الرئيسية أخبار القضاء كلمة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة بمناسبة انعقاد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب الذي تستضيفه هيئة المحامين بوجدة أيام 25 و26 و27 أكتوبر 2018

كلمة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة بمناسبة انعقاد المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب الذي تستضيفه هيئة المحامين بوجدة أيام 25 و26 و27 أكتوبر 2018

IMG 20181026 WA0022
كتبه كتب في 26 أكتوبر، 2018 - 11:36 صباحًا

باسم الله الرحمن الرحيم

حضرات السيدات والسادة.

في اليوم العشرين من شهر نونبر من سنة 2000، وجه جلالة الملك محمد السادس نصره الله رسالة سامية إلى المحامين بمناسبة اجتماع المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب في دورته الثانية التي انعقدت في ضيافة هيئة المحامين بالدار البيضاء، عبَّر جلالته في مستهلها عن اعتزازه “بالانتماء لأسرة الحق والقانون”، وما يوليه جلالته من تقدير خاص لهيئة المحامين، الذين يتقاسمون وأسرة القضاء أمانة إقامة العدل، “الذي جعلناه، يقول جلالة الملك، أساس مشروعنا المجتمعي الديموقراطي الحداثي ومبتغاه”.
ثمان عشرة سنة مرت، قطع خلالها المغرب مساراً بعيداً في تنزيل مشروع إصلاح نظام العدالة. وها أنتم حضرات السيدات والسادة أعضاء المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب، تعقدون اجتماعكم السنوي الثاني لهذه السنة في مدينة وجدة، التي تصبح عاصمة للمحامين العرب لبضعة أيام، تصدح فيها حناجركم، ووراءها قلوب ملايين العرب، بنداءات العدل والإنصاف، والدعوات للسلم والتآخي والتآزر والوحدة وَلَمْ الصَّفْ العربي بلغة القانون وبلسان الحقوق … وأما نحن المغاربة، الذين كنا نتلمس أشعة الشمس وهي تطالعنا كل صباح من مدينة الزيري ابن عطية لتغرب عند مياه المحيط الأطلسي، فإننا نسعد طيلة هذه الأيام بشمس
لا تغيب عن وجدة .. التي يغرد فيها هذه الأيام النغم الحقوقي والقانوني المعبر عن أمال المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج .. في مجتمع يسوده العدل والمساواة .. يتكلم لغة القانون، ويتنفس نفس الإنصاف ويغمض عينيه في اطمئنان على هدوء الأمن القضائي.
IMG 20181026 WA0024
ثمان عشرة سنة مضت على دورة القدس. وهذا هو الاسم الذي أطلقه اتحاد المحامين العرب على دورته الثانية لسنة 2000 بمدينة الدار البيضاء، قطعت فيها العدالة المغربية – بقيادة جلالة الملك – شوطاً بعيداً من الإصلاحات الدستورية، حيث أنتج دستور 2011 سلطة قضائية باعتبارها السلطة الثالثة في الدولة. إذ قبل ذلك لم يكن القضاء سلطة من سلطات الدولة. وأصبحت هذه السلطة مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، يدبر شؤونها المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة جلالة الملك، وبعضوية قضاة وشخصيات مستقلة لا تنتمي للسلطتين التشريعية والتنفيذية.
وتميزت التجربة المغربية بميلاد مؤسسة مستقلة لإدارة مهام قضاة النيابة العامة، يرأسها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية. الذي استلم السلطات على النيابة العامة باعتباره رئيسا لها منذ سنة خَلت، في اليوم السابع من أكتوبر – تشرين الأول– من السنة الماضية.
ولذلك فإن اجتماع مكتبكم الدائم – معشر السادة المحامين العرب، يأتي في خضم مرحلة تاريخية حاسمة من حياة المؤسسة القضائية بالمملكة المغربية، أصبح فيها القضاء سلطة دستورية مستقلة عن سلطتي البرلمان والحكومة. وتعمل مؤسساتها القيادية (المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة) على بناء هياكل المؤسسة وتوطيد استقلال السلطة الذي يضمنه جلالة الملك بمقتضى الدستور.
حضرات السيدات والسادة الأفاضل؛
إن استقلال السلطة القضائية لم يقرر لفائدة القضاة أنفسهم، وإنما تقرر لفائدة المتقاضين، حتى يتمكن القضاة من البت في النزاعات دون إعطاء الاعتبار لجهة ما أو سلطة أخرى، غير سلطة القانون وحده. وقد حرص جلالة الملك على تأكيد هذا المعنى لاستقلال القضاء في الرسالة السامية التي وجهها جلالته لمؤتمر العدالة الأول بمراكش في مطلع شهر أبريل من هذه السنة (2018). إذ قال جلالته : “إن مبدأ الاستقلال لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضي، وإنه إذ يرتب حقاً للمتقاضين، فكونه يلقي واجباً على عاتق القاضي. فهو حق للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد، وأن يجعل من القانون وحده مرجعاً لقراراته، ومما يمليه عليه ضميره سنداً لاقتناعه. وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثر أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية”.
وإذا كان استقلال القضاء يتجسد في استقلال القاضي، الذي يتجلى في حمايته من مختلف التأثيرات، فإن تحقيق هذا النوع من الاستقلال ليس رهينا بسلطات الدولة وحدها، بقدر ما يتطلب شجاعةً من القاضي في الدفاع عن استقلاله .. ولكنه يحتاج كذلك إلى مساهمة المحامي في حماية استقلال القضاة والدفاع عنه.
ولا يتأتى الدفاع عن استقلال القضاة بمجرد رفع الشعارات. ولكنه يتحقق بالمواقف الشامخة التي طالما عبر عنها نقباؤنا ومحامونا وهيئات الدفاع التي ترفض ممارسة كل أساليب الضغط على القضاة للتأثير
في قناعاتهم وأحكامهم، بأساليب مثل تحرير العرائض أو تنفيذ الوقفات الاحتجاجية للتأثير على القضاء.
إن الدفاع عن استقلال القضاء هو من صميم أخلاقيات مهنة المحاماة الشريفة. حيث يجب استحضاره من طرف المحامي، سواء أثناء ممارسة مهام الدفاع أو بمناسبة الخوض في قضايا العدالة في منابر أخرى، حيث يقتضي شرف المهنة أن يتم التعبير عن الأفكار وبسط الانتقادات باحترام لمقام القضاء، الذي يعتبر المحامي – في المغرب – جزء منه. ولذلك فإن سلوك المحامي خلال ممارسته مهامه ليس محكوما بقواعد المسطرة والقوانين الإجرائية وحدها. ولكنه ينبغي أن يستحْضر نبل مهنة المحاماة وقدسية رسالة هيئة الدفاع، التي تتعبد في محراب العدالة. إنها مهنة شريفة، قال عنها هنري روبير وهو نقيب سابق للمحامين بفرنسا: “ما من وظيفة عدا وظيفة القضاء أشرف من المحاماة. وهذا الشرف هو المقابل لمجهود من يمارسها والموجب للصفات التي يمتاز بها عن غيره. والأصل فيها نبل الشرف وخدمة العدالة ومساعدة صاحب الحق على أخذه ومقاومة الباطل والمبطلين”.
أيها السادة .. إنني أتحدث عن النبل والشرف .. إنها قيم يتطلب استحقاقها جهاد النفس ومقاومة الأهواء .. ويتطلب الاحتفاظ بها مثالية في السلوك وانضباطاً لأخلاقيات المهنة ومقومات الشرف ونزاهة الضمير .. وهي خصال يرتديها المحامي مع بذلته، ويكاد يتنفسها كالهواء الذي يملأ رئتيه. ولذلك فإن المحامين مستأمنين على مهنتهم، التي قال جلالة الملك بشأنها في رسالته إلى مكتبكم الدائم سنة 2000 أنها “توجد في موقع دفاع، حتى لا تفقد قواعدها وأعرافها وثقة من يلجأ إليها”.
أيها السادة؛
لقد تعلمت شخصيا من محامين ونقباء كبار .. ما لم أتعلمه من أساتذتي وزملائي من القضاة ..
مرتان على الأقل وأنا أستقبل نقيبين (كل على حده)، حدث أن رنَّ جرس الهاتف في جيبيهما .. وفي المرتين معا شاهدتُ بأمِّ عيني النقيبين تعلو وجهيهما حُمْرةُ الخجل، ويتلعثمان في البحث عن عبارات الأسف والاعتذار. وحاولت أن أخفف من حدة الحدث .. وهو حدث يمكن أن يقع لأي منا .. ولكن الرجلين – رحمهما الله – استعظماه .. قالا إنه ليس جديراً بهما ترك الهاتف مشغلا وهما يلجان مجلس القضاء ..
لا يتعلق الأمر بجلسة أحكام، ولكن النقيبين حضرا لمكتبي وأنا وكيل للملك لتقديم شكايات …
كانا هرمين من قامات الدفاع .. ولجا مهنة الدفاع وأنا بعد تلميذ
في المدرسة الابتدائية .. وأمثالهما كثر في البلاد العربية، وجداول المهنة تزخر بأسماء كثيرة مثلهما.
أذكر كذلك أنني كنت قد استقبلت وأنا وكيلا للملك بإحدى محاكم الدار البيضاء جمعية للقانونيين الأمريكيين زارتنا للترويج لنظام الصلح. كانت الجمعية تتكون من قضاة ومحامين. أخبرونا أن القانون الأمريكي في الولاية التي ينتمون إليها يعتبر محاولة الصلح إجبارية. وأن المدعي ملزم باللجوء إلى مسطرة التصالح وإعطاء الفرصة الكافية للوسيط لإجراء المصالحة لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر قبل إمكانية تقديم دعواه. فتساءلتُ عمَّا أعده القانون من إجراءات لإلزام المدعى عليه بالحضور لجلسات الصلح. فأجابتني إحدى القاضيات واسمها “السيدة كوين”، أن القانون قد أوجد قاض للبت في مثل هذه القضايا، ويمكنه أن يحكم على الخصم الذي لا يساهم في جلسات الصلح بغرامة قد تصل إلى خمسمائة دولار أمريكي .. وأن محكمتها الصغيرة استغنت عن هذا القاضي لإقبال المتقاضين على الصلح. وإذا حدث أن تخلف أحدهم، فإن القاضي لا يحكم بأكثر من خمسين دولاراً. وهذا لا يحدث لأن القاضي سيتصل هاتفيا بالمحامي ليستفسره عن سبب عدم إقباله على الصلح، فينتهي الأمر.
كنت أهيئ سؤالا ثانياً أقول فيه : “ما قيمة خمسمائة دولار إذا كان النزاع يتعلق بملايين الدولارات، وأن ضياع ثلاثة أشهر قد يؤدي إلى إفلاس مقاولات وو .. ؟!”. كنت أستحضر ما قد يلجأ له المتقاضون بسوء نية في بلدي. كما كنت أريد أن أسأل وماذا سيحدث لو أن المكالمة الهاتفية بين القاضي والمحامي آلت إلى ما لا تحمد عقباه …؟
فأخذ الكلمة أحد المحامين من الوفد الأمريكي، ليؤكد جواب القاضية. ولكنه أضاف “أنه هو كمحامي يَهُونُ عليه أن يؤدي غرامة خمسمائة دولار أو أكثر من ذلك، على أن يتوصل بمكالمة من القاضية “كوين” .. لما في ذلك من مهانة له كعضو بهيئة الدفاع”.
ابتَلعت لساني، ولم أنْبُس بكلمة .. فمثل هذه الأخلاق ماضية في بلادنا إلى الزوال للأسف.
أقول هذا اليوم، وأنا أتابع ما يقع ببعض قاعات المحاكم، لعل زملائي من القضاة والمحامين يستحضرون البعد الأخلاقي لمهنتي القضاء والمحاماة .. ويستوعبون فلسفة المشرع من جعل المحاماة جزء من مهنة القضاء، فيعيدون بناء من انهدم من جسور الحوار المبني على الاحترام المتبادل، وعلى تغليب قيم احترام القضاء وهيبة مجالسه والوقار اللازم لأعضائه، ونبل مهنة المحاماة وشرفها التليد وقيمها الراسخة، خلال ممارسة مهامهم .. فما زال الأمر ممكناً. الأمر ممكن جداً، بسبب الصحوة المباركة لهيئات المحامين، والتي تطالعنا باستمرار بمواقف مشرفة تنتصر لشرف المهنة وتتشبث بقيمها النبيلة.
ولأن الحديث حول إصلاح أجهزة العدالة ومؤسساتها لا يستقيم دون صراحة ووضوح، فإن دور القضاء جوهري في ذلك، فهو مطالب بإصلاح ذاته وتطهير صفوفه، كما هو مطالب بالمساهمة في تخليق المهن القضائية والقانونية، ودعم مواقف هيئات المحامين الرامية إلى تحقيق ذلك. وهذا التزام من النيابة العامة، ننتظر مناقشته مع جمعية هيئات المحامين بالمغرب، ومساندتهم في تنزيله على أرض الواقع في الحدود التي يسمح القانون للنيابة العامة بممارستها.

