الرئيسية آراء وأقلام “تجاويف الخيانة ووشم البوح… رحلة الأستاذ رشيد المنجري في هندسة الألم الإنساني”

“تجاويف الخيانة ووشم البوح… رحلة الأستاذ رشيد المنجري في هندسة الألم الإنساني”

IMG 20251207 WA0000
كتبه كتب في 7 ديسمبر، 2025 - 7:57 صباحًا

بقلم: حبيل رشيد

يقول جان بول سارتر إنّ الخيانة نصّ ناقص لا يفهمه صاحبه بل من يتأمّل أثره، وربما لهذا السبب لم يسع الأستاذ رشيد المنجري إلى إغلاق الجرح، بل إلى فتحه من جديد عبر مشروع كتابي يوزّع الضوء على مناطق معتمة من الذاكرة، ويُخضع التجربة الإنسانية لتشريح هادئ يقترب من لغة الطب النفسي أكثر مما يقترب من قصص العشق اليومية. فالعناوين التي يتكرر فيها لفظ “خيانة” ليست مصادفة ولا زخرفة لغوية، بل محاولة لاستعادة المعنى من حيث فقد الإنسان قدرته على الفهم، ومحاولة لتوليد سؤال جديد يمشي على حواف الألم دون أن يسقط في العاطفة السطحية.

إنّ خيانة المنجري ليست خيانة بين شخصين فحسب، بل بين الإنسان وظله، بين الذاكرة وصورة الذات، بين ما كنّاه وما كنّا نعتقد أننا سنكونه. ولذلك تبتعد نصوصه عن منطق القص التقليدي لتسلك مساراً نفسياً يجعل القارئ يشعر أنّه في حضرة سؤال لا في حضرة حكاية. فهناك دائماً منطقة تَبقى معلّقة، مساحة لا يمكن تفسيرها، تشبه تلك اللحظة التي يعرف فيها المرء أنه ضحية لكنه يدرك، في العمق، أنه شارك دون وعي في صناعة الجرح.

وإلى جوار هذه الثلاثية يقف عنوان آخر هو “لو حكينا بوح قاض”، العنوان الذي يُذكّرنا بأن كل جرح هو محاكمة صامتة للذات، وأن كل صمت في النهاية شهادة لم تُدوّن بعد. هنا لا يتكلم القاضي من موقع السلطة القانونية، بل من موقع إنساني هشّ، يتساءل: ماذا لو قيل ما لم يُقل؟ ماذا لو اعترف الإنسان لنفسه قبل أن يواجه الآخرين؟ هذه الاحتمالات تجعل الكتاب أقرب إلى تقرير نفسي منه إلى سرد تقليدي، وكأن المؤلف يكتب بلغة الوجدان لكن بمنهج تفكير أقرب إلى علم القانون حين يعيد توصيف وقائع الإنسان من خارجها، لا من داخلها فقط.

اللغة في هذه النصوص ذات نبرة رصينة لا تتكلف البلاغة ولكنها لا تتخلى عنها. لغة تبدو وكأنها تسير بحذر على أرض رخوة، تتجنب الاندفاع لكنها لا تتخلى عن الإحساس. وهي في ذلك تستعيد روح المنفلوطي حين كان يمنح الكلمات صمتها الداخلي، وتسترجع شيئاً من روح مصطفى محمود حين كان يفتّش عن الإنسان داخل الإنسان، لا خارجه. ومثلما كان محمود يطرح الأسئلة بوصفها جراحاً مفتوحة، يذهب المنجري إلى المنطقة نفسها ولكن من زاوية أكثر هدوءاً وأقل اعترافاً، أقرب إلى تحليل نفسي مُضمر، لا يُقال تماماً ولا يُخفى تماماً.

إنّ هذا المشروع لا يقدّم الخيانة بوصفها واقعة أخلاقية فقط، بل بوصفها معضلة وجودية تكشف التشققات الخفية في العلاقات الإنسانية، تلك التي لا نراها إلا حين ينكسر شيء ما في الداخل، ويُعاد ترتيب الصور من جديد. والجرأة هنا ليست في الاعتراف، بل في اختيار موضوع حساس يصعب الإمساك بحدوده، ثم تحويله إلى هندسة لغوية تستدرج القارئ نحو منطقة تفكير تتجاوز المتعة السردية إلى محاولة فهم ما يحدث داخل النفس.

ولعل حضور المؤلف نفسه داخل الصورة البصرية لهذه الكتب ليس حضوراً دعائياً، بل حضور الفكرة التي تقيم خلف النص. فالفضاء المكتبي الذي تُلتقط فيه الصور يشير إلى أنّ الكتابة ليست لحظة انفعال، بل مشروع قراءة وتأمّل، وأن الجرح ليس حدثاً يمرّ، بل مادة تُحلَّل داخل المختبر الإنساني بكل ما فيه من توتّر وخوف وحنين.

إن القارئ الذي يقترب من هذه الكتب لا يقترب بحثاً عن نهاية، بل بحثاً عن معنى. سيجد نفسه مضطراً لأن يعيد النظر في المسافات التي تفصل بين الشعور والحقيقة، وبين ما نبوح به وما نخفيه. سيكتشف أنّ الخيانة ليست لحظة واحدة، بل سلسلة حلقات تُهدم وتُعاد بناؤها داخل النفس في كل مواجهة جديدة مع الذات.

وفي النهاية، يبدو مشروع الأستاذ رشيد المنجري مشروعاً يعيد إلى الأدب وظيفته القديمة: ليس أن يحكي، بل أن يوقظ الإنسان في داخله. أن يضعه أمام مرآة لا تقول كل شيء ولكنها تكشف ما يكفي لكي يتأرجح السؤال من جديد. فهذه الكتب لا تفتح الجرح لتوسّعه، بل لتفهمه؛ ولا تنتهي بالخلاص، لأن الخلاص نفسه سؤال لا جواب له.

وهكذا، وسط صخب الحكايات السريعة وانكسارات العاطفة العابرة، يقدّم هذا المشروع كتابةً تُشبه الطريق الطويل نحو الذات، كتابة بطيئة، رصينة، تستند إلى جرح عميق لكنها تتحرك بروح التحليل والتأمّل، وتفتح للإنسان باباً لكي يرى نفسه لا كما يريد أن يكون، بل كما تركته التجارب دون مساحيق ولا ادعاء.

ولعل القيمة الكبرى في هذا المنجز أنّه يثبت أن الكتابة لا تزال قادرة على التعافي من الحكاية التقليدية، وأن الأدب ما زال يملك الإمكان والقدرة على تحويل الجرح إلى معنى، وتحويل الألم إلى سؤال يمضي بالقارئ نحو منطقة لا يعرف نهايتها، لكنها بالتأكيد نهاية ليست كتلك التي تبدأ بالخيانة وتنتهي عندها… بل بداية أخرى للبحث عن ما يجعل الإنسان أكثر فهماً، وإن كان فهمه ذاته أشدّ إيلاماً.

مشاركة