حدود التفاعل  بين حرية الإعلام و استقلال القضاء بالمغرب ـ الواقع و الطموحات

نشر في: آخر تحديث:

من إعداد: أشرف بوكنزير / صحفي طالب باحث بماستر المهن القانونية والقضائية بمدينة طنجة

 تلعب وسائل الإعلام بالمغرب دورا مؤثرا في كافة مظاهر الحياة المعاصرة، لاسيما في ظل التطور المذهل لوسائل التواصل والاتصال، الذي عرف انتعاشة قوية،  بعد الإعلان عن اتساع دائرة انتشار وباء كوفيد 19، وما خلفه ذلك من تدفق هائل للمعلومات، بفعل السيرورة المتسارعة والمتواصلة لثقافة العولمة، والزخم الكبير لمفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة، لينتزع الإعلام بذلك صفته كسلطة رابعة، ويؤكد حضوره بالملموس كقوة مؤثرة حقيقية وفاعلة في تشكيل الرأي العام الداخلي و الدولي.

هذا، وقد انتقلت وسائل الصحافة والإعلام من مجرد أداة لإيصال المعلومات أو الخبر إلى نموذج لحرية الرأي والتعبير، ومقياسا لمدى رسوخ مبادئ الحرية و الديمقراطية في الدولة من عدمه، و شريكا أساسيا في توعية المواطن، وفي العملية التنموية بصفة عامة.

و تزايد اهتمام وسائل الإعلام على اختلاف مكوناتها، بالقضايا المعروضة بين أروقة المحاكم، وأصبح بإمكان المواطن متابعة مجرياتها دون أن يكلف نفسه عناء الانتقال إلى قاعات الجلسات، خصوصا وأن هنالك كوكبة من المواقع والصحف تعمد إلى نشر كل جديد يتعلق بوقائع إجرامية أو محاكمات جنائية بأسلوب يهدف أساسا إلى الإثارة و التشويق.

وعمل المغرب على وضع ترسانة قانونية منظمة لمجال الإعلام بدءا بإحداث الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وإنهاء احتكار الدولة في ميدان البث الإذاعي و التلفزي، مرورا بإصدار القانون رقم 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري.

هذا، بالإضافة إلى مدونة الصحافة والنشر التي تشمل حسب المادة الرابعة منها، هذا القانون، و القانون رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين، والقانون 90.13 المتعلق بالمجلس الوطني للصحافة، والقانون رقم 31.13 المتعلق بالحق في الحصول على المعلومات لسنة 2018.

ويهدف المشرع المغربي من خلال هذه الترسانة التشريعية، إلى إصلاح مخلفات  القوانين السابقة التي كان لها تأثير سلبي على مستوى الواقع العملي، لعدم قدرتها على مواكبة تطورات العصر الحالي والمجال الصحفي، الذي أضحى يعتمد على وسائل رقمية حديثة ومتقدمة، وذلك أيضا نظرا للغاية التي يحظى بها العمل الصحفي من لدن الأجهزة الرسمية و المجتمع المدني،والنابعة من الدور النبيل الذي يقوم به الإعلامي داخل المجتمع، من توجيه السياسات العمومية للبلاد، وممارسة الرقابة على القائمين بالشأن المحلي، والمساهمة في توجيه الرأي العام، والتأثير  في ضمير الجماهير، وخدمة الحاجات الوطنية والإنمائية للمجتمع، بل وأحيانا إثارة بعض القضايا كانت منذ زمن قريب محظور التطرق إليها، وهي لازالت بين أسوار المحاكم.

وقد ساهم الانتقال الرقمي الذي يعانقه العالم ومعه المملكة المغربية،  في إبراز حدود الأهمية التي تحظى بها وسائل الإعلام، إذ بقدر ما تمتلكه الدولة من إعلام قوي ومقنع، بقدر ما يساهم في تعزيز موقع الدولة في المستقبل، ولا يمكن أن نلامس ذلك إلا بتوفير قدر من الحرية، التي يمكن من خلالها عرض الآراء و الأفكار المختلفة و المتباينة حول القضايا التي تمس الفرد و المجتمع، وذلك لأن الإعلام أضحى شريكا رئيسيا في ترتيب الأولويات.

