بقلم : طلوع عبدالإله/ دكتور في القانون العام والعلوم السياسية
شهدت الصحافة في العصر الرقمي تحولاً عميقاً نتيجة التقدم التكنولوجي السريع وظهور منصات التواصل الاجتماعي التي جعلت الأفراد والمجموعات قادرين على نشر الأخبار والمحتويات الإعلامية بشكل غير مسبوق. هذا التحول أوجد تحديات جديدة في تنظيم الصحافة، إذ أصبح من الصعب التمييز بين الصحافة المهنية وحرية التعبير الشخصية، ما يضع المشرعين أمام مسؤولية كبيرة لضبط هذه الحدود بشكل قانوني يحمي الحقوق الفردية والاجتماعية.
التحديات القانونية في الفضاء الرقمي
يواجه المشرع المغربي تحديات قانونية معقدة في تنظيم الصحافة في العصر الرقمي. فإلى جانب القوانين التي تحكم الصحافة التقليدية، مثل تلك المتعلقة بالمجلس الوطني للصحافة، فإن الصحافة الرقمية تثير العديد من الإشكاليات القانونية التي تتطلب تطوير تشريعات جديدة تواكب هذا التحول. فعلى الرغم من وجود قوانين تشترط حصول الصحفيين على بطاقة صحفية تمكّنهم من ممارسة المهنة بشكل رسمي، فإن الفضاء الرقمي يتيح للأفراد نشر الأخبار والمعلومات دون الحاجة إلى أي معايير مهنية أو تعليمية، مما يؤدي إلى انتشار الأخبار المضللة.
وبالإضافة إلى ذلك، يطرح قانون الصحافة العديد من التساؤلات حول كيفية معاقبة الأشخاص الذين ينشرون معلومات تتعلق بالشأن العام دون أن يكونوا حائزين على بطاقة صحفي، أو ما إذا كان يجب تطبيق نفس المعايير القانونية على أولئك الذين ينشرون الأخبار عبر منصات التواصل الاجتماعي. بينما نجد أن الصحافة التقليدية تخضع لمجموعة من المعايير المهنية والضوابط القانونية، لا يخضع المستخدمون العاديون على الإنترنت لنفس المعايير، ما يثير إشكالية التمييز بين حرية التعبير الصحفي والتعبير الشخصي.
حرية التعبير والصحافة المهنية في العصر الرقمي
في سياق العصر الرقمي، يظهر تداخل بين الصحافة المهنية وحرية التعبير الشخصية. ففي حين أن الصحافة التقليدية تتبع معايير محددة لتحرير الأخبار وجمع المعلومات، فإن الفضاء الرقمي يتيح لكل فرد نشر ما يراه مناسبًا من دون وجود رقابة صارمة. مما يؤدي إلى تداخل في الأدوار بين الصحفيين المحترفين والأفراد العاديين الذين قد ينشرون معلومات على شكل أخبار، أحيانًا قد تكون غير دقيقة أو مضللة.
إحدى التحديات التي تبرز في هذا السياق هي كيفية تعامل المشرع مع المحتوى الذي ينشره الأشخاص غير المحترفين. فإذا كان الأفراد يشاركون معلومات أو آراء تتعلق بالأحداث الجارية أو الشؤون العامة، فقد يكون من الصعب التمييز بين هذا النوع من النشر وبين العمل الصحفي الذي يلتزم بمعايير المهنية. فالمؤسسات الإعلامية تتحمل مسؤولية نشر محتوى دقيق وفقًا للمعايير الصحفية، بينما غالبًا ما يتسم المحتوى الرقمي بنقص في الدقة والمصداقية، وهو ما قد يشكل تحديًا في سياق التنظيم القانوني للصحافة.
التحديات القانونية لتنظيم الصحافة الإلكترونية
لقد أصبح من الواضح أن هناك حاجة ملحة لتطوير القوانين المتعلقة بالصحافة الإلكترونية بحيث تأخذ في الاعتبار الخصائص الخاصة لهذه الصحافة. فمنصات الإنترنت مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب تعتبر منصات مفتوحة للمشاركة، حيث يمكن لأي شخص نشر محتوى دون الالتزام بالضوابط المهنية التي تفرضها وسائل الإعلام التقليدية. هذه المسألة تثير تساؤلات حول كيفية تنظيم المحتوى الرقمي ومنع نشر الأخبار الزائفة أو المضللة.
