يدخل القانون الجديد للمسطرة الجنائية حيز التنفيذ يوم 8 دجنبر 2025، في محطة تشريعية يعتبرها العديد من المتتبعين منعطفاً حاسماً في مسار تعزيز المحاكمة العادلة وتحديث العدالة الجنائية بالمغرب.
وفي هذا السياق، قدّم وزير العدل الأسبق مصطفى الرميد قراءة مفصّلة في مستجدات هذا النص، خلال ندوة نظّمتها المحكمة الزجرية بالدار البيضاء ووكيل الملك لديها، قبل أن ينشر مداخلته على صفحته بموقع “فيسبوك” تحت عنوان: “مستجدات قانون المسطرة الجنائية على صعيد المرحلة الابتدائية”، والتي بسط فيها أبرز التغييرات التي حملها القانون على مستويات متعددة.
أولاً: توسيع حقوق الدفاع وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة
يرى الرميد أن أهم ما يميز القانون الجديد هو تقوية موقع الدفاع والرفع من ضمانات المحاكمة العادلة، عبر حزمة من المقتضيات من بينها:
- إلزامية إشعار الأطراف بمآل الشكايات:
أصبح وكيل الملك ملزَماً، وكذا الضحية أو المشتكي بالحق المدني عند الاقتضاء، بإشعارهم بالإجراءات المتخذة بشأن الشكايات داخل أجل أقصاه 15 يوماً من تاريخ اتخاذ القرار، مع تمكين المتضررين من التظلّم من قرار الحفظ أمام الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف. - حضور المحامي وتوسيع صلاحياته أمام النيابة العامة:
نصت المادة 74-1 على حق المحامي في حضور استنطاق المتهم أمام النيابة العامة، مع منحه إمكانية:- التماس إجراء فحص طبي على موكله،
- الإدلاء بالوثائق،
- طرح الأسئلة وإبداء الملاحظات بعد انتهاء الاستنطاق،
وهو ما اعتبره الرميد تطوراً نوعياً في تكريس حقوق الدفاع.
- تقييد الوضع تحت الحراسة النظرية واعتباره إجراء استثنائياً:
ضبط القانون حالات الوضع تحت الحراسة النظرية بستة أسباب محددة، مع تأكيد دور النيابة العامة في التحقق من توافرها، بما يعكس – حسب الرميد – إرادة المشرّع في الحد من التوسع في اللجوء إلى هذا الإجراء. - التنصيص الصريح على الحق في الصمت وعدم اعتباره إدانة:
قررت المادة 66-2 الحق في الصمت، ونصت على عدم اعتباره اعترافاً ضمنياً، وهو ما ينسجم مع الضمانات الدستورية، مع إمكانية تعميم هذا المقتضى قضائياً على جميع المشتبه فيهم. - مساعدة قانونية مبكرة للمشتبه فيهم:
بات من حق الشخص الموضوع تحت الحراسة النظرية طلب تعيين محام في إطار المساعدة القضائية، مع تمكينه من الاتصال بمحاميه ابتداءً من الساعة الأولى، دون حاجة إلى إذن مسبق من النيابة العامة، مع إمكانية تأجيل هذا الاتصال في جرائم معينة ولمدة محدودة. - التسجيل السمعي البصري لتصريحات المشتبه فيهم في الجرائم الخطيرة:
استحدثت المادة 66-3 مسطرة التسجيل السمعي البصري للحظات قراءة التصريحات وتوقيع المحاضر أو رفضها، وإن قُيّدت هذه الإمكانية بحالات محددة وجرائم معينة، وهو ما سجّل الرميد عليه بعض الملاحظات لعدم تعميمه على عموم الجنح. - حضور المحامي مع الفئات الهشة:
أقرت المادة 66-4 حضور المحامي خلال الاستماع إلى الأحداث وذوي الإعاقات التي تمس حقهم في الدفاع، مع دعوة النيابة العامة للتحقق من وضعيتهم قبل الإذن بالإجراء. - سجلات إلكترونية للحراسة النظرية:
ألزم القانون بإحداث سجل وطني وجهوي إلكتروني للحراسة النظرية، يمكن للسلطات القضائية الاطلاع عليه عن بعد، بما يضمن تتبع مدد الاعتقال واحترام الحقوق والحريات. - فحص طبي يحمي من ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة:
شدد القانون على عرض المشتبه فيه على الفحص الطبي عند ملاحظة آثار تستدعي ذلك أو بناءً على طلبه أو طلب دفاعه، مع إعطاء الأولوية للأطباء الشرعيين، وربط صحة المحاضر بإجراء هذا الفحص في حالات إدعاء التعذيب، بل واعتبار الاعتراف باطلاً إذا رُفض إجراء الفحص المقترح وفق المقتضيات القانونية.
