملية التفتيش، وقد تكون هدفا في حد ذاتها، نتيجة لانتقال السلطة القائمة به. أما التفتيش فيلتزم القائم به أثناء الشروع فيه بشروط دقيقة يؤدي الإخلال بها إلى بطلان المحضر.

وبالرجوع للمادة 99 من ق م ج نجدها تمكن قاضي التحقيق من الانتقال لأي مكان لإجراء المعاينات المفيدة أو القيام بالتفتيش وفق شروط محددة.

وفي حالة ما إذا قرر قاضي التحقيق الانتقال لإجراء المعاينات أو التفتيش:

ــ أن يشعر النيابة العامة بذلك في الوقت المناسب حتى يترك لممثلها الخيار في مرافقته.

ــ أن يستعين في مهمته بكاتب الضبط.

ــ أن يحرر محضرا بما أنجزه من أعمال، وأن يشير في المحضر إلى هوية المستمع إليهم، وأن يشار بوضوح إلى المعاينات والإجراءات التي قام بها قاضي التحقيق.

كما نصصت المادة 110 من ق م ج أنه يجيز لقاضي التحقيق القيام بإجراءات التحقيق خارج دائرة نفوذ المحكمة التي يمارس فيها مهامه، إذا كانت متطلبات التحقيق تستلزم ذلك، شريطة أن يخبر النيابة العامة بمحكمته، وأن يشعر مقدما النيابة العامة لدى المحكمة التي ينتقل إلى دائرة نفوذها.

ويقترن إجراء الانتقال غالبا بعملية التفتيش، في جميع الأماكن التي قد يعثر فيها على أشياء يكون اكتشافها مفيدا في التحقيق. لذا أحاطه المشرع بالضمانات المنصوص عليها في المواد 59 و60 و62 من ق م ج. بهدف توفير حماية لما تستلزمه حرية الفرد، وما تفرضه المبادئ الدستورية من حماية للمنازل.

المطلب الثالث: التقاط المكالمات الهاتفية والاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد

الأصل هو منع التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها أو أخذ نسخ منها أو حجزها. لكن أمام تطور الجريمة المنظمة، أدخل المشرع استثناء على هذا المبدأ، إذا اقتضت ضرورة البحث ذلك، وأجاز لقاضي التحقيق أن يأمر كتابة بالتقاط المكالمات المذكورة، طبقا للمادة 108 من ق م ج. وذلك بهدف كشف الحقيقة، ووضع اليد على المتهم الحقيقي.

ولم يقيد القانون سلطة قاضي التحقيق بنوع الجريمة ولا بخطورتها، كما فعل بالنسبة للوكيل العام للملك. لذا يمكن لقاضي التحقيق أن يلجأ إلى هذه المسطرة كلما اقتضت ذلك ضرورة البحث الذي يقوم به، وكيفما كانت الجريمة التي يحقق فيها.

يصدر قاضي التحقيق أمرا يتضمن التعريف بالمكالمة الهاتفية أو المراسلة المراد التقاطها وتسجيلها وأخذ نسخ منها أو حجزها، وبالجريم التي تبرر ذلك، والمدة التي سيتم خلالها الالتقاط، التي لا يمكنها أن تتجاوز أربعة أشهر، ويمكن تمديدها مرو واحدة لمدة أربعة أشهر بمقتضى أمر مماثل.

ويكن لقاضي التحقيق أو لضابط الشرطة القضائية الذي يتم تعيينه من قبله للقيام بهذه المهمة أن يطلب من جميع الجهات التي تستغل وسائل الاتصال كيفما كان درجة استغلالها وضع جهاز للالتقاط، طبقا لما هو منصوص عليه في المادة110 من ق م ج .وقد أحاط المشرع هذا بضمانات مهمة، حتى لا يتم استعماله بطريقة تعسفية، تمس بحقوق وحريات الأفراد.

المطلب الرابع: الاستماع إلى الشهود

على قاضي التحقيق أن يستمع إلى كل شخص حضر بمحض إرادته، إذا رأى أن شهادته مفيدة في إظهار الحقيقة، وله كامل الصلاحية لاستدعاء كل شاهد أو شخص للحضور أمامه إذا قدر وجود فائدة في شهادته. ويتم الاستدعاء بالطرق الإدارية أو برسالة مضمونة أو بواسطة القوة العمومية التي يملك قاضي التحقيق صلاحية تسخيرها، بمقتضى الفصل 54 من ق م ج، أو بواسطة الأعوان القضائيين وفقا لمقتضيات الفصل 2 من الظهير الشريف المؤرخ في 25 دجنبر 1980 المحدث لهيئة الأعوان القضائيين.

المطلب الخامس: استنطاق المتهم ومواجهته مع الغير

يقصد بالاستنطاق مواجهة المتهم الذي يجري التحقيق معه بالتهم المنسوبة إليه، ومطالبته بإبداء رأيه فيها، ثم مناقشته تفصيلا في أدلة الدعوى إثباتا أو نفيا من أجل الكشف عن الحقيقة. ويكون الاستنطاق إما ابتدائيا أو تفصيليا، مع قد يتخلل كل واحد منهما من مواجهة بين المتهمين أو بينهم وبين الشهود أو مع الطرف المشتكي.

