يقوم الفكر العلماني على تمجيد العلم و الاعتراف به،وإقصاء ماعداه،فالمنهج المعترف به علمانيا هو إخضاع جميع الأشياء لسلطة العلم و تجاربه،ونشأت هذه السلطوية العلمية في أوربا استجابة تحررية من سلطة الكنيسة بحمولتها الدينية،فالكنيسة كانت تسيطر على الحياة العامة،وتقدم تصورها للعالم و للقضايا الوجودية بمنطقها الوحيد الذي لا يقبل النقاش و لا الرفض،وهذا ما فسر انخراطها في محاربة العلم و قتل العلماء و محاصرتهم،ولما جاء الفكر التنويري الذي انتصر على نفوذ الكنيسة،وضع العلم موضع السلطان الأكبر الذي يجب الإنصات إليه،وبالمقابل غيب الدين الذي اعتبره سببا للتخلف و الأسطورة.
إذا كانت أوربا حققت قفزة نوعية بالاعتراف بالعلم قائدا للحياة،ووضع كل مجالاتها تحت سلطته،فإن كثيرا من مثقفي العرب تلقفوا المنهج نفسه وحاولوا تطبيقه على دولهم و مجتمعاتهم المسلمة،ولذلك برزت تيارات كثيرة داعية إلى تغييب الدين واعتباره مسألة شخصية،وحملت شعار ضرورة الفصل بين الدين و الدولة.
إن مناصرة العلمانية و قيمها يظهر في جملة من التعبيرات الاجتماعية و الفكرية،حيث يتم استثمار مفهوم الحرية لسب او الاستهزاء بالعقائد الدينية،وفي هذا الاتجاه تناقض الحرية نفسها عندما يتم استغلالها في احتقار الدين،وفي الوقت نفسه تحارب إذا كانت حرية دينية تلخص الولاء للدين و مقدساته،بمعنى أن حال العلماني يقول:”أقول ما أشاء ولكن لا تفعل ما تشاء”،وبالتالي تسقط الحرية في خانة التطرف عندما تصير معولا لآجثتاء قناعات الناس من قلوبهم،وكأن التاريخ يعيدنا إلى معاناة العلم أمام جبروت الكنيسة.
إن تمجيد العلم يقتضي التمحيص القوي في التفاصيل وعدم السقوط في التعميم،فالكنيسة ترمز إلى تيار ديني مسيحي، راكم من خلاله الرهبان ثروة مادية بفضل صكوك الغفران التي تقتضي دفع المال مقابل التوبة ومحو الذنوب،كما ألزموا أنفسهم مكانة متعالية عن باقي الناس،ولذلك نعتوا أنفسهم برجال الدين،أي هم خاصته والمتحدثون بآسمه،ولا شك في أنهم لن ينطقوا إلا بما يقوي قداستهم و مكتسباتهم المادية.
إن رفض التعميم يدفعنا إلى التساؤل عن الاختلاف بين الإسلام وبين الدين الأوروبي الذي آنهزم أمام ثورة العلم،إن الإسلام لم يلغ في يوم من الأيام العلم ولم يحاصر طلابه،بل إن أول آية نزلت كانت بعد تأمل عقلي حائر في قضية الوجود،فجاء الجواب علميا (اقرأ باسم ربك الذي خلق،خلق الإنسان من علق)فالعلقة تسمية علمية للمرحلة الأولى للحياة البيولوجية للجنين،إجابة علمية أخرجت العقل البشري من حيرته،ولا نجد في الإسلام تسمية:رجال الدين،وإنما نجد إطلاق صفة العلماء،فيصير الشرع نفسه متحصلا عليه بالعلم،ويبقى باب الوصول إلى مكانة عالم شرع،مفتوحا في وجه كل من أراد ذلك بعيدا عن الانغلاق الكنسي.
مما سبق يمكن القول بأن العلمانية نبتة أزهرت في صحراء الطغيان الكنسي المسيطر على حياة الناس،ولكن هذه الزهرة لا يمكن أن تقدم حلا لسحب الإسلام من الحياة العامة و علمنتها،لأن الإسلام أصلا انتصر للعلم أكثر من العلمانية.
طارق مرحوم
سفر المفاهيم وإشكالية التطبيق
كتبه Aziz Benhrimida كتب في 8 يونيو، 2020 - 3:41 صباحًا
مقالات ذات صلة
16 يناير، 2025
محمد عبد النبوي: رمز العدالة والإنسانية في قيادة السلطة القضائية
بقلم عزيز بنحريميدة محمد عبد النبوي، اسم يجسد المعاني السامية للقضاء المغربي والنزاهة المهنية، ارتبط بعهدٍ جديد من العدل والمسؤولية [...]
13 يناير، 2025
حين يضيق الأفق في مرآةٍ واسعة.
بقلم…معاذ فاروق هناك، في صمت اللحظات الثقيلة، حيث يتصارع الضوء مع امتداد الظل، تبدو الحياة كأنها ساحة لصراع أزلي لا [...]
13 يناير، 2025
فرنسا والجزائر، قضية المؤثرين،القشة التي قسمت ظهر البعير.
بقلم..عبد السلام اسريفي/ رئيس التحرير فبعدما كان يتعلق بـ”خلاف سياسي” حول موقف باريس المستجد من قضية الصحراء المغربية ومقترح الحكم [...]
12 يناير، 2025
قد نختلف.. لكن لماذا ؟؟
بقلم…محمد الموستني قد يعجز الافراد عن اداره الاختلاف في مجتمعات ينتمون اليها وتفتقد التعدديه التي تعتبر رافدا من روافد الديمقراطيه، [...]