و إذا كان النشر الإعلامي في نظر بعض الممارسين، قد يعكس جانبا إيجابيا من خلال فرضه لنوع من الرقابة الشعبية على العمل القضائي و إضفاء المزيد من الشفافية على الممارسة القضائية، والحرص على تمتيع من يخضعون للمحاكمة بجميع  حقوقهم وفضح أي خرق لها، إلا أنه قد يكشف أحيانا أخرى عن جوانب سلبية كثيرة، تتجسد بشكل صريح، في التأثير على استقلال القضاء و انتهاك مبدأ البراءة، والمساس بمبدأ مقدس والمتمثل في احترام الحياة الخاصة للأشخاص، علاوة على خرق مبدأ سرية البحث والتحقيق و المحاكمة.[1]

يعتبر الإعلام والقضاء  معا صفوة المجتمع وحماة الحقوق والحريات، إذ لا يمكن تصور قيام دولة القانون والحريات، دون التوفر على جهاز قضائي مستقل، ووسائل إعلام حرة ومهنية ومستقلة، لأن الحديث عن عن سيادة القانون و إرساء أسسها وفعاليتها عمليا، لا يتم بمجرد المصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، بل يحتاج إلى آليات مؤسساتية وبرامج و استراتيجيات تساعد على تحقيق ذلك، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بتضافر جهود مختلف المؤسسات بغية تحقيق التفاعل الإيجابي بين وسائل الإعلام و السلطة القضائية.

إن تناول العلاقة و حدود التفاعل بين القضاء و الصحافة في الظرف الراهن، يشكل خوضا في موضوع آني أصبح مادة يومية في وسائل الإعلام، لاسيما و أنهما يعتبران من بين الأعمدة الأساسية للمجتمعات الديمقراطية والمقومات الضرورية التي لا غنى عنها لبناء  دولة سيادة الحق و حكم القانون، لارتباطهما بحقين كفلتهما الشريعة الإسلامية السمحة، والمواثيق الدولية على نطاق واسع، وهما إقامة العدل و حرية التعبير.

هذا، وتعد جدلية حرية الإعلام و استقلال القضاء من بين المواضيع الشائكة في الحقل القانوني، فلا شك أن حرية التعبير وحق الأشخاص في الحصول على المعلومة، يعتبران من أهم الحقوق التي كرستها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، غير أن ممارسة الحقين المذكورين في مجال العدالة، قد يصطدم بضمان مبدأ حياد السلطة القضائية وحماية سرية البحث والحياة الحميمية للأفراد من جهة، وقد يكون له تأثير من جهة أخرى على استقلال القضاء الذي قد يتضرر من ممارسة التأثير الإعلامي.

في هذا الإطار، و استرشادا بمضامين الرسالة الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، الموجهة إلى أسرة القضاء بمناسبة افتتاح المجلس الأعلى للقضاء أبريل 2004 [2]، فإنه يتعين في البداية التنويه بالفوائد الجمة عما توليه الصحافة من اهتمام بالقضاء، الشيء الذي يعكس بجلاء الدور الذي تنهض به السلطة القضائية داخل المجتمع.

لذا، فإن استقلال القضاء ليس منة أو امتيازا للقضاة، بل هو مسؤولية و تكليف، تترتب عنه في مواجهة القاضي التزامات تطوقه بواجبات حماية حقوق الناس و ممتلكاتهم، و لا يمكن حماية حقوق الإنسان دون وجود قضاء مستقل، و شرع هذا المبدأ من أجل حسن سير العدالة، وضمان المحاكمة العادلة، وتحقيق الأمن القانوني و القضائي، في إطار مقاربة شاملة  تتجاوز مسببات التنافر بين منظومتي العدالة و الإعلام.

في هذا الإطار، يمكن القول، أن القضاء و الإعلام يشتركان في حماية القيم الديمقراطية والعدالة والإصلاح وهما في خدمة المواطن، فالأول يحمي الحقوق والحريات، الثاني يوجه إلى الإصلاح ويرصد التفاوتات و الاختلالات، من أجل تكريس ثنائية الحقوق والحريات والواجب والالتزام بهما كثقافة مجتمعية، وذلك انطلاقا من كون أن لا ديمقراطية دون قضاء مستقل وإعلام حر و نزيه، إلا أنه لم يعد اليوم مستساغا ولا ممكنا، أن تشتغل العدالة في أجواء محاطة بالتكتم، وفي هذا الإطار يظهر دور الإعلام في دعم وتحصين العمل القضائي.