يجب على المشرع المغربي التفكير في تطوير تشريعات جديدة تحدد كيفية تعامل الصحافة الإلكترونية مع المحتوى الرقمي بطريقة تحترم حرية التعبير ولكن في نفس الوقت تحمي المجتمع من الأضرار التي قد تنشأ عن الأخبار غير الدقيقة. ويجب أن تكون هذه التشريعات مرنة بما يكفي لتلبية المتطلبات المتزايدة لهذا المجال، بما في ذلك مكافحة الأخبار الزائفة والتضليل الإعلامي، بالإضافة إلى فرض معايير لضمان الشفافية والمصداقية في نشر المحتوى.
التحدي في موازنة حرية التعبير والمهنية الإعلامية
من التحديات الكبرى التي يواجهها المشرع في المغرب هي ضرورة الموازنة بين حرية التعبير التي يكفلها الدستور وحماية الصحافة المهنية من الانتهاكات. فالحرية الإعلامية هي من حقوق الإنسان الأساسية، ولكن في ذات الوقت يجب تنظيم هذا المجال بشكل يضمن احترام القيم المهنية والمصداقية الصحفية. قد يكون من الصعب في بعض الأحيان التمييز بين الحريات الفردية في التعبير عن الرأي والنشر الصحفي الذي يتطلب معايير محددة للتمحيص والتحقق من الأخبار.
تتطلب هذه الموازنة النظر في متطلبات حماية الأفراد من التشهير والسب والقذف من جهة، بينما تظل الصحافة الحرة والنزيهة جزءًا أساسيًا من النظام الديمقراطي من جهة أخرى. لذلك، يتعين على المشرع المغربي أن يضمن عدم إعاقة حرية التعبير الشخصية، مع الحفاظ على حقوق الصحفيين في ممارسة مهنتهم بكفاءة واحترافية، وضمان أن تتم محاسبة الذين ينشرون معلومات خاطئة أو مضللة.
تطوير التشريعات القانونية في الصحافة الرقمية
لتجاوز هذه التحديات، يجب أن يتجه المشرع المغربي نحو تحديث القوانين بشكل يشمل كافة أبعاد الصحافة الرقمية. ينبغي أن يكون هناك تمييز واضح بين الصحافة كوظيفة مهنية، تتطلب توافر معايير محددة مثل النزاهة والمصداقية، وبين التعبير الشخصي الذي يتم عبر منصات التواصل الاجتماعي. من خلال التشريعات الجديدة، يمكن أن يتعامل المشرع مع المحتوى الرقمي في إطار يحترم حرية التعبير دون المساس بمصداقية الصحافة.
يجب أن تشمل هذه التشريعات أيضًا أطرًا قانونية لحماية الصحفيين من التضييق عليهم في ممارسة مهنتهم، وضمان احترام معايير الجودة في جمع وتحليل الأخبار. كما يجب أن تشتمل على آليات لمكافحة الأخبار الزائفة والمضللة التي تنتشر بسرعة عبر الإنترنت، وبالتالي تهدد الثقة العامة في الإعلام. هذا يتطلب توازنًا بين حماية المجتمع وبين احترام حرية الصحافة والتعبير، وهو أمر بالغ الأهمية لتحقيق التقدم الإعلامي في العصر الرقمي.
الخاتمة: ضرورة التحول في التشريعات
ختامًا، إن تنظيم الصحافة في الفضاء الرقمي في المغرب يتطلب مزيدًا من الاهتمام التشريعي والتطوير القانوني ليتماشى مع التطورات المتسارعة في مجال الإعلام الرقمي. يجب أن تكون التشريعات واضحة ودقيقة بما يكفي لتفصل بين الصحافة المهنية وحرية التعبير الشخصية، مع ضمان حماية الحقوق الفردية في التعبير عن الرأي. في هذا السياق، يحتاج المشرع إلى تطوير منظومة قانونية مرنة تتواكب مع التحديات الرقمية الجديدة، وتوفر الإطار القانوني المناسب الذي يضمن مهنية الإعلام وحماية المجتمع من الأخبار المضللة في آن واحد.