الرئيسية آراء وأقلام عيد بلا أضاح… وعي يكشف معدن المجتمع

عيد بلا أضاح… وعي يكشف معدن المجتمع

ba6ffe41 a1b3 4665 bcf9 c32f7b2cf991
كتبه كتب في 26 مايو، 2025 - 11:50 مساءً

صوت العدالة :حكيم السعودي

يستعد المغاربة كل سنة لاستقبال عيد الأضحى المبارك بطقوس دينية واجتماعية راسخة في الذاكرة الشعبية يتقدّمها شراء الأضحية كرمز للتضحية والتقرب إلى الله ومشاركة الفقراء والمحتاجين فرحة العيد غير أن هذا العام جاء مختلفًا حيث أصدر صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده توجيهات سامية بإلغاء ذبح الأضاحي من طرف المواطنين على أن يقوم جلالته بصفته أمير المؤمنين بذبح الأضحية نيابة عن الشعب المغربي وذلك مراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها فئات واسعة من المواطنين وحرصًا على ضبط السوق ومنع التهاب أسعار اللحوم.
قرار ملكي يحمل أبعادًا إنسانية عميقة ويعبّر عن قيادة حكيمة ترعى مصالح شعبها خاصة وأن القدرة الشرائية تدهورت بشكل ملموس في السنوات الأخيرة وارتفعت كلفة المعيشة ولم يعد بإمكان الكثير من الأسر توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية فكيف بالأحرى شراء أضحية يتجاوز ثمنها في بعض الحالات 5000 أو 6000 درهم؟ وهو ما دفع جلالته إلى اتخاذ قرار شجاع واستثنائي فيه كثير من الرحمة والواقعية.ورغم وضوح القرار وأهدافه النبيلة إلا أن بعض المواطنين لم يستوعبوا الرسالة العميقة الكامنة فيه وتعاملوا معه بمنطق التحايل والتجاوز. فبدل الالتزام بمضمون القرار ومقاصده وتفادي شراء الأضاحي التي ارتفع ثمنها بشكل جنوني في بداية الموسم رأينا البعض يسلكون طرقًا ملتوية، من خلال شراء أعضاء الأضحية فقط مثل الكبد والرئة والمعدة والأمعاء والكرش بل ويدفعون فيها أضعاف ثمنها الحقيقي وكأنهم يصرّون على التشبث بالشكل دون النظر إلى الجوهر.كيف يُعقل أن يتم شراء “الدوارة” بأربعة أضعاف سعرها المعتاد فقط من أجل الحفاظ على طقس اجتماعي؟ أليس في ذلك استخفاف بالعقل الجمعي؟ أليس هذا نوعًا من الاستعراض المبالغ فيه؟ وهل الفكرة من العيد هي تناول الكبد مشويًا بأي ثمن أم إدراك معاني التضحية والتراحم والمساواة؟ كيف يتحوّل العيد من لحظة للسكينة والطمأنينة إلى مناسبة للتباهي والتبذير؟
بل الأدهى من ذلك أن هناك من سيقوم بذبح الأضحية خلسة وكأن الأمر لعبة تخفي أو محاولة للتمرد على قرار ملكيّ صدر باسم المصلحة العامة. هل أصبحت الاضحية من أجل المظاهر أهم من الامتثال لحكمة القرار؟ ألا يدرك هؤلاء أن في امتثالهم دعمًا للعدالة الاجتماعية ومراعاة للآلاف من الأسر التي ما كانت لتقدر على مجاراة ارتفاع الأسعار؟
لقد كشفت هذه الظاهرة عن تناقض صارخ في سلوك بعض أفراد المجتمع المغربي. ففي الوقت الذي دعا فيه الملك إلى ضبط النفس والتحلي بالواقعية والتعاطف مع الفقراء سارع البعض إلى تحدي الواقع وإثقال كاهلهم المالي فقط من أجل الكبد والكفتّة وكأن العيد لا يُكتمل إلا بها وكأن القيم الدينية والاجتماعية التي يحملها هذا اليوم العظيم لا معنى لها خارج طقوس الشواء.من جهة أخرى يُظهر هذا السلوك غياب الوعي الجماعي والافتقار إلى ثقافة الطاعة المبنية على الثقة لا الخوف وعلى الفهم لا مجرد التنفيذ. فلو أدرك هؤلاء أن القرار يهدف إلى ضبط السوق وحماية القدرة الشرائية والحفاظ على الأمن الغذائي لتجاوبوا معه بكل وعي بدل اللجوء إلى سلوك يُضعف التضامن ويُكرّس التفاوت.بل من المفارقة أن أثمان الأضاحي التي كانت قد بلغت أرقامًا قياسية قد بدأت في الانخفاض تدريجيًا بمجرد إعلان إلغاء العيد. وهو دليل على أن السوق يتحرك بناء على سلوك المستهلكين وأن القرار الملكي كان في جوهره اقتصاديًا بقدر ما هو اجتماعي إذ ساهم في كبح جشع المضاربين ومنع تكرار سيناريوهات أعياد سابقة حيث اضطرت العائلات للاستدانة من أجل شراء أضحية العيد. نحن اليوم أمام امتحان مجتمعي لا يتعلق بالأضاحي بقدر ما يتعلق بالقيم التي نحملها وبالقدرة على ترجمة مشاعر الانتماء والولاء للعرش في مواقف عملية ومسؤولة. الامتثال لقرار ملكيّ لا ينبغي أن يُفهم كتنازل عن فرحة العيد بل كإعلاء لقيم المواطنة الصادقة والحرص على أن لا يشعر أي طفل مغربي بالحرمان فقط لأنه ولد في بيت فقير.إن عيد الأضحى ليس لحظة لاستهلاك اللحوم بل هو يوم للتأمل في معنى الفداء وفي روح العطاء والتقاسم والتكافل. فليتنا نراجع سلوكنا ونتعلم أن الفرح لا يُشترى من الأسواق ولا يُقاس بالكيلوغرامات بل يُبنى في القلوب النقية وفي المجتمعات التي تعرف كيف تُقدّر التضامن فوق المظاهر.
فليكن هذا العام درسًا لنا جميعًا،ك كي لا نكون ممن يتغلب عليهم حب اللحم على حساب قيم الدين ووصايا القيادة. وليكن احترامنا لقرارات جلالته نابعًا من فهم عميق لروح التضامن الوطني لا من خوف عابر من مخالفة شكلية.

