الرئيسية آراء وأقلام ثورة التاريخ الرقمي و تداعياتها على حاضر و مستقبل صورة الأمة المغربية.

ثورة التاريخ الرقمي و تداعياتها على حاضر و مستقبل صورة الأمة المغربية.

OS e1500251194567.jpg
كتبه كتب في 17 يوليو، 2017 - 1:25 صباحًا

الدكتور طارق زهير

بات المجتمع المغربي يترقب ما يقع ،فصار كل فرد فيه سواء أمام الملإ أو في خلوته يضع يده على قلبه و يتساءل كيف سيكون الوضع مستقبلا و على ماذا سيستقر ؟،هذا التخوف وليد تناسل الأحداث الموثقة بالصوت و الصورة ،جعلت كل من يتوق إلى غد أفضل لا يثق فيه،مادام يجهل كيف سيغدو ، طالما لا يسطع قراءة واقعة الحاضر ،بل لا يمكن حتى تذكر ماضيه القريب الذي فر منه بغية تحقيق ما يتوهمه من استقرار نفسي ذاتي .
أكيد، أن التاريخ جزء من الحياة الإنسانية ، و لبنة من لبنات المجتمعات و الحضارات ، إلا أنه مفهومه أمسى غير ما نظرت له كبريات النظريات في علم التأريخ نتيجة إقصاء الرقميات للحفريات و النقود و الأواني الحجرية و المعدنية و الرسومات و المنحوتات كأدوات لكتابة التاريخ،فأضحى هذا الأخير قاب قوسين أو أدنى غير متحكم فيه بل لم يعد المؤرخ هو ذلك العالم الذي يبحث في سلوكيات الحضارات و أساليب زراعتها و صناعاتها إذ عوض بكل إنسان عادي يحمل في يده هاتفا ذكيا أو آلة تصوير ظاهرة للعيان أو مثبتة في قلم أو ساعة أو زر أو نظارات ليوثق كل لحظة بلحظة المشاهد التي تتخلل تظاهرات ما.
ناهيك على أن هذا التوثيق لم يعد حبيس من التقطته عدسته بل في برهة يتقاسمه في عالم أزرق لا حدود له زمانا و مكانا مع آخرين يلهثون وراء الصورة و المشهد ، هذين الأخيرين أضحيا يؤثران على المتلقي إيجابا و سلبا ، خصوصا،عندما لا يملك مستوى من الوعي يؤهله لفهم ما يحدث ،و يكون فاقدا لآليات التحليل الكفيلة بتمكينه من استيعاب الزخم المتراكم من الأحداث.
لاغرو ،أن تجليات خطورة الصورة أو المشهد على المخيل الجمعي عموما، و على من وثق الحدث رقميا ، و من تلقاه خصوصا، تجعل المرء ملزما بالتحري و عدم الانزواء في خندق ما صوٍر لمعالجة الظاهرة ،لذا يجب أن توحد الرؤى حول معالجة الظاهرة أو الحدث معالجة فكرية ، فينصهر الرأي و الرأي المخالف في بوتقة الحوار الذي إما أن يكون مقتسما لنفس المبادئ أو الأفكار أو إما أن يكون مخالفا بناء على معتقد فكري ، و إما أن يكون فاقدا لكل بوصلة يغلب أحيانا وجدانه ، و أحيانا أخرى مصالحه الذاتية الضيقة ، أو يتوارى وراء أميته و جهله أو بتجاهله لما يحيط فينجر أو ينساق في نقاش أو سجال مستعملا التعبير العنيف.
بيد أن هناك طرف آخر يغيب، أو لا يكترث به، إنه الآخر الصامت الذي يعجز لسانه ،و يرتعد قلمه ، فتكبح أفكاره إلى درجة فقدانه الثقة في قدرته على ترتيب جمل للبوح بما يخالجه حيال المد الهائل و المتراكم للمشاهد الرقمية التي تداهمه طوعا أو رغما.
