لا أعتقد بتاتا أنه من باب الصدفة أن يتولى صاحب الجلالة الملك محمد السادس استقبال حكومة سعد الدين العثماني لمباركة بداية ولايتها، بعد طول انتظار أصبح له طعم المرارة.
وظهر اليوم الموالي من شهر أبريل الجاري يستقبل أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية برئاسة فضيلة القاضي مصطفى فارس، الرئيس الأول لمحكمة النقض؛ بعد طول انتظار أيضا وصل حد التوجس والخيفة على مصير مؤسسة دستورية وليدة؛ سترى النور من رحم تجربة دستورية جديدة انطلقت مع إقرار دستور 2011.
وقد لا يجد المتتبع لهذا التزامن المقصود كثيرا من العنت للجواب عن تساؤلات متعلقة بهذا الترابط المدروس بعناية؛ إلا عبر رسالتين صريحتين تنطويان على حمولة مهمة تتعلق بمصير البلد ووضعه على سكة صحيحة في مساره الدمقراطي.
أولاهما: الإصرار على أن الاختيار الديمقراطي هو اختيار حاسم جازم لا رجعة فيه؛ وهو اختيار يتجاوز حد الشعارات، نحو إرساء أركان البناء الديمقراطي في صيغته العصرية عبر تركيز دعامات هذا البناء، وهي السلط الثلاث: السلطة التشريعية كوجه من أوجه سيادة الأمة عبر ممثليها بمجلسين تشريعين؛ والسلطة التنفيذية المنبثقة عن انتخابات ممثلي الامة حسبما يرسمه القانون الأسمى ويحدده؛ وسلطة قضائية؛ وما هي في واقع الأمر إلا تعبير عن سيادة الأمة أيضا عبر إرساء دولة الحق والقانون.
ومن الناحية التاريخية، يكون هذا التعيين الأخير أول اعتراف بالقضاء كسلطة قائمة الذات إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ تنتصب انتصاب الند للند.
أما استقلالية القاضي فهذا أمر آخر، إذ إن القاضي الذي لا يصدر أحكامه بكل استقلالية وحياد وتجرد لا يستحق هذه الصفة السامية أولا ولا حمل ثقل هذه الأمانة السامية ثانيا. وقد حمل القضاة المغاربة عبر العصور هذه الأمانة وفق ما حدده فقيههم الألمعي ابن عاصم الغرناطي حين وصف القاضي بكونه منفذ للشرع بالأحكام له نيابة عن الإمام.
الرسالة الثانية: أن اختيار دولة الحق والقانون أيضا اختيار أمة لا رجعة فيه؛ فعلى القضاة أن يتحملوا مسؤولية بناء الأمة، وهي لعمري مسؤولية تنوء تحت ثقلها السماوات والأرض والجبال؛ لأن القاضي لم يعد في يومنا هذا يفصل في الخصومات بين الأفراد وينتهي الأمر بتغليب أحدهما على الآخر؛ إذا كان ألحن وحجته أقوى من حجة خصمه؛ بل أصبح الأمر يتعدى هذا بكثير إلى مجالات كان القضاء عبر تاريخه بمنأى عنها ومثالها:
1ـ البت في مدى دستورية القوانين؛ فالقاضي التقليدي لم يكن يحق له بمناسبة نزاع معروض أمامه؛ أن ينظر في مدى دستورية هذا القانون من عدمه؛
2 ـ التدخل في المجلات الاقتصادية التي تهم أمته؛ فالقضاء لم يعد أبدا مرتبطا بالخصومات مقتصرا على الفصل في المنازعات التي تثار بين أفراد المجتمع؛ وإنما سمحت التشريعات الحديثة للقاضي التجاري بالتدخل تلقائيا من أجل حماية المقاولات مما قد يعترضها من صعوبات تؤدي بها إلى التوقف عن الوفاء بالتزاماتها ومن ثم الحكم بتصفيتها (الكتاب الخامس من مدونة التجارة المغربي).
3 ـ التدخل في الحياة السياسية، بدءا من إعداد اللوائح الانتخابية وما يثار بشأنها من منازعات إلى حين الاعلان عن النتائج تحت أعين ومراقبة لجان يترأسها قضاة محنكون.