وإذا كان البعض قد استهان بجوهر القرار الملكي واختزل العيد في طقس الأكل الشواء فإن الصورة الأوسع تُظهر أن هناك شريحة واسعة من المواطنين خصوصاً من الطبقات الهشة والمتوسطة قد استقبلت هذا القرار بكثير من الارتياح والامتنان واعتبرته التفاتة ملكية نبيلة تُراعي كرامة الإنسان في زمن كثرت فيه الأعباء وتعقدت فيه متطلبات الحياة. هؤلاء أدركوا أن التضحية الحقيقية هي أن نتخلى عن مظاهر كمالية من أجل حفظ توازن المجتمع، وأن نحتفل بالعيد بروح من البساطة والتضامن لا بالتكلف والمنافسة في استعراض اللحوم.ومن خلال هذا الحدث يظهر أن المجتمع المغربي بحاجة إلى مراجعة معمقة لطريقة تعاطيه مع المناسبات الدينية والاجتماعية. فالعيد وإن كان مناسبة دينية لها طقوسها الخاصة فهو أيضًا مرآة تعكس مدى نضج المجتمع ومدى قدرته على الانضباط الجماعي واتخاذ قرارات واعية في أوقات الأزمات. ما معنى أن نُصرّ على شراء الأضحية رغم التحذيرات ثم نشتكي من غلاء الأسعار؟ ما معنى أن نُقدم على الذبح سرًا، بينما البلد بأكمله يسير في اتجاه ضبط جماعي لحركة السوق وتنظيم الحياة الاقتصادية؟
إن ما حدث هذه السنة من مظاهر التمرد الرمزية على القرار، ليس فقط سلوكًا فرديًا معزولًا بل هو تعبير عن أزمة أعمق في الوعي المجتمعي وعن انعدام الثقة أحيانًا بين المواطن و نفسه وهو ما يدعونا إلى التفكير في أساليب جديدة لتحسين الوعي وتعزيز التربية على المواطنة ونشر ثقافة المصلحة العامة بدل النظرة الذاتية الضيقة.

الأمل مع ذلك لا يزال كبيرًا. فكل تجربة صادمة تحمل في طياتها فرصة للنهوض والتصحيح ويمكن القول إن هذا العيد رغم بساطته الظاهرة كان مناسبة للتأمل العميق والعودة إلى الجذور والتذكير بأن القيم الحقيقية لا تُباع في الأسواق ولا تُذبح فوق الفحم بل تُصاغ في تفاصيل الحياة اليومية و في احترام التوجيهات،ك ومراعاة حال الفقير والاعتراف بأن التضامن لا يكون في الخطاب فقط بل في السلوك كذلك. ما نحتاجه هو ثقافة جديدة تعيد تعريف معنى الفرح وتُعلّم الأجيال القادمة أن الأعياد ليست لحظات للأكل فقط بل أوقات للارتقاء الروحي وإعادة بناء الروابط الاجتماعية على أسس العدالة والتراحم. فالفرح لا يكون كاملاً عندما نعلم أن هناك من لم يجد ما يضعه في قدره أو من اضطر إلى الاستدانة أو التنازل عن ضروريات حياته من أجل شراء خروف لا يملك ثمنه.ليكن ما حدث هذا العام بمثابة دعوة للتفكير: هل نريد عيدًا نبني فيه جسور الرحمة أم مجرد مناسبة أخرى نُكدّس فيها اللحم ونتجاهل ما وراءه من معانٍ؟ وهل نريد أن نكون رعايا مخلصين في السلوك لا فقط في المشاعر، نحترم قرارات ملكنا الذي لم يتوقف يومًا عن مراعاة حالنا؟
إن أعظم ما يمكن أن نخرجه من هذا العيد هو درس في المسؤولية والاعتدال والانضباط. فليس بالضرورة أن نذبح أضحية لنشعر بفرحة العيد ولكن من الضروري أن نذبح فينا جشعنا وميلنا إلى المظاهر وحرصنا المفرط على ما لا ينفع. حينها فقط سنستحق أن نقول إننا عشنا العيد بحق حتى وإن لم نشوِ كبدًا ولم نأكل مفتة.

وهكذا لم يكن عيد الأضحى هذا العام مجرد مناسبة دينية ستمر بصمت بل سيكون محطة مفصلية تكشف الكثير من وجوه مجتمعنا بين من التزم وتحلى بالحكمة والمسؤولية وبين من انساق خلف العادة والتباهي رغم وضوح الرؤية الملكية وبعد نظرها. ولعلنا اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى وعي جماعي جديد يُعيد ترتيب الأولويات ويضع القيم فوق الطقوس،ك والإنسان فوق الاستهلاك لأن الأعياد الحقيقية لا تُقاس بما نذبح بل بما نُحيي فينا من تضامن ورحمة وعقل.

مشاركة