ثانياً: الإيداع بالسجن، المراقبة القضائية وتقليص مدد الاعتقال الاحتياطي
لفت الرميد الانتباه إلى تحولات مهمة في سلطات وكيل الملك وقاضي التحقيق بخصوص الاعتقال الاحتياطي، من بينها:
- مسطرة الإيداع بالسجن بقرار معلَّل من وكيل الملك في حالات محددة، عندما لا تكفي تدابير المراقبة القضائية أو كان حضور المتهم في حالة سراح يهدد حسن سير العدالة. ويجوز للمتهم أو دفاعه الطعن في هذا القرار أمام هيئة قضائية تبتّ في مدى قانونيته في أجل قصير، مع إمكانية استئناف القرار.
- تقليص أمد الاعتقال الاحتياطي في الجنح إلى شهر واحد قابل للتمديد لمرة واحدة فقط (شهرين كحد أقصى بدلاً من ثلاثة أشهر في القانون القديم)، مع حصر المراقبة القضائية في ثلاثة أشهر (شهر قابل للتمديد مرتين).
- إلزام قاضي التحقيق بتعليل قرار الاعتقال الاحتياطي واعتباره تدبيراً استثنائياً لا يُلجأ إليه إلا عند تعذر بدائل أخرى، مع استحداث تدبير السوار الإلكتروني كصيغة للمراقبة القضائية تحد من حرية الأشخاص دون بلوغ درجة الاعتقال.
- تعريف أدق للمعتقل احتياطياً وفق المادة 618، بما يتماشى مع المعايير الدولية، الأمر الذي سيساعد – حسب الرميد – في إعادة ضبط الإحصائيات وتقليص نسب الاعتقال الاحتياطي إلى ما بين 15 و20 بالمئة من الساكنة السجنية.
ثالثاً: عدالة تصالحية أوسع وتحديث رقمي للمسطرة
يُسجّل القانون الجديد تقدماً واضحاً على مستوى العدالة التصالحية وتبسيط المساطر:
- توسيع نطاق الصلح في الجنح (المادة 41-1):
بات ممكناً اللجوء إلى مسطرة الصلح في الجنح المعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل، وبغرامة لا تتجاوز 100 ألف درهم، أو التي نص القانون عليها على سبيل الحصر، بما يشمل عدداً من الجرائم المالية وجرائم العنف وبعض الجنح المرتبطة بالمعاملات. - إيقاف سير الدعوى أو تنفيذ العقوبة في حالة الصلح أو التنازل:
يمكن للمحكمة وقف إجراءات الدعوى العمومية إذا تنازل الطرف المتضرر في الجنح القابلة للصلح، كما يمكن للنيابة العامة التماس إيقاف تنفيذ العقوبة السالبة للحرية بعد صدور حكم نهائي، إذا حصل الصلح وأديت الغرامات والمصاريف القضائية. - رقمنة الجلسات والمحاضر والأحكام:
أُجيز اعتماد التوثيق التقني للجلسات وتفريغ التسجيلات في محاضر قانونية، مع السماح بالتوقيع الإلكتروني أو الرقمي للمحاضر والأحكام والأوامر، ما يفتح الباب أمام المحكمة الرقمية ومعالجة المحاضر بشكل معلوماتي. - الاستماع عن بعد:
استحدث القانون قسماً خاصاً لاستعمال تقنيات الاتصال عن بعد في الاستماع للمتهمين والضحايا والشهود، في حالات تبرر ذلك، وبعد موافقتهم، مما يسهم في نجاعة الإجراءات ويقلص التكلفة والوقت.
رابعاً: آليات أقوى لمحاربة الجريمة وتعقب عائداتها
على مستوى مكافحة الجريمة، خاصة المنظمة وذات العائدات المالية، حمل القانون الجديد جملة من الآليات:
- عقل العقارات والحجز على الأموال ذات الصلة بالفعل الجرمي بناءً على أوامر مبنية على طلب من وكيل الملك، مع إتاحة الطعن في هذه الأوامر دون أن يكون للطعن أثر موقف للتنفيذ.
- إجراء أبحاث مالية موازية لتتبع مصدر الأموال وعلاقتها بالجريمة، وإمكانية رفع الحجز عن الأموال التي يثبت عدم صلتها بالفعل الجرمي أو تعلقها بحقوق الغير حسن النية.