فحبذا أن يعمل هذا الآخر الذي لم يتوار ، لم يغادر زمانه و واقعه ،لم يستسلم للآمر الواقع بل أخذ فقط المسافة و الوقت ليستوعب بعيدا عن صخب الأحداث ما يقع، و يحرر قلمه و صوته بلغة العقل بعيدا عن الإنجذاب العاطفي أو الانتهازية وليدتي الضعف الفكري العاكس لمستوى الوعي الفردي و الجماعي.
و لا ريب ، أن القارئ ككاتب هذه الأسطر، صار حائرا أمام ما يجري أمامه تحت وقع ارتفاع ضربات قلبه رهبة مما يقع ،أو ما سيقع أو لا سيقع،يساءل ذاته هل وحده المتخوف أم الكل متخوف؟ أم أنه ببساطة يضخم الأمور و أن الوضع مسيطر عليه من ذوي الاختصاص؟و هل الخوف هو من يغيب عقله و العقل الجماعي ؟.
فإن كانت الشجاعة كما يقول المثال العربي بنت الخوف ، فهذا الأخير هو مصدر شجاعة قول العقل لكلمة الفصل،فما يقع من أحداث في سائر المدن المغربية،أتبث أن لغة العقل مغيبة أو مستبعدة ، غيبتها مقاربة الأيادي الحديدية،يتدخل فيها أحيانا جبناء دخلاء لتقوية يد على أخرى ،ما يعرقل تحكيم العقل و التفكير الروي في البحث عن الحلول.
إذ أن كل الأحداث المتناسلة عرت واقع أزمة الفكر في المجتمع المغربي ،بل وفاته نتيجة طغيان السباب و التقاذف و التخوين ، فعكس هذا الوضع انعدام مكون من الرأسمال اللامادي المجتمعي الفاعل في ضمان الرقي الفكري و الروحي و الاجتماعي للدولة، ألا و هو مكون الثقة اعتمدته الأمم المتحدة كمعيار لتحليل الوضع بالمغرب ، ليقف تقريرها عند أزمة الثقة بين المواطنين فيما بينهم من جهة ، وبينهم و بين المؤسسات من جهة أخرى.
و نضيف إلى هذا المكون رابط الوطنية الذي يوثق العلاقة بين الفرد و الدولة ،فكل مواطن يرتبط بوطنه،بتربته ،بمناخه عبر دم الأجداد ، إلا أن تخلخل الثقة أو انعدامها الموازي ليأس المواطن من أن يوصل شكواه للسلطة العامة،يدفع إلى إيجاد بدائل للدفاع عن مطالبه من خلال توثيقها بالصوت و الصورة ، فتصير هذه التسجيلات تتطاير بين المواقع الاجتماعية ، فتخرج من هذه العلاقة الثنائية لتصير مشاهد مشاعة في نطاق غير محدود بل أكثر من ذلك تصير ذاكرة تاريخية رقمية .
فكما هو معلوم ، فإن بعض المواقع الاجتماعية لا تؤمن بمبدأ النسيان الرقمي ، إذ أن هذه المشاهد و الصور قد تطفو بعد عقد أو عقود بل قرون ،فيحاسب بل يحاكم البلد من أجياله المستقبلية،ما يفيد أن تأثير المشهد هو أني و مستقبلي ، سيندهش كيف للمغاربة أجداده كانوا بطرق فظة يتراشقون السباب و التخوين ،و بالعنف يعاركون مبادئهم أمام مرأى و مسمع الأمن بل سيستغرب عندما يرى رجل الأمن لم يحم رافع المطالب ضد من يريد إخراسه فقط لأنه مختلف معه في مطالبه، علما أنه ليس له الحق مادام قد وجه المحتج مطالبه للسلطة العامة و ليس له هو كمواطن .