وفي نفس السياق، عنيت الدساتير الوطنية، و كافة والمواثيق الدولية، بالتأكيد على وجود قضاء مستقل لكونه الضمانة الأساسية لدولة سيادة القانون، تحقيقا للعدالة بين الناس، فقيام القاضي بأداء مهامه حرا مستقلا في أحكامه وقراراته، هو أكبر ضمانة لحماية الحقوق العامة والخاصة، واستقلال القضاء ،هو الشعار الذي يرتفع على كل المعاني الخالدة التي تسمو بها السلطة القضائية ، فهو عنوان أساسي لحريات الأفراد وحقوقهم.

غير أنه من الملاحظ، أن مقاربة الإعلام والقضاء تظهر مبدئيا متباعدة، سواء من حيث المنظور أو المهام، مما يستدعي ضرورة بناء جسور التقارب من خلال وجود قضاء متخصص في الإعلام،  وإعلام متخصص في شؤون القضاء، لاسيما في ظل تعدد الترسانة القانونية المتعلقة بالإعلام، حيث أن هناك مقتضيات ضمن ظهير الالتزامات والعقود وأخرى في القانون الجنائي، وهناك قرارات صادرة محاكم إدارية أو تجارية بخصوص المقاولات الإعلامية، وهنا تظهر أهمية العمل بشكل تشاركي للوصول إلى “مدونة للتشريع الإعلامي” تجمع كل المقتضيات الموجودة بهذه القوانين.

إن الواقع، لا يلغي وجود استثناءات قليلة من التعاطي الإعلامي الجاد والمتّزن والمسؤول لمقاربة وتغطية أحداث وموضوعات حقوقية وقانونية بدأت تبرز في الفترة الأخيرة بفعل جهود صحافيين ومراسلين أرادوا كسر النمط السائد والخروج بقصص صحافية تحترم أخلاقيات المهنة، وتعكس وجود ثقافة ومعرفة حقوقية وقانونية لدى معدّ التقرير أو التحقيق أو القصّة، لكنها تبقى مبادرات وحالات فردية لا تشكّل ظاهرة عامة في الإعلام المغربي[3].

و بغض النظر عن كل هذه الاستثناءات، فإن النظرة القضائية تجاه التغطية الإعلامية لشؤون القضاء أو لقضايا إنسانية و حقوقية، ترى أن التداول حول قضية معينة هو بمثابة تدخل في عمل القضاء، مما سيؤثر على عمل القاضي، وسيضعه أمام ضغط لن يسمح له الحكم بما يقتضيه القانون من استقلالية وحياد و تجرد و نزاهة.
إن  التناقض بين الاستخدام الإعلامي والتحقيق الذي يجري بين أروقة القضاء، هو كذلك بمثابة تعارض بين الشفافية الإعلامية و استقلالية القضاء، وبين السرد الإعلامي و السرد القضائي.

أما الفرق الأساسي يتمثل بالخيار السردي للصحافي، كونه يتعلق بالعاطفة و الانفعالات خصوصا تجاه الضحية ضمن منهج سردي انفعالي عاطفي، في حين أن القضاء يبقى في مسافة محايدة ولا ينخرط بانفعالات و منهجيات تنطلق من المشاعر.

عموما، فإن التفاعل بين وسائل الإعلام و القضاء يغدوا أكثر تعقيدا عندما تغطي وسائل الإعلام المناقشات القضائية، فالجمهور يعول بالضرورة على وسائل الإعلام في إخباره بمجريات المحاكمات، ومن  جهة أخرى، فإن وسائل الإعلام تساهم من خلال تعاليقها في مراقبة المحاكم، وذلك بإبراز إجراءاتها، والجمهور يمكنه، بفضل المعلومات التي تبلغها إليه وسائل الإعلام، مراقبة سير الجهاز القضائي، و اكتشاف مواطن الخلل والنقص، فمساهمة الجمهور يمكن أن تؤدي إلى تحفيز ثقته في الجهاز القضائي و الرفع منها[4].

