عبد الله بومزور : باحث في التراث الإسلامي
يعلم كُل مُطلع على التراث الإسلامي العريق أنّ التّصوف كان له شأن كبير في التزكية والزهد قديماً. ومن بين الذين سلكوا طريق العزلة والخلوة، نجد أبا حامد الغزالي، القائل في كتابه: “ المُنقذ من الضلال “: وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لايمكن إحصاؤها واستقصاؤها ، والقدر الذي أذكره لِيُنتفع به.” إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأنَّ سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق.” [1]
وبعد الغزالي ، ظهر في الأندلس سالك آخر لطريق التصوف، وهو الذي ذاع صيته في مشارق الأرض ومغاربها. الشيخ الأكبر أو سلطان العارفين، الإمام محيي الدين ابن العربي الحاتمي ، المُزداد سنة 560 هجرية، والمُتوفّى سنة 638 هجرية.
بدايتي مع فكره كانت سطحية؛ كنت أمُرّ على كُتبه في المعارض وألقي نظرة سريعة على العناوين دون التعمق في فكره. بعد ذلك ، وأثناء عملي كموظف في شركة طيران في الإمارات العربية المتحدة استعرت من أحد الموظفين رواية ضخمة، تحكي سيرته، عنوانها، “ موت صغير “. للكاتب حسن علوان. فازت الرواية بجائزة البوكر العربية، وقد تضمنت حقائق حول الإمام ابن العربي الحاتمي ، كما زاد فيها الكاتب أحداثاً خيالية. وتمضي الأيام ، لأتعمق في فكر الشيخ وأُحسن الظنّ به وبالتصوف الذي كان سائداً آنذاك في بعض الأقطار الإسلامية. وإن كان بعض الأئمة المسلمين من قبله قد سلكوا طريق التصوف السُّني السليم ، فإن ابن العربي الحاتمي عرَّف المقصود به في كتابه المليء بالحكم المُستمدّة من الكتاب والسنة: “ التدبيرات الإلهية “. قال : “ التّصوف -صفاك الله- أمره عجيب ، وشأنه غريب، وسره لطيف، ليس يُمنح إلاّ لصاحب عناية، وقدم صِدق، له أمور وأسرار، غطى عليهن إقرار وإنكار”[2]
وبأسلوب بليغ أضاف في الصفحة السادسة والسبعين: ” فكذلك يا أخي هذا العلم السُّني الذي هو نتيجة التقوى؛ إذا رأينا رجلاً قد اتقى الله سبحانه ووقف عند حدوده، واتصف بالزهد والورع وأشباه ذلك، ثُمّ نطق بعد هذا بعلم لاتسعه عقولنا وهبه الله سبحانه إياه، فالواجب علينا التسليم والتصديق فيما ادعاه ، وتحسين الظنّ به ، وترك الاعتراض عليه ، فإنّ الله تعالى قد يخص من يشاء من عباده بما يشاء من علومه، كما قال: ” يؤتي الحكمة من يشاء” ، وقال : ” وعلمناه من لدنا علما .”
يظهر جلياً أن التّصوف قديماً كان طريقاً لليقظة الروحية وبلوغ مقام الإحسان، عن طريق المُواظبة على العبادات وترك المُهلكات.أما في زمنِنا هذا فقد طغت عليه البدع والخُرافات، وكَثُرت الطرق الصوفية ، وكما غلا النصارى في الدين ، غلا الكثير من أتباع شيوخ الطُّرق في شيوخهم.وقد يصل الأمر إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال، وربنا يقول في سورة الأعراف : ” قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق” .
كما أن مجالس الذكر لاتخلو من بِدع، ويتعجب المسلم السُّني، بعد الاحتكام إلى ميزان العقل والنقل، من سبب قبول ذكر لم يثبت عن نبينا عليه السلام. يجلس رجل مُتدين، له معرفة متواضعة في أمور الدين، في مجلس طريقة صوفية، فَيُشار إليه بقراءة وِرد من تصنيف شيخ الطريقة، أو يؤمر بمواكبة الجمع في ذكرهم. من جهة، يُستغل الجهل بالدين ، فتصير الكثير من البدع عادات. ومن جهة أخرى، يتم التحكم في العقول بالغلاف الديني؛ تجد شخصاً لم يؤتى علماً ( ليس إماماً ولاعالماً )، يُمَوِّه الناس ويدعي أنه من أولياء الله، وأن سبيل النجاة والفوز بالجنة هي سبيله ونهجه الصوفي. أورد الأديبان أحمد أمين وزكي نجيب محمود في كتابهما: قصة الأدب في العالم ، مايلي: ” وضعفت عُقولهم عن تمييز الحق من الباطل، فملئوا التصوف بالخرافات والأوهام، ولم تتجرد طبيعتهم من حب اللهو فأدخلوه في التصوف، فكان فيه الغناء والموسيقى والرقص وألعاب البهلوان، وهرع النّاس إلى المتصوفة يستمنحونهم البركة، ويستقضون منهم حوائجهم، ويقرعون بهم أبواب السماء، وامتلأت البلاد بأرباب الطُّرق… فكان في الحياة الصوفية على سعتها وانتشارها حقٌّ قليل وباطلٌ كثيرٌ.” [3]
ختاماً، نسأل الله جل جلاله أن يهدي قلوبنا، لأنه الهادي، ويجعلنا من الذين يتبعون سُنة الجبيب عليه السلام، لنكون من الذين قال فيهم ربنا جل جلاله في سورة الزُّمر : ” يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولو الألباب.”.
مراجع
[1]
أبوحامد الغزالي، كتاب المُنقذ من الضلال، طبعة دار المنهاج، 2015، الصفحة
[2]
محمد بن علي بن العربي، كتاب التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكة الإنسانية، طبعة مؤسسة ابن العربي للبحوث والنّشر، 2023، الصفحة 72
[3]
أحمد أمين وزكي نجيب محمود، كتاب قصة الأدب في العالم، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1945، القسم الثاني، الصفحة ( 489-490 )

