تجاوزات التفاهة وسلطة القانون: حين تنتصر القيم على ضجيج المنصات.

نشر في: آخر تحديث:


بقلم..معاذ فاروق

في عصرٍ تتراقص فيه الأصابع على شاشات من زجاج، وتتحول الكلمات إلى أسلحة تُطلق دون رادع، نجد أنفسنا في مشهدٍ يُشبه لوحات سريالية، حيث يختلط العبث بالجد، ويتداخل الصخب مع الفراغ. إنها المنصات الرقمية، تلك الساحات التي كان يُفترض بها أن تكون منابر للفكر، فإذا بها تتحول إلى ميادين تسكنها التفاهة، ويعبث فيها الصغار والكبار، وكأن القيم أضحت عملة نادرة لا تجد لها مكانًا في هذا السوق الفوضوي.إننا أمام حقبة تُسوَّق فيها الجرأة المبتذلة على أنها شجاعة، والوقاحة على أنها تحرر، وكأن الحياء فضيلة قديمة سقطت سهواً في معركة الحداثة. فكيف يمكن لعاقل أن يتصور أن “الحرية” التي قُدّمت على طبقٍ من ذهب، تحولت إلى غولٍ يلتهم القيم والمبادئ؟ وكيف وصلنا إلى هذه النقطة التي أصبح فيها الإبداع رهينًا للتفاهة، والشهرة مجرد ضجيج فارغ؟
خذ مثلاً “إلياس المالكي”، الذي استبدل القلم بسوطٍ من الكلمات السامة، يجلد به القيم العامة وكأنها عدوه اللدود. ظن أن السوق الرقمي يفتح أبوابه بلا حارس، وأن الكراهية مجرد لعبة تُكسبه المشاهدات. لكنه سرعان ما وجد نفسه محاصرًا بين أسوار القانون، ليعلم أن التحريض ليس وجهة نظر، وأن المدى المفتوح الذي وفرته المنصات له حدود، وحدودها القيم التي لا تُساوم.ثم يأتي “ولد الشينوية”، تلك الشخصية التي أثبتت أن الصخب يمكن أن يكون طريقًا مختصرًا للشهرة، حتى وإن كان محتواه خواءً بلا مضمون. مسرحية هزلية بلا نص، بطلها هو السقوط نفسه. وكأننا أمام مشهد مسرحي كُتب لينتهي بنقطة واحدة: لا مقام للتفاهة حين يُرفع الستار عن الحقائق.أما “هيام ستار”، فهي حكاية أخرى تُثير الشجن والسخرية في آنٍ معًا. أمٌّ لم تُدرك أن النجومية ليست بثوبٍ يُباع في أسواق التصفيق، وأن الأطفال ليسوا مجرد أرقام تُستغل في لعبة الشهرة. فتدخلت الأقدار، هذه المرة في هيئة قانونٍ، لينقذ ما تبقى من براءة كان يمكن أن تُدهس تحت أقدام اللا مسؤولية.
وفي ختام هذا المشهد العبثي، يظهر “مولينكس”، وكأن القدر أراد أن يُخبرنا بأن الهروب ليس حلًّا. فحتى وإن عبرت حدود الزمان والمكان، يبقى القانون سلاحًا يُسكت كل من يُسيء استخدام الحرية التي وهبتها له هذه المنصات.
ما نراه اليوم ليس مجرد حملة عقابية عابرة، بل هو صرخة مدوية في وجه التفاهة التي تغلغلت في مساحاتنا الرقمية. إنها لحظة تعيد فيها القيم ترتيب بيتها، وتذكرنا أن الحرية بلا مسؤولية أشبه بسيفٍ يجرح حامله قبل أن يجرح الآخرين.ولكن، هل يكفي القانون وحده لاقتلاع جذور التفاهة؟ بالطبع لا. إننا بحاجة إلى ثورة داخلية، في عقولنا وذائقتنا، تعيد تعريف معنى “المحتوى”، وتُرسخ مفهوم المسؤولية لدى الجمهور قبل صناع المحتوى. فالرداءة لا تجد لها مكانًا إلا في بيئةٍ خصبة باللامبالاة، والتفاهة لا تنمو إلا حيث يغيب النقد البناء ويغفو الضمير الجمعي.إن معركة القيم والتفاهة ليست مجرد صراعٍ عابر، بل هي حربٌ طويلة تستحق أن نخوضها دفاعًا عن ذواتنا قبل أن ندافع عن الأجيال القادمة. فالشاشة، مهما صغرت، تظل نافذة تطل منها أرواحنا على المستقبل. فهل نرضى أن تكون هذه النافذة مليئة بالضباب، أم أننا سنصرّ على أن تكون مشرقة بالمعرفة والنور؟في نهاية المطاف، يبقى السؤال معلقًا: هل سنقف كمتفرجين على هذا العبث، أم أننا سنعيد صياغة المشهد الرقمي بما يليق بقيمنا وهويتنا؟ الإجابة، كما يبدو، قد بدأت ترتسم بالفعل، في قاعات المحاكم وعلى صفحات الأخبار.

اقرأ أيضاً: