حكيم السعودي
يُفترض أن يكون الهدف الأسمى في عالم التدريب والتأطير الجمعوي هو نقل المعرفة وتكوين الأفراد على أسس أخلاقية متينة تعزز القيم الإنسانية الراقية غير أن الواقع أحيانًا يكشف عن وجود ممارسات لا تمت بصلة لهذا الهدف حيث يتسلل إلى هذا المجال أشخاصٌ لا غاية لهم سوى البحث عن الفريسة السهلة بين المتدربات مستغلين ثقة الفتيات ورغبتهن في التعلم والتطور. هؤلاء لا يرون في التداريب سوى مساحة لاستغلال النفوذ العاطفي والنفسي على الشابات إذ يعمدون إلى إغوائهن عبر وعود كاذبة وكلمات منمقة لا غرض لها سوى تحقيق نزوات مؤقتة ثم سرعان ما يتخلون عن ضحاياهم بحثًا عن أخريات يمكن الإيقاع بهن بنفس الأساليب الماكرة.المؤسف أن هؤلاء لا يقتصرون على فئة واحدة فبعض من يحملون صفة “المكوّن” في تدريبات الدرجة الأولى والثانية ممن يُفترض أنهم القدوة والموجّهون هم أنفسهم من يمارسون هذا الأسلوب المنحط. إنهم يستغلون سلطتهم كمدربين فيخلقون جوًا من الألفة والتقارب الزائف يتعمدون الاهتمام الزائد ببعض المتدربات يلقون عليهن عبارات الدعم والتشجيع المبطنة ثم يبدأون في اختلاق روايات عن حياتهم الشخصية حيث تتكرر الأسطوانة ذاتها: “أنا تعيس في زواجي”، “أعيش مشاكل مع زوجتي”، “أبحث عن من يفهمني”… وغيرها من العبارات التي تُستخدم كطعم لاستدراج الفتيات وحين تنخدع إحداهن بمثل هذه الأكاذيب وتمنحهم ثقتها،ك تكون قد وقعت في الفخ، فتبدأ مرحلة الاستغلال العاطفي التي سرعان ما تتحول إلى استغلال جسدي ثم يأتي التخلي والاختفاء والبحث عن ضحية جديدة.وما يزيد الطين بلة أن بعض المتدربين أنفسهم يأتون إلى هذه الدورات التدريبية لا بهدف التعلم والتكوين بل بدافع الترفيه والتسلية وكأنها فضاء حر للتحرش والتنقل بين الفتيات متسترين برداء “المتدرب الباحث عن التطوير”. هؤلاء يتعمدون استغلال الجو التفاعلي للتدريبات لاختلاق فرص للتقرب من المتدربات فيسعون إلى كسب ثقتهن بالتودد المتصنع والتصرفات التي توحي بالاهتمام والدعم لكن الحقيقة أن غايتهم لا تتعدى الرغبة في تحقيق انتصارات وهمية على حساب مشاعر الفتيات وكرامتهن.
