بقلم:عشار أسامة
بين جدران عالية وأسوار صامتة، ينبض عالم آخر بالحياة، عالم لا يعرفه الكثيرون، لكنه حاضر في كل رحلة نقوم بها على متن سياراتنا. هناك، في صمت الورشات الكبرى، يقف عمال الكابلاج كجنود خفاء، ينسجون بخيوط نحاسية دقيقة شرايين تسري بها كهرباء المستقبل.
إنهم ليسوا مجرد عمال مصانع، بل مهندسو التفاصيل الصغيرة التي لا تراها العين، لكنها تجعل عجلة الصناعة تدور، والسيارات تنبض بالحركة. كل ضغطة فرامل، كل إشارة ضوئية، كل انطلاقة محرك، وراءها يد خبيرة شدت سلكًا وأوصلت كابلًا، لتصنع لنا أمانًا وسرعة وسلاسة في الطريق.
ورغم أن عملهم يجري خلف أبواب مغلقة بعيدًا عن الأضواء، فإن قصصهم تحمل الكثير من الكدّ والتعب والإصرار. ساعات طويلة من التركيز والدقة، داخل مصانع ضخمة أشبه بخلايا نحل، حيث يتوزع العمال بين خطوط الإنتاج وكأنهم أوركسترا واحدة تعزف سمفونية متكاملة، لا نشعر بها ونحن ندير مفتاح السيارة أو نضغط زر التشغيل.
غير أن الاعتراف بجهودهم يبقى غائبًا في المشهد العام. فبينما تحتفي الشركات بالعلامات التجارية، وتبهرنا الإعلانات بتصاميم السيارات، يظل عامل الكابلاج بطلًا مجهولًا، يكرس وقته وجهده ليضمن لنا راحة التنقل، من دون أن يعرف أحد اسمه أو يلتفت إلى بصمته.
إنهم باختصار: حماة الطريق في صمت. وجنود الظل الذين ينسجون بأسلاكهم خيوط حياة عصرية، لا تتحرك عجلاتها إلا بفضل ما ينسجونه داخل تلك المصانع المغلقة.