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة المتسارعة التي تأتينا من بلاد العم سام أن تدخل القضاء في المجال السياسي الضيق أصبح ظاهرا جليا، خصوصا إذا انتهكت حرمات الحقوق الأساسية لبني البشر؛ كالحق في التنقل التي تضمنه كافة المواثيق الدولية؛ وهو الحق الذي داسه في مناسبتين اثنتين الرئيس الأمريكي وللأسف، بإصداره مرسومين رئاسيين يتعلقان بمنع رعايا بعض الدول من دخول التراب الأمريكي تحت ذرائع واهية؛ فكان له القضاء الأمريكي ممثلا في قاضيين من قضاة المحاكم الفدرالية بالمرصاد؛ ولم يترددا لحظة في إلغاء مرسومي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حديث العهد بالبيت الأبيض قبل أن يرتد إليه طرفه.
وبهاذين الحكمين اللذين ولا شك سيدخلان التاريخ من بابه الواسع وسيعتبران من الآن من أهم حوليات القانون المقارن التي لا غنى لكل دارس للقانون عبر العالم من دراستها؛ وسيدشنان بداية عهد جديد بالنسبة إلى القضاة ببسط حمايتهم ليس فقط على رعايا دولهم؛ بل ستمتد رعايتهم إلى حماية رعايا دول أخرى وهم لا يزالون فوق تراب بلدانهم من أي تعسف أو مساس بحقوقهم الأساسية، حتى ولو كان المتعسف رئيس أقوى دولة في العالم لا تسأل عما تفعل وهم يسألون.
ولم تجري الأحداث الآتية عبر المحيط بمعزل عما يجري في بقية بلاد المعمور؛ فها هي رئيسة إحدى الدول الكبرى اقتصاديا العظمى من حيث التنظيم والمراقبة والمحاسبة، كوريا الجنوبية، ستخضع لتحقيق قضائي سيسفر على عزلها من لدن المحكمة الدستورية لبلادها؛ لترفع عنها الحصانة لكي تحاكم جنائيا لما اقترفته يدا إحدى صديقاتها المقربات من فساد مالي أخرج مئات الآلاف من أبناء الشعب إلى الشوارع للاحتجاج.
إن القضاة أينما وجدوا وانتصبوا في مجلس القضاء، سواء في بلاد التبت بأعلى جبال الهملايا او في مجاهل غابات افريقيا وحتى بولاية اوهايو الأمريكية، يوحدهم شيء واحد وإن اختلفت ألسنتهم وألوانهم ودياناتهم ونظمهم القانونية؛ هو إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
وحماية القضاء أصبحت ذات إشعاع كوني منذ أن انتصبت محكمة نورمبورغ لمحاكمة مجرمي الحرب بألمانيا الهتليرية؛ ومنذ ذلك الحين لم ترفع هذه المحكمة جلسة إلا لتعقد أخرى في كل بقاع العالم؛ وإن كان تحت مسميات حديثة كالمحكمة الجنائية الدولية؛ التي أحدثت بمقتضى اتفاقية دولية صادقت عليها أغلب دول المعمور.
وسجّل هذه المحكمة حافل بالأسماء لفترة ما بعد الحرب الكونية الثانية لا يتسع المجال لسردها لكثرتها؛ إنما يجمع بينها جميعا خيط رابط، كونهم جميعا قد ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية دون اعتبار لجنسية أو دين أو لون؛ سواء أكانت الأفعال المنسوبة إليهم جرائم إبادة أو جرائم تطهير عرقي أو جرائم حرب بمفهومها العام حسبما تحدده قواعد القانون الدولي؛ وتنظمها المواثيق والاتفاقيات الدولية.
وما سقنا هذه الأمثلة إلا للتدليل على أن القضاة أينما وجدوا هم زملاء يجمعهم نبل المسؤولية الملقاة على عاتقهم، وهي حماية الأنفس والأعراض والأموال؛ دونما تمييز لجنسية الضحية أو لونه أو عرقه أو دينه؛ ودونما اعتبار أيضا لمكانة الجلاد وسلطته وسطوته سواء أكان رئيس دولة أو رئيس حكومة؛ أو قائدا لجيش عرمرم.
هكذا يحق للقاضي اليوم أينما حل وارتحل أن يكشف عن صفته لزملائه أينما وجدوا لأنهم جميعا شركاء في الفعل القضائي بمفهومه الشمولي ـ الكوني؛ وأن يستشير ويستشار في الشأن القضائي عبر شبكات التواصل بخصوص أمور قانونية ونوازل عرضت أو ما زالت معروضة على أنظار القضاء؛ ولا ولن يواجه بما كان يعرف بواجب التحفظ لأن هذا الواجب أيضا يجب أن يراجع من لدن حكماء القضاة أنفسهم لتحديد نطاقه ومداه من خلال ما طرأ على العمل القضائي من تطورات