و قبل أن تحاسبنا أجيالنا المستقبلية ، فإن العين الأجنبية ترقب و تنتقد سلبا مثل هذه التصرفات ، بل تعمد عندما يرفع إخواننا بالمهجر نفس المطالب تضامنا مع آبائهم، أمهاتهم إخوانهم، أخواتهم ،و يأتي ذلك المهاجر الذي يعترضهم بترديد شعارات مضادة بالتخوين ، فتتدخل الجهات الأمنية للجمه و منعه من الاعتداء و التشويش على مسيرتهم ، فكيف لنا إذا أن نبرر تصرف من هذا القبيل؟.
فثقة المواطن تتقوى من خلال شعوره بالأمن و لو كان مجرما ، فما بالنا عندما يخرج مواطنون لرفع صوت مطالبهم أن يحمى ، و أن يوفر إليه خصوصا في ظرفية تجعل مغربنا الحبيب في منعرج قد يزيغ بنا إلى الحافة بمجرد تصرف طائش لأي مكون في المجتمع،لا سيما أن الوقفات أخذت عنوانا لها السلمية و صارت تبث من هاتف ذكي على المباشر يتتبعها الملايين في سائر ربوع المملكة إن لم نقل أكثر بذلك على المستوى العالمي.
و لاشك أن الإعلام التقليدي ساهم في هذا الوضع فأمسى متجاوزا يسجل نسبا ضعيفة من المشاهدة نتيجة أخطائه المتكررة تجعل المواطن يعلن جهارا عدم مصداقيته، و يبحث عن البديل في العالم الافتراضي ، الذي يوفر له بمجرد الطلب في محركات البحث كما من المشاهد التي مع كامل الأسف تشكل جزأ من التاريخ ،و توثق لمشاهد لن يقبلها المواطن الغيور لأنها تسيء للمغرب ،و وثقت لرجال الأمن يداهمون المنازل ليلا و يكسرون أبوابها ، وسجلت حديث مواطنين على عودة زوار الليل.
و عليه ، فإن ظرفية بلدنا تحتاج منهاجا مجتمعيا لتدليل هذا الأمر بعيدا عن لغة التخوين و الاصطدام بين الأمن و المواطنين الذي يخشى أن تشتعل حدته ، خصوصا أمام تزايد الاقتحان و انعدام التواصل الإيجابي بين المواطن المحتج و السلطة العمومية، و تدخل فئة أخرى من المواطنين تعنف و تسب و تظن أنها ستمنع صوته من أن يصدح بمطالبه لإي حين قد تكون هي الزيت على النار و لنا في موقعة الجمل في مصر عبرة.
من هذا المنطلق يمكن القول أن تدبير الوضع ينبثق من سؤال جوهري ماذا نريد؟أنريد لبلدنا فوضى خلاقة؟ العصيان المدني ؟أم نريد الاستقرار و الأمن و خلق مصالحة فعلية بين السلطة العمومية و المواطن تبنى على أسس الثقة المتبادلة و الاحترام المتبادل، و الرؤية و التدبير المشتركين لمستقبل وطننا العزيز.
فنحن جيل غدا زائل ، لكن بماذا ستتحدث عنا الأجيال المستقبلية؟، أستحاسبنا كما نحاسب نحن اليوم محطات تاريخنا القديم و الحديث و تحكم عن كل هفوة ليس انطلاقا من كتابات المؤرخين بل بالمشاهد التي ستشاهدها في زمن ستتآكل فيه أعداد الصحف و التعاليق في المواقع الاجتماعية و تتوارى إلى النسيان المقالات المنشورة في المواقع الإلكترونية المتناسلة كالفطائر؟.
بلا،ستشاهد محتجون يهتفون بسلمية احتجاجهم و يقسمون بوطنيتهم و يرفعون مطالب حقوقية و معيشية ، و يتفرجون على أجداد مغاربة يقفون في مواجهتهم لكثم مطالبهم بالصراح أقوى منهم بشعارات لا يمكن لأحد أن يستأثر بها لأن المطالبين بدورهم يتنفسونها و يدودون عنها مادامت إرثا ورثوه جينيا من أجداده.