المشكلة الأكبر أن الكثير من الفتيات لا يدركن خطورة هؤلاء إلا بعد فوات الأوان فالبعض ينخدع بالمظاهر والأساليب المخادعة بينما تخشى أخريات من مواجهة الواقع بعد أن يقعن في الشرك. هذا الصمت والقبول الضمني هو ما يمنح هؤلاء المتحرشين الفرصة للاستمرار التمادي، فهم يدركون أن الضحية في الغالب لن تجرؤ على الإفصاح خوفًا من الفضيحة أو من عدم صديقها فيواصلون أفعالهم دون أي شعور بالندم أو المسؤولية.لا بد من دق ناقوس الخطر فالتداريب والتكوينات ليست سوقًا مفتوحًا للاستغلال والمتدربات لسن سلعة متاحة لهذه الضباع المفترسة. المطلوب اليوم هو وعي حقيقي من الفتيات أنفسهن بأن لا يمنحن الثقة بسهولة لأي شخص يتودد إليهن باسم التدريب والتأطير، وألا ينخدعن بالكلمات المعسولة أو المواقف المزيفة التي تُستخدم كمدخل للاستغلال. كما يجب عليهن رفض أي تصرف غير لائق وعدم التساهل معه تحت أي مبرر. المؤسسات والجمعيات المنظمة لهذه التدريبات تتحمل مسؤولية كبرى في الحد من هذه الظاهرة، فليس كافيًا أن يتم اختيار المؤطرين بناءً على الكفاءة المعرفية فقط بل يجب أن يكون هناك تقييم أخلاقي صارم قبل منحهم مسؤولية الإشراف على المتدربين كما ينبغي وضع آليات واضحة للتبليغ عن أي تجاوزات دون أن يكون ذلك وصمة عار على الضحايا بل بالعكس يجب أن يُشجعن على كشف أي تحرش أو استغلال يتعرضن له.ان العمل الجمعوي رسالة نبيلة، لكنه قد يصبح غطاءً للممارسات المشينة إن لم يكن هناك وعي كافٍ بخطورة بعض المتسللين إليه. التوعية هي السلاح الأول في مواجهة هذه الظاهرة وعلى كل متدربة أن تدرك أن جسدها ليس متاحًا لأي كان وأن كرامتها ليست موضوعًا للمساومة وأنها حين ترفض هذه الممارسات فإنها لا تحمي نفسها فقط بل تحمي أخريات من الوقوع في الفخ ذاته. أما هؤلاء الذين يستغلون مواقعهم في التدريب والتأطير لأغراض دنيئة فلا بد أن يدركوا أن زمن الصمت قد انتهى وأن الفضاءات التكوينية لن تكون بعد اليوم مرتعًا لاستغلال الضعف والثقة بل ستكون حصنًا للقيم والأخلاق، كما يُفترض أن تكون دائمًا.
إن التصدي لهذه الظاهرة ليس مسؤولية فردية فحسب بل هو واجب جماعي يستدعي تكاثف الجهود بين جميع الأطراف المعنية. فالمجتمع المدني بصفته رقيبًا على الأخلاق والقيم، عليه أن يكون في طليعة المواجهة رافضًا أي محاولات لتحويل فضاءات التدريب إلى ساحات لاستغلال و الجمعيات والهيئات المنظمة للدورات التكوينية يجب أن تتحمل مسؤوليتها كاملة من خلال وضع سياسات واضحة لمكافحة أي شكل من أشكال التحرش والاستغلال داخل فضاءاتها.ان أحد أهم الإجراءات التي يجب تبنيها هو فرض ميثاق أخلاقي صارم يُلزم كل مدرّب ومتدرّب بالسلوك اللائق ويحدد العقوبات التي ستُتخذ في حال انتهاك هذا الميثاق. يجب أن تتضمن هذه المدونات الأخلاقية بنودًا واضحة تعاقب أي محاولة لاستغلال المتدربات أو المتدربين بحيث لا يكون هناك مجال للتساهل أو التهاون في التعامل مع هذه القضايا كما أن من الضروري إنشاء لجان خاصة تتولى استقبال الشكاوى بسرية تامة مع ضمان عدم تعرض أي متدربة أو متدرب لأي نوع من الانتقام أو