- توسيع سلطة النيابة العامة في الخبرات التقنية والرقمية:
من خلال الأمر بإجراء خبرة جينية أو بيولوجية، والولوج للأنظمة المعلوماتية، وتحليل الآثار الرقمية واستخراج الأدلة الإلكترونية. - التقاط المكالمات واعتماد وسائل تقنية للتتبع (المادة 108 وما بعدها):
مكّنت المقتضيات الجديدة من التقاط المكالمات والاتصالات عن بعد في الجرائم الخطيرة، وكذا تحديد مواقع المشتبه فيهم ورصد تحركاتهم وتوثيق ما يُتبادل من عبارات وصور في فضاءات معينة، وإن سجل الرميد بعض الملاحظات على الصياغة فيما يخص توزيع الاختصاص بين الوكيل العام للملك ووكيل الملك وقاضي التحقيق. - شرعنة آلية “الاختراق” الأمني:
أجاز القانون لضباط الشرطة القضائية، بإذن من النيابة العامة، التظاهر بالمشاركة في أفعال إجرامية في جرائم معينة لضبط المتورطين، واستعمال هوية مستعارة عند الاقتضاء، وهو ما نظمته المواد 82-3-1 إلى 82-3-6. - التشديد في التحقق من الهوية:
منح القانون لضباط الشرطة إمكانية التحقق من هوية الأشخاص الذين يُشتبه في ارتكابهم جرائم أو يشكلون تهديداً للأمن العام، مع إمكانية اقتيادهم لمقر الشرطة لمدد محددة، وأخذ بصماتهم بما فيها البصمات الجينية بعد إشعار النيابة العامة.
خامساً: مقتضيات مختلفة تُعيد ترتيب المشهد الجنائي والإعلامي
توقف الرميد عند عدد من المقتضيات التي وصفها بـ”الحاسمة” في إعادة تنظيم العلاقة بين المؤسسات والرأي العام، من أبرزها:
- تقييد تحريك الدعوى في جرائم المال العام:
لم يعد ممكناً للنيابة العامة تحريك المتابعات في الجرائم الماسة بالمال العام إلا بناءً على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات أو هيئات محددة بنص قانوني، باستثناء حالة التلبس. - تقييد انتصاب الجمعيات كطرف مدني:
أصبح هذا الانتصاب مشروطاً بالحصول على إذن من وزارة العدل وفق كيفيات ستحدد بنص تنظيمي. - تنظيم تواصل النيابة العامة مع الرأي العام:
منحت المادة 15 للنيابة العامة حق إطلاع الرأي العام على مستجدات القضايا دون المساس بقرينة البراءة أو تقييم الاتهامات، مع إمكانية الإذن للشرطة القضائية بالتواصل الإعلامي بشروط محددة. - إحداث “الناطق الرسمي” باسم المحكمة:
تقرر تعيين قاضٍ أو أكثر للتواصل مع وسائل الإعلام، وقد بادرت رئاسة النيابة العامة إلى إبرام اتفاقية مع المعهد العالي للإعلام لتكوين القضاة في هذا المجال. - حسم وضع الضحايا والمطالبين بالحق المدني:
أكد القانون أن الاستماع إليهم يتم دون أداء اليمين القانونية، كما خفف من شكليات الشكاية مع الانتصاب طرفاً مدنياً، مع ما قد يطرح ذلك من صعوبات في ضبط هوية المتهمين في بعض الحالات. - تشديد شروط بناء القناعة القضائية:
نصت المادة 286 على عدم جواز إدانة متهم بالاعتماد على أقوال متهم آخر وحدها، إلا إذا كانت معززة بقرائن قوية ومنسجمة، في حين أبقت المادة 290 على حجية محاضر الشرطة القضائية مع تغيير عبارة “يوثق” إلى “يُعتد”، بما يفتح الباب أمام اجتهاد قضائي أوسع. - تبسيط المساطر في الأحكام الغيابية وقضاء القرب والأحداث، مع اعتبار استئناف الحكم الغيابي تنازلاً عن التعرض، وتنظيم قضاء المخالفات في إطار قضاء القرب، والتشديد على عدم إيداع الأحداث في المؤسسات السجنية عن الجنح قبل بلوغهم 16 سنة كاملة.
في ختام مداخلته، شدّد مصطفى الرميد على أن القانون الجديد للمسطرة الجنائية يمثل خطوة مهمة نحو عدالة أكثر إنصافاً وفعالية، لكنه ليس نصاً كاملاً، إذ لا يخلو – في نظره – من نقائص وفراغات تشريعية تستوجب المعالجة مستقبلاً، سواء عن طريق الاجتهاد القضائي أو عبر تعديلات لاحقة، من أجل ترسيخ قضاء يحفظ الحقوق والحريات ويصون سمعة الدولة في التزامها بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان

