الرئيسية آراء وأقلام قراءة نقدية للأعمال الأستاذة والفنانة التشكيلية فطيمة الحميدي

قراءة نقدية للأعمال الأستاذة والفنانة التشكيلية فطيمة الحميدي

IMG 20220430 WA0038.jpg
كتبه كتب في 30 أبريل، 2022 - 3:12 مساءً

صوت العدالة : محمد خصيف – فنان تشكيلي وباحث جمالي..متابعة سهام الناصري


“أي عمل فني هو، في النهاية، لغز كبير. في التحليل النهائي، أي تفسير لفظي غير كاف. وأخيرا نبقى في مقدمة العمل بانطباعاتنا “. برنارد مايرز
فطيمة الحميدي أستاذة الفنون التشكيلية وفنانة مغربية، نشيطة وموهوبة، ملتزمة بفنها. فنانة لا تتوقف أبدًا عند الكشف عن أسرار إبداعها من خلال المعارض والملتقيات الفنية والثقافية والكثير من المبادرات المجتمعية. فهي تقف وراء تحقيق مشاريع فنية وازنة، يتردد صداها داخل المشهد الفني الوطني وخارجه.


وأنا أتصفح صور لوحات الفنانة القديرة فطيمة الحميدي، أثارت انتباهي التركيبات المتباينة الغائصة في عوالم من الأخضر المتفاوت الحدة. تعطي التركيبات المتلقي انطباعًا بأنها تواجه لغزًا مجزءًا. إنه انبهار مع ثراء لوني غير متجانس. تتفوق تأثيرات المواد الشفافة في بعض الأحيان على اللون، أكثر من ذلك، على الموضوع نفسه، الذي يمتنع عن إفساح المجال أمام لوحة صارخة، ذات شخصية رصينة، حكيمة في بعض الأحيان.


لم أتواجد بحضور لوحات حقيقية وإنما صور لوحات فقط، وكما قيل الصورة خيالو وخيالو ماشي بحالو. لكن رغم ذلك فهذه الصورة/لخيال كشفت عن سر حركية شديدة القوة عبرت عنها اللطخات التي رُمِي بها بشدة لا توصف وبعنف حاد، عنف يعكس الحالة النفسية المقيدة لحالة الإبداع التي كانت تعيشها الفنانة وقت إنجازها هذا العمل المتميز والأصيل. عمل أصيل من ناحية كونه يتحدى كل عمليات النسخ والتقليد، فحتى الفنانة نفسها، مهما حاولت، لن تفلح في إعادة إنتاج لهذا العمل مثيلا، لأن السياقات التي باتت محيطة بشخصية فطيمة الحميدي لن تكون حاضرة مرة أخرى. فسياقات الإبداع فرصة لا تتحين مرات تلو المرات ولا تتكرر أبدا وقتما شاء المبدع. يجب القبض عليها عند أول فرصة أو ستنفلت إلى الأبد وتترك صاحبها مغمورا في حيرة وشجون أبديين.
اللون الأخضر كما يتم تنفيذه بواسطة إيماءات فطيمة الحميدي ليس ظاهرة موضوعية تنبع من العالم الخارجي المادي، ولكن “في النهاية ظاهرة ذاتية تماما والتي هي فينا”. يصبح اللون هو السمة الوحيدة للوحة، على الرغم من وجود كائنات تحاول ربط التكوين بهوية الطبيعة، فتجعل العمل الفني ينفلت من سجل التجريد المحايد. رغم ذلك نرى أن اللوحات فقدت كل القيمة التمثيلية لصالح القيمة المتأصلة للألوان، والتي تتيح هيكلة العمل وفقًا لديناميكية الإيماءات والتوترات والتضاد.
الخلفيات المتقدة، الملونة بلوحة من الألوان الباردة/الحارة، تتأرجح بين مجموعة من الأزرق والأخضر والأحمر، تثبت حضورها فقط لتأكيد إبعاد الشكل النقي لحساب البقع الرقيقة والدقيقة.

