تعبير على حالة التمرد والقطع مع المعتقد
بانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي و نهاية الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية و انهيار حائط برلين، بدى جليا سيطرة النظام الرأسمالي على الساحة العالمية عن طريق العولمة، الأداة الفاعلة للسيطرة على العالم الذي أصبح عبارة عن قرية صغيرة.
هذا النظام الحديث انتج العديد من الظواهر الجديدة و الدخيلة بسبب سهولة التواصل و سرعة إنتشار المعلومات بين الأفراد و الشعوب، كما ساهم في بلورة سياسات اقتصادية مستبدة و نفاق سياسي يتبجح بشعارات القانون الدولي والشرعية الدولية و مجلس حقوق الإنسان. نظام يحمل في ثناياه ظواهر و معالم متناقضة و فوارق اقتصادية و اجتماعية صارخة كانت سببا في تأجيج و تطوير أساليب الإحتجاج من طرف الفئات المنبوذة من الشعوب كتعبير واضح على رفض الواقع الذي لم يكن منصفا و عادلا؛ و من تلك الأساليب لجوء الانسان إلى حرق نفسه، فرغم قدم هذه الظاهرة إلى أنها برزت و بشكل ملفت للنظر ما بعد انهاء الحرب الأفغانية الروسية و ظهور نظام الطالبان، تم ارتفعت وثيرتها بدخول الآلة الحربية المجال الجغرافي لدولة العراق ثم الأزمة الإقتصادية لسنة 2009م؛ فصارت الشعوب تعاني من ويلات الأزمات الإقتصادية و الإجتماعية، و بذلك تأججت مظاهر الفقر و الفاقة و اتسعت الهوة بين الغنى الفاحش و الفقر المدقع، وبدء الناس يعيشون تحت عتبة الفقر في غياب متطلبات الحياة الضرورية البسيطة كالصحة و التعليم و السكن اللائق.
ان انتشار ظاهرة الانتحار عن طريق الحرق في عموم مجتمعات دول العالم تعتبر سابقة خطيرة تدعو إلى التأمل والمزيد من البحث والدراسة عن أسبابها و على السبل الكفيلة بمعالجتها. فحسب الدراسة التي تقوم بها مفوضية حقوق الانسان و منظمة الصحة العالمية فإن اسباب الانتحار في الأعم الأغلب هي التفكك الأسري و غياب الروابط العائلية و ارتفاع معدلات الطلاق التي تجاوزت 200%؛ إضافة إلى الأنترنيت و ما يبته من برامج تشجع على الإنتحار، بل و بث عمليات الإنتحار موتقة بالفيديو، فضلا عن الأفلام السينمائية التي تشجع الشباب على العنف والقتل والمخدرات والانتحار، ناهيك عن البطالة والظروف الإجتماعية المتردية و الاكتئاب و مرض الانفصام و القلق والخوف المرضي من المستقبل، والشعور باليأس والإحباط وضعف الوازع الديني والعزوبية والعوز والفاقة و غيرها.
ويفسر الطبيب النفسي كاظم جبر ان اغلب حالات الانتحار حرقا سببها اليأس والإحباط ولاسيما بين النساء حيث تواجه المرأة ضغوطا أسرية ومجتمعية صارمة مما يؤدي إلى الكآبة الحادة لعدم قدرتهن على الانسجام مع الواقع ويفضلن الجلوس خلف الحاسوب حيث يقضين اغلب وقتهن في تصفح الأنترنت والواقع الافتراضي، أما اللواتي ينحدرن من عائلات فقيرة فلا يجدن وسيلة للتعبير غير البكاء والانفراد والوحدة.
ويشير الباحثون أن محاولات الانتحار بين الطلاب اصبحت اكثر انتشارا بسبب حساسية المرحلة العمرية والتي تتميز بقوة الاندفاع والطموح، كما تلعب العلاقات العاطفة وازدياد حالات الشك في سلوكيات المجتمع، فضلا عن صعوبة تخطي المراحل الدراسية وضغط الامتحانات و فقدان الثقة في المستقبل الجرعة القوية لتنامي ظاهرة الانتحار في أواسط التلامذة و الطلبة.