زميلاتي زملائي النقباء والمحامين؛
إن معركة التخليق ليست المعركة الوحيدة التي يتعين على المحامين كسبَها، بل إن معارك أخرى أصبح خوضها ضرورة آنية للبقاء والاستمرار. أذكر من بينها معركة رقمنة المهنة واستعمال تكنولوجيا المعلوميات في تدبير شؤونها، ومعركة التخصص الدقيق للمحامين، ومعركة التكوين المستمر واستيعاب المهام الجديدة للمحامين كمهام التحكيم وتحرير العقود والاستشارة والتعاون الدولي والنيابة أمام المحاكم الدولية وأمام لجن حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وغيرها من المستجدات التي تحيل بها الساحة الحقوقية والقانونية. مما لا تسمح الظروف ولا المقام بالخوض فيه بتفصيل. ولكني موقن أنها مواضيع مطروحة باستمرار على هيئات المحامين.
حضرات السيدات والسادة؛
يطيب لي في ختام هذه الكلمة، أن أجدد الترحاب بالسيدات والسادة المحامين العرب، متمنيا لهم مقاماً طيبا بهذه المدينة التي أتمت منذ أكثر من عقدين ألف سنة على تأسيسها سنة 994 ميلادي. والتي يُعْرَفُ أهلُها بشموخ أخلاقهم وكرمهم ووفائهم. وأرجو الله أن يكلل أعمال المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب بالنجاح والتوفيق.
كما أشكر الأستاذ النقيب الحسين الزياني نقيب هيئة المحامين بوجدة على دعوته الكريمة، وأنوه بمبادرة مجلس هيأة المحامين بوجدة لاستضافة هذه الدورة للمكتب الدائم للاتحاد. والشكر موصول لكافة المحاميات والمحامين بوجدة .. وعبرهم لكل النقباء والمحامين الحاضرين لهذه الجلسة.
مع متمنياتي بالتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله.

مشاركة