صوت العدالة-معاذ فاروق
حين نستحضر فكرة التنظيم، يتبادر إلى الأذهان مفهومٌ سامٍ يعبر عن النظام والتخطيط، وعن التقاء العقول حول رؤية مشتركة تهدف إلى بناء مستقبلٍ يليق بطموحات الشعوب. لكن حينما تقف البيروقراطية الحزبية على عتبة هذا التصور، يتحوّل المشهد إلى صورة مختلفة تمامًا، وكأنها لوحة فنية تاهت ألوانها وسط صراع الرسام مع قيودٍ لا يراها إلا هو.البيروقراطية الحزبية ليست مجرد نظم وقوانين تنظم سير العمل الداخلي للأحزاب؛ إنها حالة معقدة، تحمل في طياتها جدلية التوازن بين النظام والجمود، بين الطموح الفردي والرؤية الجماعية. فكثيرًا ما تتحول هذه البيروقراطية إلى غولٍ يلتهم المبادرات، حيث يُثقل كاهل الحالمين بقيود لا تنتمي إلى عالم الإبداع، بل تنبع من رغبة دفينة في الحفاظ على قواعد اللعبة كما هي، دون السماح للرياح بأن تعبث بالأوراق المصفوفة على الطاولة.ويُعد عزوف الشباب عن السياسة من أبرز تجليات هذا الجمود البيروقراطي. فالشباب، بطبيعتهم، يبحثون عن فضاءات حرة لإطلاق طاقاتهم وأفكارهم، وعن منصات تتيح لهم التعبير عن رؤاهم بجرأة وشفافية. لكن حين يجدون أنفسهم في مواجهة أنظمة حزبية تعيق تطلعاتهم، وتُقصيهم إلى الهامش بحجة التراتبية أو الالتزام بالقواعد الجامدة، يصبح الطريق السياسي بالنسبة لهم مغلقًا.
كم من شابٍ دخل عالم السياسة بحماسة الحالمين، ليجد نفسه في نهاية المطاف مجرد رقم في قوائم الاجتماعات أو متفرجًا على قرارات تُتخذ بعيدًا عن صوت الجماهير؟ كم من فكرة طموحة أُجهضت لأن القواعد لم تترك مساحة للنقاش أو المرونة؟ هنا، يتحول الحزب من ساحة للإبداع السياسي إلى مؤسسة بيروقراطية تخشى التغيير، فتُفرغ السياسة من معناها الحقيقي.ومع ذلك، فإن البيروقراطية ليست شرًا مطلقًا. في جوهرها، تحمل بذور النظام الذي يحمي الحزب من الفوضى العارمة، لكنها كالسيف، إما أن تُستخدم بحكمة فتفتح الآفاق، أو تتحول إلى أداة تقطع بها الأحلام قبل أن ترى النور.إن إصلاح هذه الآفة لا يكون بإلغاء النظام، بل بإعادة هيكلته ليكون رفيقًا للإبداع، لا خصمًا له. فالمرونة لا تعني الفوضى، كما أن النظام لا يعني الجمود. وبين هذين المفهومين، تتحدد مصائر الأحزاب ومآلاتها، بين أن تكون قوة دافعة للتغيير، أو أن تبقى حبيسة أغلالٍ صنعتها بيديها.ولعل العودة إلى الشباب هي مفتاح الحل. فمنحهم الفرصة للمشاركة الحقيقية، والاستماع إلى رؤاهم، وإشراكهم في اتخاذ القرارات، قد يعيد للسياسة بريقها، وللأحزاب نبضها المفقود. الأحزاب التي تفشل في استيعاب هذه الحقيقة محكوم عليها بالاندثار، لأن السياسة التي تخلو من أصوات الشباب ليست سوى تكرارٍ ممل لزمنٍ انتهى.
لعل القارئ هنا يتساءل: هل نحن أمام معركة خاسرة؟ الإجابة ليست في السؤال ذاته، بل في قدرتنا على مواجهة الواقع بوعي وحكمة. فالأحزاب، مثلها مثل الكائنات الحية، إما أن تتجدد أو تذبل. والاختيار في النهاية، ليس قرار القيادات وحدها، بل مسؤولية كل عضو يؤمن بأن السياسة ليست مجرد لعبة مصالح، بل فن إدارة المستقبل بأيدي الحالمين.