نعم، سيقفون على أن هناك من استنجدوا السلطة العامة إنقاذهم من العوز و حمايتهم من الفساد الناخر في المجتمع ، و لن يحتاجوا أحيانا الرجوع إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الفساد التي صادق عليها المغرب في سنة 2007 بل سيستأنسون بفيديوهات حيث نساء و أطفال قد يكونوا أجدادهم غدا يلخصون لهم الوضع في جملة اسمية محاربة الرشوة،هذه الأخيرة مع كامل الأسف يعتبر فيها المواطن أحيانا هو المحرض عليها.

كما سيكون مؤكدا رد فعله المبني على الدهشة من جراء الطرق الشاذة في حوار أجداده و تراشقهم الاتهامات و التخوين و تقاذفهم بأقبح السباب في جو مسموم موسوم بالضوضاء الغوغائية ،هذه الطرق التي أقبرت حسن النية في التعايش المجتمعي المكرسة لطغيان الثقة في المجتمع ،زد على ذلك أن صدمته ستصعق مخيلته عندما يعاين أن السلطة العامة ركنت إلى درج المتفرج دون اكتراث بتداعيات ذلك المشهد على حكم المستقبل و تقييمه لها.

من ثم، يصير لزاما على المجتمع المغربي الحاضر لتفادي ما خيف منه أعلاه العمل الحثيث على تحقيق إقلاع، أو إن صح التعبير نهضة مجتمعية، تربو إلى الاستثمار في العقل البشري لخلق رأسمال رمادي، يشكل نواة ثورة فكرية اجتماعية مبنية على عقد اجتماعي قابل للتغيير و الـتأقلم مع النقد البناء الايجابي ، فليس كل الثورات الفكرية تتغنى بها الأجيال المستقبلية، بل فقط بتلك التي أسست على أسس إنسانية فكرية،و في حالة افتقارها لهذه الأسس ستضمحل رويدا، و تنسى تاريخيا، أو تذكر كعبرة، خصوص،ا عندما يلطخ نصاعة أفكارها الدم و الفوضى و التخريب، فيصير التغيير المنشود هداما لمثن و ثوابت المجتمع.

يا سادة إن الوطن أمانة في أعناقنا تجاه حفدتنا، ما فتئت أحداث الريف تستفزنا و تسائلنا حول ما نحن فاعلين كي نمحو أو نبرر أو نصنع تاريخا تفتخر به أجيال الغد ، بيد أن كل هذا قد يصعب أمام تحول كتابة التاريخ بالحبر و الورق إلى الصوت و الصورة ، فصار التاريخ رقميا ، يمخر بحر عالم أزرق لا يؤمن بالنسيان ، قد يطفو على سطح الواقع في كل لحظة ليحاسبنا .

و تأسيسا على ما سبق، فالتروي حكمة، و التدبير مهمة المفكر المثقف،من خلال فتحه حوارا جادا مع محيطه ينبثق من سؤال وجودي :ماذا نريد ؟و ما يمكن إدراكه في المتاح القريب و المستبشر في المدى المتوسط ، كما أن التحفظ ، درء التخوين، و هجر فكر المؤامرة و الالتفاف للقفز على الواقع، لن يحلوا المشكل بل سوف تصبح جزأ من المشكل أو المشكل في حد ذاته.

فتبادل السباب و العراك بالأيادي و الملاسنات و السجالات الجزئية ، لن تجر أي طرف على جادة مطمحه بل ستجعله أكثر راديكالية و شراسة للدفاع عن مطالبه إلى درجة الصم ، سيجعل كل حوار شبه بصياح الديكة.

أيها الصامتون فكريا، من تبكي قلوبهم مضضا على ما يجري ، سيحاسبكم التاريخ كقوة فكرية توانت في الدود فكريا و تنظيريا عن وطنها،استسلمت أمام استكانة العقل عن الدفاع عنها ، فتوارت خلف الأحداث بإغلاق حواس تواصلها مع المجتمع ،فمواطن الاربعينات أو الخمسينات المقبلة من هذا القرن ، لن يحاسب المواطن العادي، بل سيحاسب حسابا عسيرا النخب السياسية و المثقفة و مكونات المجتمع المدني ،عندما يراجع التاريخ الرقمي، و يصدم لهول غدرها للوطن و عدم مساهمتها في إيجاد حلول.

لا ريب في أن ما يتم نشره و تداوله في المواقع الاجتماعية من تأريخ سمعي بصري للحدث المشاع يسيء لمغرب اليوم و الغد، أكثر ما ينفعهما ، لذا فليس هكذا تورد الإبل ، بل يتعين فتح الحوار و تقبل الآخر المحتج، و تقبل هذا الأخير بدوره للآخر غير المقتنع باحتجاجاته أولا، ثم ثانيا، مسامحة كل من موقعه الآخر عن هفواته و أخطائه، عبر خلق جسر تواصل اسمنته الاستماع المتمعن في إطار حوار وطني بعيد عن أي مزايدات لتدويله و كل خطابات التهويل و الترهيب و التخويف من الاحتجاج، و وقف الاعتقالا،ت و نبذ فكرة الرفض التام للانتقاد و التقويم المعتبرين بمثابة الدعامتين للديمقراطية الحديثة التي نمت على أنقاد الديمقراطية التقليدية.

مشاركة