إن ضمان التفاعل الإيجابي  إذن، بين منظومة الإعلام بتنزيلها السليم لحرية التعبير،  ومنظومة العدالة بمبادئها السامية وعلى رأسها الاستقلالية والحياد والتجرد، يقتضي إيجاد أفضل السبل، واتخاذ كافة الضمانات لتحقيق الموازنة بين حرية الإعلام وبين حق الرأي العام في معرفة مجريات الأمور، و كذا احترام حدود و ضوابط هذا الحق، بما يضمن استقلالية القضاء، والمحاكمة العادلة ، واحترام حقوق الأفراد، ولن يتحقق ذلك إلا في إطار مقاربة شمولية تتجاوز مسببات التنافر بين المنظومتين، وتتجاوز الصعوبات المطروحة

استنادًا على هذه الإشكالية يستوعب القضاء حاليًا، ضرورة إيجاد المعادلة الإيجابيّة في تعاطيه مع الإعلام بحيث يُعيد النظر في صمته وطبيعة وَلَعِهِ بالسكون، لكي ينفتح ضمن حدود على الشفافية الإعلامية، ولكي يتمّ ذلك بنجاح، ثمة حاجة ملحّة لتحديد الضوابط الأخلاقيّة والسلوكيات المهنية التي تؤمّن للقضاء حماية مساره بقدر ما تبادل الإعلام بشفافية دنيا كافية لإستنباط الترياق الشافي لضبط التواصل شرط ألا يُسبّب قَمْعه، ولتواصل القضاء بلا تعريض حصافته وسعيه لإحقاق الحقّ والعدالة [5].

إن تحديد العلاقة في إطار حرية الإعلام بعيدا عن دائرة الشبهات ودون النيل من هيبة القضاء، يحتاج إلى أطر واضحة لاستمرارية عمل سلطة الإعلام و تفعيله، وذلك عبر الطرح الإعلامي الهادف والايجابي المتوازن، فهذا التفاعل سيكون خير حافز في ترسيخ مفاهيم العدالة وإذكاء روح الحياد في العمل الإعلامي، وحتى يؤدي الإعلام دوره الفاعل المنتظر منه لإيصال الحقيقة للمتلقي في الوقت المناسب وكشف الممارسات الخاطئة والتصدي لها، فنحن بحاجة إلى ضبط العلاقة بين الإعلام والقضاء وذلك في حدود عدم الوقوع في دائرة التشكيك في موضوعية القضاء أو هيبة القضاة ودون الاشتغال بتوجيه الرأي العام لخدمة أغراض غير مشروعة.

 تبقى الصحافة عموما، والصحافة  الإلكترونية في المغرب على وجه الخصوص  – وهي حديثة العهد – بالرغم من دورها في الرقابة غير المباشرة على الشأن القضائي، تفتقر في الكثير من الأحيان للاحترافية والمهنية بسبب ضعف التكوين وتدني مستوى القيم لدى غالبية الممارسين، الذين يلهثون وراء السبق الصحفي والرفع من عدد المشاهدات التي تدر عليهم أموالا طائلة، ضاربين عرض الحائط المبادئ الدستورية من قبيل قرينة البراءة و عدم المس بالحياة الخاصة للأفراد ، بمعنى أن الصحافة الإلكترونية جعلت من الشارع فضاء لمحاكمات شعبية، بدل قاعات الجلسات بالرغم من وجود رقابة قضائية وإدارية على القطاع تتضمن عقوبات تأديبية وزجرية ومدنية بمدونة الصحافة والنشر.

غير أننا نؤكد على أهمية العلاقة التكاملية في القضاء والإعلام المبنية على احترام متبادل ووفق أسس معتمدة، و لابد من الاجتهاد في تنظيمها داخل أي بلد يسعى إلى الديمقراطية، خاصة وان استقلالية الإعلامي والقاضي تشكل ضمانة لسيادة دولة الحق والقانون وتحقيق المصلحة العامة[6] .