لقد أصبح أسلوب الانتحار عن طريق الحرق و إضرام النار في الجسد شائعا و حاضرا بقوة بالدول العربية و خاصة بعد احراق الشاب التونسي ” محمد البوعزيزي” لجسده، فبسبب موته اندلعت الثورة التونسية، و بذلك اصبح البوعزيزي رمزا للتغيير و محاربة الاستبداد.
و من تونس اتنقلت الظاهرة إلى مصر و اليونان و العراق و الجزائر … لتصل إلى المغرب (انتحار الشابة ف. العروي 25 سنة بسوق السبت. و فتيحة 42 سنة بالقنيطرة. والشاب ن. س سائق طاكسي الأجرة 39 سنة بطنجة …). و قد تفاجئ الرأي العام مؤخرا بتفشي هذا الاسلوب الصادم و الجديد على مجتمعنا. و أصبح الانتحار عن طريق الحرق تعبيرا واضحا على رفض واقع يطبعه الفقر، و تراجع ميزان العدالة الاجتماعية، و طغيان الاقتصاد العالمي، و البحث عن الربح السريع، و التنافس البشع بين الشركات الكبرى المنتجة، و طغيان الحرية المفرطة المقرونة بالفوضىى، و شيوع ظاهرة العنف بين الأفراد و داخل الاسر و المنزل وخاصة في صفوف النساء، و الزواج المبكر، و تراجع مجال الحريات، فضلا عن تردي القيم الإنسانية الحقة، و الابتعاد عن القيم و الأخلاق و السلوكيات الدينية، و انتشار الاستهلاك غير المبرر، و الاستلاب النفسي، و عدم قدرة الانسان على مواجهة صعاب الحياة، و نظرته المتشائمة و المشوشة للمستقبل، و تفشي ظاهرة البطالة، و أحيانا تلعب الحالات العاطفية دورا في زيادة نسبة الانتحار بين الشباب وخاصة في سن العشرينيات…
و يبقى موقف رجال الدين من ظاهرة الانتحار عن طريق إضرام النار في الجسد حرام كيفما كانت دوافعه أو نتائجه، إلا أن بعض علماء الدين يتحفظون على جزاء المنتحر اللاإرادي، فمنهم من يجزم بأنه من أهل النار، و منهم من ترك أمر الحكم عليه لله.
فمن خلال قناة الجزيرة و برنامج “الشريعة والحياة” علق المفتي الدكتور يوسف القرضاوي على واقعة انتحار الشاب التونسي محمد البوعزيزي قائلا: [ بأن هذا الشاب كان في حالة غير المالك لإرادته تماما … و أدعو شباب المسلمين لعدم حرق أنفسهم، و يجب أن ندعو و نتضرع إلى الله من أجل أن يمنحه العفو والمغفرة و يتجاوز عنه ] داعيا المسلمين إلى [ أن يشفعوا له و يدعوا الله أن يعفوا له، لأنه تسبب في هذا الخير للأمة و في إنقاذ بلاده و إشعال الثورة ].
و أكد الدكتور عبد المعطي بيومي عضو مجتمع البحوث الاسلامية و عميد كلية أصول الدين الأسبق لجريدة “الشرق الأوسط” [ أنه بالنسبة للشاب التونسي فإن عنصر الإرادة و قصد الانتحار ليس واضحا و غير متوفر، فانتحاره جاء من باب غياب الوعي و الإدراك و الحالة النفسية السيئة، و هو شخصيا لم يعرف أن انتحاره سوف يترتب عليه ثورة أو تغيير، و هو ما يجب أن يكون بوسائل أخرى ليس من بينها قتل النفس، فلا يجب تغيير أمر محرم بأمر محرم آخر، و بالتالي فإن فاعله يأثم إثما عظيما، و يخرج من أقدم عليه من الإيمان، لأنه يظهر السخط و هدم بنيان الإنسان، و الرسول (ص) قال « الإنسان بنيان الله… ملعون من هدمه » و من تم لا يجوز الدعاء له أو الترحم عليه لأنه نوى الكفر و هو يعلم ].