وللاستنطاق طبيعة خاصة مميزة له عن سائر إجراءات التحقيق، إذ أنه لا يعتبر إجراء للبحث عن أدلة الاتهام، من خلال الحصول على اعترافات المتهم فقط، بل ينظر إليه كوسيلة دفاع يحاط من خلاله المتهم علما بما نسب إليه من أفعال مخالفة للقانون، وبما يحتوي عليه ملف الدعوى من أدلة ضده، وتتاح له الفرصة لكي يدلي بالإيضاحات التي تساعده على إبراز براءته.

المطلب الخانس: أوامر قاضي التحقيق

كما مر معنا خول القانون لقاضي التحقيق صلاحيات واسعة للتأكد من الاتهام، ومن الأدلة المقدمة إليه، لتاكيد أو دفع الاتهام. ومن ثم الكشف عن الحقيقة، من خلال الإجراءات المتعلقة بجمع الأدلة، كالتنقل، والتفتيش والحجز والتقاط المكالمات والاستماع إلى الشهود والخبرة. وهذا يبين مدى جسامة وخطورة هذه المرحلة، التي اعتبرها بعض الفقه مشروع محاكمة. 

ولما كان استنطاق المتهم هو أهم الإجراءات البحث عن الدليل، فقد وضع المشرع بين يدي قاضي التحقيق مجموعة من الآليات الإجرائية، التي تتعلق بشخص المتهم، عليه أن يعمل على تسخيرها بعيدا عن المؤثرات والأهواء. وفي خدمة العدالة واحقاق الحق وبكيفية تنم عن حكمة واستقامة. ولأجل تحقيق ذلك، عمل المشرع على تحصين وتأمين الشق الإجرائي في المسطرة الجنائية، بغية تحصين مسطرة الحصول على الدليل. 

ولأجل ذلك، يتعين على قاضي التحقيق أن يراعي عند تقديرها عدم المساس بالحقوق الدستورية للمواطنين. وهذه الآليات منها ما هو مرتبط بشخص المتهم، ويهدف إلى الحد من حريته أو إجباره على المثول أمام قاضي التحقيق، وهي الأمر بالحضور والأمر بالإحضار والأمر بالايداع في السجن، والأمر بإلقاء القبض أو الأمر بالاعتقال الاحتياطي، ومنها ما يتعلق بالحد من بعض حقوقه كالأمر بالوضع تحت المراقبة القضائية، والأمر بتحديد كفالة مالية أو شخصية.

والأمر بإغلاق الحدود وسحب جواز السفر. أما الأوامر التي لا تساعد قاضي التحقيق في البحث عن الدليل، كالأمر بإرجاع الحالة، والأمر برد الأشياء المحجوزة، والأمر ببيع الأشياء المحجوزة التي يخشى فسادها، فإنها تتضمن قواعد إجرائية، وأسند القانون أمر إصدارها إلى قاضي التحقيق لتعلق موضوعها بالقضايا المعروضة عليه، ويضمن البت فيه مصلحة للضحايا أو أطراف الدعوى.

يشترط في الأوامر المتعلقة بشخص المتهم والهادفة إلى إجباره على المثول أمام قاضي التحقيق والمنصوص عليها في الباب الثامن من القسم الثالث من الكتاب الأول والنافذة المفعول في جميع أنحاء المملكة، أن يتحقق فيها إلى جانب الشروط الخاصة بكل واحد منها والشروط العامة التالية:

1 ــ أن تتم عمليات الضبط والاحضار المأمور بها تحت إشراف قاضي التحقيق ومراقبته.

2 ــ وأن يشار في كل أمر إلى نوع التهمة وإلى المواد القانونية المطبقة.

3 ــ وأن تتضمن الأوامر هوية المتهم ورقم بطاقة تعريفه الوطنية عند الاقتضاء.

4 ــ أن يؤرخها قاضي التحقيق ويوقعها ويختمها بطابعه.

5 ــ وأن يحترم حين إنجازها، القواعد المشار إليها سابقا بشأن الاستعانة بترجمان وبالتخاطب مع الصم والبكم.

ويمكن القول أن كل الأوامر التي يصدرها قاضي التحقيق مؤطرة بالقانون، وتهدف بالأساس إلى تسهيل الوصول إلى الحقيقة. لذا تبقى مرحلة التحقيق لها أهميتها ووزنها داخل منظومة العدالة الجنائية. وقد نعتها بعض الفقه بأنها تشكل مشروع محاكمة. تمكن قاضي الحكم من تكوين فكرة حول الأفعال، وتساعده أيضا على تكوين قناعته. فما دور مؤسسة النيابة العامة في تحقيق المحاكمة العادلة؟

    image


    مشاركة