جدير بالذكر، أن نشر معلومات بخصوص إجراءات قضائية قد يثير تنازعا بين حرية التعبير وحق الأطراف في محاكمة عادلة، وإذا أردنا بيان الحد الفاصل بين هذين المبدأين بدقة، سوف يتعين أن نحدد بوضوح ما يجب أن يكون عليه مضمون الإخبار حول المناقشات القضائية.

و لا يختلف اثنان حول دور الإعلام والصحافة – بمختلف مشاربها – في الرقابة على نشاط السلطة القضائية، إذ أن المعلومة القضائية ، وإن كانت تدخل في نطاق المعلومة المحمية دستوريا على مستوى الوصول والحصول عليها، فإن طبيعة المعلومة القضائية واحتراما لبعض المبادئ الدستورية الأخرى كقرينة البراءة وعدم المس بالحياة الخاصة للأفراد ، يجعل من الحق في الحصول على المعلومة القضائية حقا مقيدا وليس مطلقا، وهو الأمر الذي لا يعيه جيدا الكثير من ممارسي العمل الصحفي لا سيما في حقل الصحافة الإلكترونية التي تتميز عن غيرها من باقي أنواع الصحافة الأخرى بسرعة نقل الخبر والمعلومة القضائية بداعي السبق الصحافي في تجاهل تام لأغلب المبادئ التي تقوم عليها المحاكمة الجنائية العادلة وفي مقدمتها قرينة البراءة باعتبارها الأصل[7].

كما هو معلوم، أن المحاكمات تكون على وجه العموم علنية، لكونه مبدأ قائم و محقق،وحتى لو لم يتم تطبيقه في كل مكان، وفي جميع المساطر القضائية، فإن هذا المبدأ قاعدة قانون يجد تحليل تبريرها في كل نقاش يحاول الإحاطة بحدوده، ومن جهة أخرى، فإن القانون لا يلتزم موقفا محايدا فيما يتعلق بمسألة معرفة ما إذا كان على وسائل الإعلام أن تنقل ما يجري داخل أروقة المحاكم، بل إن موقفه إيجابي على العكس من ذلك، فتغطية الإجراءات القضائية تمتاز بإعطاء من ينجزونها امتياز البقاء بمنأى عن المتابعات من أجل التشهير، إذ أن التخوف من المحاكمة من أجل التشهير يشكل رادعا جديا لحرية التعبير.

و من خلاله، فإن نشر المعلومات بخصوص الإجراءات القضائية قد يثير تنازعا بين حرية التعبير والحق في المحاكمة العادلة، وإذا أردنا تبيان الحد الفاصل بين هذين المبدأين بدقة، سوف يتعين أن نحدد بوضوح ما يجب أن يكون عليه مضمون الإخبار حول المناقشات القضائية قبل تأمين حمايته[8].

بقدر ما لهذه العلاقة التفاعلية بين القضاء والإعلام من تأثيرات إيجابية، خاصة على مستوى مساهمة الإعلام في تنوير الرأي العام حول بعض القضايا التي تثير انتباهه أو توفير معطيات هامة لمراقبة مرفق العدالة وحسن سير إدارته، فإن الممارسة اليومية تكشف العديد من مظاهر التأثير السلبي للإعلام على منظومة العدالة، من قبيل نشر معلومات مفصلة عن بعض القضايا التي لازالت في طور البحث أو التحقيق، أو نشر صور وبيانات الأشخاص، بشكل يمس بمبدأ قرينة البراءة وضمانات المحاكمة العادلة، أو استعمال عبارات قانونية في غير محلها من قبل الإعلاميين عند تغطية بعض القضايا، أو عدم احترام بعض الضوابط القانونية المفروضة بهذا الخصوص[9] .

إن تطوير الأداء المهني للإعلاميين العاملين في مجال القضاء يتطلب تكوينهم وتأهيلهم وكذا احتكاكهم بالجهات المعنية في إطار مؤسساتي بغية تنمية المعرفة القانونية والحقوقية لديهم، ومن أجل تفادي بعض الأخطاء غير المقصودة على الوجه الأعم والتي يكون سببها في الغالب انعدم الثقافة القانونية لدى الصحافي في ظل غياب التكوين والتكوين المستمر.