و نصح الشيخ بيومي الشباب الدين تسول لهم أنفسهم هذه الوسيلة للحصول على بعض المكاسب باستخدام وسائل كثيرة بديلة للإصلاح تحفظ النفس والبدن.
وقال محمد رفاعة الطهطاوي شيخ الأزهر الشريف: [ أن القاعدة الشرعية العامة تقول: إن الإسلام يحرم الانتحار تحريما قطعيا لأي سبب كان، و لا يبيح للإنسان أن يزهق روحه كأسلوب للتعبير عن ضيق أو احتجاج أو غضب ]، و أضاف الطهطاوي: [ إن الأزهر لا يمكن أن يعلق على حالات الأشخاص الذين يقومون بحرق أنفسهم، باعتبار أنهم ربما كانوا في حالة من الاضطراب العقلي أو الضيق النفسي، مما دفعهم إلى اتيان أفعالهم و هم في غير كامل قواهم العقلية ] وقال مسترسلا [ لا نستطيع أن نحكم عليهم و أمرهم إلى الله، و ندعو لهم بالمغفرة ].
وفي ما يخص المرجعية الشيعية فإنه صدر عن مكتب الإمام الخامنئي “أن فعل قتل النفس من أجل هدف مهم أو مصلحة كبيرة ليس انتحاراً، بل إنه جهاد” (أنظر ” جواب مرسل في 28 كانون الثاني 2011 بواسطة ممثل غرفة الإسلام الأصيل في غرفة البالوق: [email protected] أو [email protected]”).
و لمعالجة هذه الظاهرة التي تنخر المجتمع و التصدي إليها لا بد من تضافر الجهود و تقاسم المسؤولية بين رجال الدين و الفكر و الأخلاق في توعية أبناء المجتمع بشكل إيجابي و زرع الثقة في انفسهم من أجل ارجاعهم إلى حاضرة الدين والأخلاق والسلوك الحميدة لتكون لهم مرجعية صلبة يستندون عليها للوقوف في وجه صعاب الحياة و مستقبلهم المجهول.
و للدولة القدر الأكبر من المسؤولية للقيام بواجبها نحو مجتمعها و إيجاد الحلول المناسبة لتخفيف معاناة مواطنيها و توفير الاحتياجات الضرورية التي تكفل للفرد والأسرة الحياة الكريمة عن طريق خلق فرص للشغل و مد يد العون للمحتاجين و توفير مرافق حيوية و رعاية صحية و تعليم منتج.
كما يجب على الدولة تكتيف الجهود التي تصب في مصلحة التوجيه و الإرشاد التربوي و النفسي في المدارس والجامعات و المساجد والزوايا، و تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي و خاصة للشباب و للأسر المعوزة، و أيضا تشجيع البحوث الاكاديمية و بالخصوص في علم الإجتماع التي تهتم بظاهرة الإنتحار.
لقد أصبح من الضروري الوقوف على هذه الظاهرة المقيتة التي ما فتئت تتزايد بقوة و تهدد الحياة في المجتمع، و خاصة أن الانتحار لم يعد مقتصرا على فئة بعينها أو مجالا جغرافيا معينا بل يمكن الحديث عن انتقال عدوى بين الشعوب نظرا لما يميزها من بعد احتجاجي مشترك بسبب ظروف القهر و اليأس المطلق.
و قد يكون الانتحار عن طريق الحرق تعبيرا على حالة التمرد والقطع مع ما يعد محرما من الناحية الدينية على اعتبار بأن النار هي الأداة الخاصة بالقصاص الأبدي و هي الوسيلة الإلهية لتعذيب العصاة من بني البشر، فالانتحار حرقا يدفع المنتحر إلى الاعتقاد بأن آلام الحرق يفوق آلام العذاب الذي يواجهه في الحياة بسبب وضعه السيء اجتماعيا و نفسيا و اقتصاديا.
و نختم بقول الدكتور محمود الشريبي أستاذ الحالات الحرجة بمصر [ … فإن الدولة مطالبة بتوفير الرعاية لهذه الفئة خاصة من حيث المعيشة والعمل والسكن حتى لا تواجه باضطرابات نفسية مرضية تنتشر بين الشباب و حتى لا يكون الانتحار ظاهرة في المستقبل ].