الإقصاء لمجرد فضحه لسلوك غير أخلاقي. لكن الأمر لا يقف عند سن القوانين وحدها بل يتطلب أيضًا تعزيز الوعي داخل المجتمع التدريبي نفسه. لا بد أن يدرك المتدربون والمتدربات أن أي محاولة للتحرش أو الاستغلال ليست تصرفات فردية معزولة بل هي جزء من نمط مجتمعي خطير يتطلب مقاومة صارمة. يجب أن يكون هناك حوار مفتوح داخل الدورات التكوينية حول هذه الظواهر بحيث لا يشعر أي شخص أن الحديث عن التجاوزات هو نوع من الوشاية أو النميمة بل هو مسؤولية أخلاقية تجاه الآخرين.ومن جهة أخرى فإن التغيير يجب أن يشمل العقلية السائدة لدى بعض الفتيات اللواتي يقعن في شِراك هذه الممارسات نتيجة الجهل أو ضعف الوعي. لا بد أن تفهم كل متدربة أن نجاحها لا يعتمد على إرضاء المدربين أو المتدربين الذكور وأنها ليست مطالبة بتقديم أي تنازلات لكسب فرص التدريب أو التأطير. كما يجب أن تعي أن الاحترام لا يُطلب ولا يُستجدى بل يُفرض بقوة الشخصية والوعي.أما على المستوى القانوني فإن تشديد العقوبات على المتحرشين في الفضاءات التكوينية من شأنه أن يردع الكثير من المتلاعبين. يجب أن يكون هناك تعاون بين الجمعيات والجهات القانونية المختصة لخلق بيئة آمنة للمتدربات حيث يتم التعامل مع أي شكوى بجدية وحزم دون أي تمييع أو محاولة للتهدئة على حساب كرامة الضحايا.من المؤسف أن هذه الظاهرة ليست وليدة اليوم لكنها تستمر بسبب التواطؤ الضمني لبعض الجهات المسؤولة داخل الجمعيات أو بسبب الخوف الذي يمنع الضحايا من كسر الصمت غير أن الزمن قد تغيّر ولم يعد الصمت خيارًا لكنه صار التصدي لهذه السلوكيات فرضًا على كل شخص يرى في العمل الجمعوي والتكويني رسالة نبيلة تستحق أن تُحمى من كل ما يشوّهها. آن الأوان لنرفع الصوت عاليًا ونقول لكل من يحاول استغلال فضاءات التدريب لأغراض دنيئة، لن تمروا فالوعي بات أقوى والصمت لم يعد ممكنًا.
إن مقاومة هذه الظاهرة لا يجب أن تكون مجرد رد فعل مؤقت أو موسمي بل ينبغي أن تتحول إلى ثقافة دائمة داخل فضاءات التدريب والتكوين. فالتحرش والاستغلال لا يزدهران إلا في بيئات تتسم بالصمت أو التساهل أو التطبيع مع السلوكيات المنحرفة. وبالتالي فإن المسؤولية لا تقع فقط على الضحايا بل على الجميع من إداريين ومدربين ومؤطرين ومتدربين كلٌّ من موقعه في التصدي لهذه الممارسات القذرة.إن المدربين الذين يستغلون مواقعهم للبحث عن “فريسة سهلة” كما وصفتهم بعض الضحايا ليسوا سوى طفيليات اجتماعية تختبئ خلف شعارات التأطير والتكوين بينما هم في الحقيقة مجرد صيّادين يتربصون بضحاياهم داخل هذه الفضاءات. هؤلاء لا يأتون بدافع التأطير أو نشر المعرفة بل بدافع تلبية غرائزهم المريضة مستغلين الثقة التي تمنحها لهم الفتيات خصوصًا من هنّ في بداية مشوارهن التدريبي أو ممن يفتقدن للخبرة في التعامل مع مثل هذه النماذج، إنهم يعرفون جيدًا كيف يقتنصون الفرص مستخدمين أساليب مختلفة من التودد الزائف إلى الوعود الكاذبة، إلى الضغط النفسي وصولًا إلى المساومة القذرة التي تبدأ بالثناء الكاذب ولا تنتهي عند استغلال الأجساد وتشويه السمعة.لكن هذه الجريمة لا تكتمل إلا عندما تجد من يساعدها في الانتشار سواء بالصمت أو التواطؤ أو إلقاء اللوم على الضحية بدل الجاني. كم من فتاة سقطت ضحية هذه الاستغلاليات لا لأنها أخطأت بل لأنها وجدت نفسها وحيدة في مواجهة منظومة منحرفة تحمي المذنب وتلوم الضحية؟ وكم من متدربة حاولت الدفاع عن نفسها فوجدت نفسها محاصرة بالإشاعات أو التهديدات أو حتى التواطؤ الإداري الذي يتغاضى عن الجناة؟ إنه لمن العار أن تتحول بعض فضاءات التدريب التي يُفترض أن تكون حاضنات للمعرفة والقيم إلى أسواق نخاسة حديثة حيث تصبح بعض الفتيات مجرد فرائس سهلة لأصحاب النفوس المريضة. ومن المؤسف أيضًا أن بعض الفتيات بدافع السذاجة أو الحاجة أو عدم الوعي، قد يقعن في فخ هذه الممارسات ليجدن أنفسهن لاحقًا في دوامة من الاستغلال والخذلان والندم.لذلك لا بد من ثورة حقيقية داخل هذه الأوساط، ثورة أخلاقية وثقافية وقانونية، تعيد لهذه الفضاءات هيبتها وتحمي الفتيات من أي استغلال أو مساومة. يجب أن تُرفع الأصوات لا بالصراخ فقط ولكن بالفعل أيضًا. يجب أن تُكشف الحقائق وتُحاسب الأسماء ويُفضح المستغلون كي يدرك كل من تسوّل له نفسه العبث بكرامة الآخرين أن هناك عواقب وخيمة تنتظره.
لا مجال للصمت بعد اليوم لا مجال للخوف، لا مجال للتساهل مع المجرمين فالوقت قد حان لوضع حدٍّ نهائي لهذه الظواهر التي تشوّه الصورة النبيلة للعمل التكويني والتأطيري. إن معركة الوعي يجب أن تستمر لأنها وحدها الكفيلة بحماية الفتيات من الاستغلال وحماية فضاءات التدريب من التحول إلى ساحات للصيد القذر. فالكرامة ليست مجرد شعار، هي حق يجب الدفاع عنه بكل السبل الممكنة، دون خوف، ودون تردد.
إن التصدي لظاهرة الاستغلال والتحرش داخل فضاءات التدريب والتكوين ليس مجرد خيار، بل هو واجب أخلاقي ومجتمعي يجب أن يتحمل مسؤوليته الجميع. إن الصمت عن هذه الممارسات لا يعني سوى منح المجرمين فرصة أخرى للاستمرار وإعطاء الضحايا رسالة مفادها أن لا أحد سيحميهن أو يدافع عن حقوقهن.ولذلك فإن المرحلة القادمة يجب أن تكون مرحلة وعي وتحصين،ك حيث تتحلى كل متدربة بالقدرة على تمييز النوايا الحقيقية لمن حولها، فلا تنخدع بالكلمات المعسولة أو الوعود الوهمية ولا تسمح لأي شخص باستغلال ثقتها أو حاجتها. كما يجب أن يكون هناك نظام صارم لرصد هذه السلوكيات ومعاقبة مرتكبيها حتى لا يشعر أي مستغل بالأمان أو الإفلات من العقاب. إن الفضاءات التي يُفترض أن تكون منارات للعلم والتكوين يجب أن تبقى نظيفة من كل مظاهر الفساد الأخلاقي ولن يتحقق ذلك إلا بتكاتف الجميع لخلق بيئة آمنة ومحترمة تحترم كرامة كل متدربة وتحميها من الذئاب البشرية التي تتخفى وراء الأقنعة المزيفة.حان الوقت لنقول بصوت عالٍ: لا مكان للمتحرشين والمستغلين بيننا. لا مكان للخوف أو التواطؤ وحان الوقت لتكون كل متدربة واعية بحقوقها مدافعة عن كرامتها، قوية أمام أي محاولة لاستغلالها. فالمعركة ليست فقط مع هؤلاء المنحرفين بل مع ثقافة الصمت التي تغذيهم، وإن انتصر الوعي انهزم الاستغلال واستعادت هذه الفضاءات دورها الحقيقي في بناء الأفراد لا في تدميرهم.