حين تُطرح فكرة أن أسلوبي في الكتابة بات مكرراً، أجد في هذه الملاحظة نقطة انطلاق للتأمل لا للجدل. التكرار، كما أفهمه، ليس استنزافاً أو مللاً، بل هو أداة فلسفية وجمالية تعيد تشكيل العلاقة بين الفكرة والقارئ. إنه أسلوب يوازي في عمقه دورة الحياة نفسها: كل يوم يتكرر الشروق، وكل عام تتكرر الفصول، لكن من يمعن النظر يدرك أن كل لحظة في هذا التكرار تحمل تفاصيل مختلفة، ونبضاً جديداً يميزها عن سابقاتها.الكلمة ليست مجرد أداة جامدة. إنها كائن حيّ، تنبض بحياة متعددة الأوجه. حين أكرر كلمة في نص، فإنني لا أستعيدها بمعناها الأحادي، بل أستدعي عمقها، وأمنحها وجوهاً أخرى تتألق في سياق مختلف. الكلمة الواحدة قادرة على أن تكون شمساً في موضع، وظلاً في موضع آخر. إنها حمالة أوجه، تنبض بتفاصيل تتكشف للقارئ الذي يقرأ بعين التفكر لا بعين العجلة.ولعل التكرار الذي يصفه البعض بأنه “إعادة” ليس سوى محاولة لإعادة النظر في الفكرة من زوايا مختلفة. إن الفكرة العميقة لا تُدرك من ضربة واحدة، بل تحتاج إلى دوران مستمر حول محورها. أليس الفلاسفة أنفسهم يعيدون طرح السؤال ذاته مراراً، لأن الحقيقة لا تُستنزف، بل تزداد وضوحاً مع كل تكرار؟ أليس الشعراء يكررون الكلمات في قصائدهم، لأن الإيقاع وحده يستطيع أن يلامس الروح؟أما عن ملاحظات البعض بأن أسلوبي أصبح “معروفاً”، فإنني أجد في هذا ما يثير التأمل بعمق أكبر. أليس هدف أي كاتب أن يُخلق له صوتاً يميزه عن الآخرين؟ أن تصبح له بصمة لا تُخطئها العين؟ إذا كان أسلوبي بات يُعرف قبل أن يُذكر اسمي، فهذا هو الغاية التي يسعى إليها كل كاتب يحمل هماً فكرياً وأدبياً. الهوية الأدبية ليست تكراراً للذات، بل هي بناء مستمر لهوية يتعرف عليها القارئ حتى من بعيد.وإنني، رغم كل ما يُقال، ما زلت في بداية الطريق، أتعلم وأتطور مع كل نص أكتبه. أحاول دائماً أن أستكشف عمقاً جديداً في أسلوبي، أن أفتح أبواباً لم أطرقها من قبل، وأعيد صياغة أفكاري لتصل إلى القارئ بأكثر الطرق وضوحاً وجمالاً. الكتابة بالنسبة لي ليست محطة أرتاح فيها، بل هي رحلة لا تنتهي، وكل محطة فيها خطوة نحو نضوج أكبر وتعبير أعمق.التكرار هنا ليس ضعفاً، بل هو منهج. إنه محاولة مستمرة لخلق إيقاع يربط النص بالقارئ. تماماً كما يحمل البحر إيقاعه الخاص، تتشابه أمواجه لكنها لا تتطابق، كذلك النصوص التي تتكرر فيها الأفكار والكلمات. كل موجة تحمل ما قبلها، لكنها تضيف إليه. إنها عملية تراكمية، تخلق معنى أعمق مع كل موجة جديدة.الحياة نفسها قائمة على التكرار. لكن من يتأمل هذا التكرار يدرك أنه لا يعيد نفسه، بل يتجدد في كل مرة. الشمس لا تُشرق بنفس الطريقة، والليل لا يسدل ستاره بنفس الظلال. وهكذا هي الكتابة: حين أكرر فكرة أو كلمة، فأنا لا أعيدها كما هي، بل أُعيد تشكيلها، أعيد إضاءتها من زوايا جديدة.والذين لاحظوا هذا التكرار، أُقدّر ملاحظتهم، لأنها تعني أن النصوص تترك أثراً. النص الذي لا يُقرأ مرتين، أو الذي لا يُترك في ذاكرة القارئ ليتأمله، هو نص عابر. أما النصوص التي تكرر كلماتها وأفكارها، فهي كالأجراس التي تستمر في الرنين، تذكّر القارئ بأن المعنى يحتاج إلى وقت ليُفهم ويُحتضن.ولعل التكرار في الكتابة يشبه عزف الموسيقى. النغمات قد تتكرر، لكن الإيقاع هو الذي يُحييها. في التكرار يكمن الإيقاع، وفي الإيقاع يكمن التأثير. القارئ الذي يرى التكرار مللاً ربما لم يتعلم أن ينصت لإيقاع النص، وأن يتأمل تناغم الكلمات التي تعود وتتشابك، لتخلق معاني جديدة في كل مرة.أما بالنسبة لمن يصف أسلوبي بأنه أصبح “مكرراً ومعروفاً”، فأقول: هذا هو التميز بعينه. الكاتب الذي يحمل بصمة واضحة هو كالصانع الذي تعرف أعماله من لمساته الأولى. أن يكون أسلوبي معروفاً يعني أنني نجحت في بناء هوية أدبية، هوية تجعل القارئ يقرأ دون أن يسأل: من كتب هذا؟ لأنه يعرف مسبقاً أن هذه الكلمات تحمل روح كاتبها.في النهاية، التكرار ليس إعادة بلا هدف، بل هو بناء مستمر. إنه كالنحت على الحجر، ضربة تلو أخرى، حتى يظهر الشكل النهائي الذي يبهر العين. والتكرار، في عمقه، ليس ضعفاً بل قوة، لأنه يجعل الفكرة تُغرس في الذهن وتزهر. إن من يرى التكرار عيباً لم يتأمل كفاية. ومن فهمه، يدرك أنه جوهر الإبداع الذي يربط بين العقل والنص في دائرة لا تنتهي.
جدلية التكرار بين درجات التلقي ومساحات التأويل.معاذ فاروق
اقرأ أيضاً:
-
تيفلت..طلبة المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير القنيطرة ENCG في مبادرة انسانية بمدرسة ابن خلون (اليوم الأول) -
حكم قضائي جديد: تأييد الحبس سنة نافذة في حق 3 حراس سيارات -
أوسار.. رئيس المجلس الاقليمي بسطات رفقة التلاميذ في حملة تشجير واسعة. -
ساكنة بنسليمان.. تطالب بفتح تحقيق في انتقاء الموتى للدفن بالمقبرة القديمة عوض الجديدة