من خلال هذه العملية الإبداعية الحكيمة، تظهر لنا الفنانة عالماً في العالم، ومساحات في الفضاء، وعوالم مصغرة في الكون الكبير. هذا التناقض هو ثمرة حركة مزدوجة من تدمير/ بناء لا تمحى. أحيانا تقوم الفنانة بترقيع المساحة التشكيلية المدمرة بأشكال ورسومات تقترب من التشخيص، ولا توجد بقع حمراء إلا لتُقوي نغمة اللون، وكأنها نقرة نوتة موسيقية. فحضورها لإضافة نغمة صوتية للتكوين ليس إلا. في مواجهة هذا التأثير الغامض والموحي للألوان الذي تجعلنا الفنانة فطيمة الحميدي نواجهه. أحيانًا، أمام بعض اللوحات، نواجه هذه الظاهرة النفسية دون معرفة السبب. علاوة على ذلك، نجد أنفسنا، منغمسين في “عالم روحي، مليء بالأصوات” كما وصفه كاندينسكي.
ظهرت صور ظلية أنثوية، بعد أن تمت إزاحتها من الانتماء الدلالي الأولي، لتجميل، بخوف، التوليفة التصويرية. الصور الظلية حاضرة فقط لتكوين “جهير مستمر للرسم”.
خلال إنجازها لهذا العمل الرائع تعاملت الفنانة مع الخامات بلطف وحس مرهف، رغم عنفوان الضربات، ويبدو هذا من خلال تكدس طبقات الصباغة ذات الشفافية الرقيقة والسائلة، لدرجة أن مجموع الفضاء المكون من الأشكال ذات الطغيان الأخضر يتماهى مع خلفيات القماشة، لدرجة أن العين تحار في فرز المستوى الأول من المستوى الثاني. والجميل أن المبدعة بمهارتها وتقنياتها استطاعت أن تزاوج، بذكاء بين المستويين وتنسج خيوط الحبكة بين العالمين حتى يندمجان فيما بينهما.
إلى جانب اللون الأخضر الأساس تبرز بقوة الإيماءة Gestualité لتشكل مفردة رئيسية في قاموس الفنانة التشكيلي. والإيماءة هي من تمنح للون شدته بحيث يحاول التخلص من برودته. فالإيماءة ترغمه على الشطح… وتكرهه على التشتت والسيلان أحيانا مما يجعل التركيبات تعوم في نوع من الدينامية، تتنقل خيوط نسيجها بالبصر في مجموع أقطار اللوحة، ليتوقف أحيانا عند أشكال مختزلة ومقتبسة بحشمة من الطبيعة. و

هذا دون أن يفقد التركيب وحدته وقيمته المتأصلة التي تتيح هيكلة العمل وفقًا لدينامية الإيماءات والتوترات والتباينات. فالإيماءات القوية هي التي تتحكم في مصير الألوان وتفاعلها مع الأشكال، وتهيمن على التكوين كله. وهذه العملية ربما قد تتجاوز كونها ليست موضوعية تتأسس من وحي عالم خارجي مادي، ولكن “في النهاية ظاهرة ذاتية تماما” تسكن ذوات المبدعة.
تتفوق تأثيرات اللطخات الشفافة المُتحكَّم فيها بضربات الفرشاة القوية، في بعض الأحيان على اللون نفسه، فيتكون بفعل هذا نوع من التباين اللوني على مستوى قيمة اللون la valeur de la couleur مما يحابي تدرجات اللون نفسه. وهكذا تكتسب اللوحة شخصية شديدة القوة، تبعدها عن الركود والملل.
تتأرجح الخلفيات الملونة أحيانا بين حُزم زرقاء تطعمها أخريات سوداء وظيفتها هنا تقوية التضاد اللوني والانعتاق من رماديات الخلفية القاتلة. فلولا اللطخات السوداء لكانت الغلبة للخلفية الصامتة وباتت اللوحة ساكنة ميتة. هذه الحزم الغامقة موجودة في كل مكان لتأكيد إبعاد الشكل النقي / المكرر على حساب المؤثرات الرقيقة والدقيقة. من خلال هذه العملية الإبداعية الحكيمة، تَظهر لنا الفنانة عالماً في العالم، ومساحات في الفضاء، وعالم مصغر (ميكروكوزم) في العالم الكبير (ماكروكوزم). وقد عبرت عن هذا التداخل الكوسمولوجي بكواكب سباحة، ضمنها صورت فيروس كوفيد 19. وهذا بالنسبة لي موضوع عابر في سجلات الفنانة الإبداعية.
في مواجهة هذا التأثير الغامض والموحي للألوان الذي نحن في حضرته، لن نمر دون التلميح إلى “موسيقى الألوان” التي تحدث عنها ديلاكروا في مجلته. علاوة على ذلك، يجد المشاهد نفسه منغمسا في عالم وصفه كاندنسكي ، “عالم روحي، مليء بالأصوات”.

مشاركة