إن دور الصحافة في تنبيه العقول وشحذ الهمم والتعاون مع المؤسسات الوطنية، خصوصا مؤسسة القضاء، لا يتم إلا من خلال عدم خضوع وسائل الصحافة لأي جهة كانت، ماعدا القانون والقضاء، فتحترم أحكام القانون المؤكدة للمصالح التي قدر المشرع أهميتها فأضفى عليها حمايته، وتخضع في ذلك لرقابة القضاء الذي يضمن بنزاهته وعدالته أمرين متقابلين لا غنى عنهما لتحقيق الصالح العام، وهما عدم خروج الصحافة عن إطار المشروعية، وكف يد الإدارة عن المساس بحرية الصحافة[10]

إن هذا الدور الإيجابي للإعلام من خلال تغطيته للمحاكمات من كافة جوانبها، ونشره لمزيد من الوعي و تطوير منظومة العدالة، مسألة لا يمكن إلا تثمينها والمطالبة ببذل جهود مضاعفة لتحسين ظروف عملها وتطوير آلياتها.

لعل الصراع بين القضاء و الإعلام، يدعو جميع الباحثين والدارسين و المهتمين، بضرورة وضع تصور للدراسة والتحليل، لأن العلاقة بينهما علاقة تكاملية، فكل يكمل الآخر، من خلال تصديهما للتجاوزات و إبرازهما لمكامن القصور، و يعملان على تقويم السلوك، حيث أن الإعلام يفضح التجاوزات و الانحرافات، والقضاء يضع مواد القانون التي من شأنها معاقبة مرتكبي هذه التجاوزات، ومن خلاله، يظهر جليا من هذا أن الإعلام هو عين القضاء، و القضاء هو اليد الطولى للإعلام، والصراع بينهما يؤدي إلى نتائج وخيمة.

فالإعلام يقوم بنشر و دعوة الأفراد إلى ممارسة حقوقهم و واجباتهم، و جعلها ثقافة الأفراد والمجتمع، بينما القضاء يعمل على حماية هذه الواجبات و الحقوق في إطار قانوني، يمنع التعدي على الحياة الخاصة أو المصلحة العامة أو الإخلال بالأمن العام و المبادئ و القيم المتعارف عليها في المجتمع و بين دول العالم.

غير أنه يظهر عدم وجود تناسق في الإطار القانوني الذي ينظم العلاقة بين الإعلام و القضاء، حيث جاءت بعض الأحكام متعارضة في الوصول للغاية التي وضعت من أجلها. كما أن هناك غموض ينطوي على كثير من الأحكام القانونية، حيث يظهر هذا بشكل خاص في التأثير على أحكام القضاة، و كذلك التقليل من شأن الأحكام القضائية، اللتان يصعب تحديد مجال تطبيقهما.

هذا ما يجعل مسألة التكامل بين الإعلام و القضاء غائبة، و يسود التشكيك بين الطرفين ربما يعود السبب في ذلك إلى ضغوط مراكز القوة و أصحاب المصالح الشخصية، و لهذا السبب أصبح الإعلام و القضاء في بلادنا يضيقان ببعضهما البعض، مع أنه من المعروف أن الديمقراطية لا تتحقق و لا يمكن لدولة الحق و القانون، أن تقوم إلا بتعاون القضاء و الإعلام.

و لإيجاد التوازن بين القضاء و الإعلام، يجب ضمان حصانتهما لأن حماية القضاء، هي حماية لقرينة البراءة و حرمة الحياة الخاصة و ضمان محاكمة عادلة أمام قضاء محايد، كما أن احترام الإعلام لهذه الحقوق هو من الواجبات الأخلاقية للإعلاميين، و تحقيق إعلام موضوعي و بناء، يساهم في تحقيق العدالة من جهة و يحمي الإعلاميين من جهة أخرى من أي تأثير خارجي، يشكك في نزاهتهم المهنية.

والإعلام أيضا بقدره أهميته في التأثير على الرأي العام، فإنه في المقابل، يتوجب على نساء ورجال الصحافة التمسك بأخلاقيات المهنة، واحترام قدسية العمل القضائي، مع ضرورة الحفاظ على التوازن عند التعامل مع السبق الصحافي، حتى  لا تفقد المهنة هدفها وتتحول لمجرد وظيفة، كما أنه من المهم جدا، أن تلتزم السلطة القضائية بمد جسور التعاون والتواصل مع المؤسسات الإعلامية وتنوير الرأي العام دون المساس بالسرية التي تقتضيها القضايا التي تناقش بين أروقة المحاكم المغربية على اختلاف درجاتها.

المراجع المعتمدة:

ـ الرسالة الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، الموجهة إلى أسرة القضاء بمناسبة افتتاح المجلس الأعلى للقضاء أبريل 2004

ـ  ملخص المؤتمر السنوي الأول المنعقد بلندن من طرف المنظمة العربية لحرية الصحافة خلال الفترة الممتدة بين 1ـ3 ماي 2002، حول موضوع الصحافة من أجل الديمقراطيةـ التحديات السياسية و القانونية في العالم العربي،

ـ الإعلام والسلطة القضائية، منشورات مركز التوثيق والإعلام والتكوين في مجال حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، فبراير 2004،

ـ مصطفى الرميد، مداخلة على هامش ندوة حول دور الإعلام في إصلاح المظومة القضائية، يوم الخميس 23 أكتوبر 2014

ـ عبد العزيز وقيدي، حرية الصحافة و تأثيرها على المحاكمة الجنائية، مقال منشور بمجلة الودادية الحسنية للقضاة، العدد الثاني، نونبر 2010، ص 51

ـ رمزي  النجار، الفصل الرابع من كتاب “الحركة والسكون – الإعلام والقضاء، صادر حديثا عن “دار نوفل، بدون تحديد الطبعة

ـ بتول خليل،   الإعلام و القضاء، سبق ولعب وجهل وحب،  مقال منشور بمجلة المدن الالكترونية، بتاريخ 20ـ11ـ2017

ـ يونس العياشي، دور الإعلام في عدالة المحاكمة الجنائية

ـ The Right To Attend Criminal Hearings,Colum » L,Rev,N 78, Par,1308 a 1314, (1978) , “Trial Secrecy and the First Ammendment Right Of publiv Acess to Judicial Proceeding”>, Harv,L,Rev, N 91, 1899 et 1902 a 1904 (1978)

[1]  عبد العزيز وقيدي، حرية الصحافة و تأثيرها على المحاكمة الجنائية، مقال منشور بمجلة الودادية الحسنية للقضاة، العدد الثاني، نونبر 2010، ص 51

[2]  من بين ما جاء في الرسالة الملكية : “… و إدراكا منا بأن التزام القضاة بمسؤوليتهم الجسيمة في جو من الاستقلال التجرد و الوقار لا يحرمهم من التعبير عن آرائهم البناءة كقوة اقتراحية لإصلاح القضاء…”

[3]  بتول خليل،   الإعلام و القضاء، سبق ولعب وجهل وحب،  مقال منشور بمجلة المدن الالكترونية، بتاريخ 20ـ11ـ2017

>The Right To Attend Criminal Hearings,Colum » L,Rev,N 78, Par,1308 a 1314, (1978)

4  “Trial Secrecy and the First Ammendment Right Of publiv Acess to Judicial Proceeding”> Harv,L,Rev, N 91, 1899 et 1902 a 1904 (1978)

[5]  رمزي ج. النجار، الفصل الرابع من كتاب “الحركة والسكون – الإعلام والقضاء”، ادر حديثا عن “دار نوفل”، بدون تحديد الطبعة، ص 15

[7] يونس العياشي، دور الإعلام في عدالة المحاكمة الجنائية، مقال منشور بالموقع الالكتروني مغرس، بتاريخ 31ـ03ـ2021

[8]  الإعلام والسلطة القضائية، منشورات مركز التوثيق والإعلام والتكوين في مجال حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، فبراير 2004، ص 16

[9]  مصطفى الرميد، مداخلة على هامش ندوة حول دور الإعلام في إصلاح المظومة القضائية، يوم الخميس 23 أكتوبر 2014ب الرباط،

[10]  مقتطف من المؤتمر السنوي الأول المنعقد بلندن من طرف المنظمة العربية لحرية الصحافة خلال الفترة الممتدة بين 1ـ3 ماي 2002، حول موضوع الصحافة من أجل الديمقراطيةـ التحديات السياسية و القانونية في العالم العربي

اقرأ أيضاً: