الرئيسية آراء وأقلام إدريس الضحاك.. مسيرة رجل دولة بصم تاريخ المغرب بالوفاءوالنزاهة

إدريس الضحاك.. مسيرة رجل دولة بصم تاريخ المغرب بالوفاءوالنزاهة

IMG 2203
كتبه كتب في 27 أغسطس، 2025 - 4:39 صباحًا

بقلم عزيز بنحريميدة

إدريس الضحاك اسم راسخ في الذاكرة القانونية والسياسية المغربية، ورمز من رموز دولة المؤسسات. مساره الممتد على عقود طويلة جعله شخصية جامعة بين الصرامة القضائية ورصانة الفكر الدستوري والقانوني، وبين الرزانة الدبلوماسية والانفتاح على العالم. قليلون هم الذين جمعوا بين كل هذه الصفات، وقليلون هم الذين ظلوا أوفياء لقيم النزاهة وخدمة الوطن بنفس الروح حتى بعد مغادرتهم المناصب الرسمية.

وُلد الضحاك بمدينة القصر الكبير سنة 1939، في مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب وهو يتهيأ لبناء استقلاله. منذ نعومة أظافره، برز نبوغه العلمي، فاختار دراسة القانون، ليتوج مساره الأكاديمي بدكتوراه الدولة في القانون البحري من جامعة نيس الفرنسية، إضافة إلى تكوين متنوع في القانون الجوي والتجاري والمقارن بجامعات بروكسيل وبغداد. هذا التكوين جعله من أبرز الكفاءات القانونية في جيله.

بدأ الضحاك مساره أستاذاً جامعياً، حيث ساهم في تكوين أجيال من القضاة والباحثين. لكن مساره سرعان ما اتجه إلى مواقع المسؤولية، إذ تولى إدارة المعهد الوطني للدراسات القضائية ما بين 1977 و1985، وهو منصب مكنه من ترسيخ رؤية جديدة للتكوين القضائي قوامها الجمع بين العلم والأخلاق. بعدها تولى الأمانة العامة للمنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة، قبل أن يُعين سفيراً للمغرب في سوريا، حيث عُرف بجدّيته ورصانته في إدارة الملفات الحساسة.

غير أن المحطة الأهم في مساره كانت تعيينه سنة 1996 رئيساً أول للمجلس الأعلى (محكمة النقض حالياً)، المنصب الأرفع في هرم القضاء. هناك عمل على صيانة هيبة المؤسسة وترسيخ استقلالها، وأكد أن العدالة ليست فقط نصوصاً وقوانين، بل قيم وممارسات تجسد الثقة في دولة الحق. وفي غشت 2008 عيّنه جلالة الملك محمد السادس أميناً عاماً للحكومة، فظل لسنوات مرجعاً في التدبير التشريعي والقانوني، وعُرف بدقته وصرامته وإخلاصه.

لم يكن الضحاك مجرد إداري أو قاضٍ، بل كان أيضاً مثقفاً وفقيهاً قانونياً مرموقاً. فهو عضو في أكاديمية المملكة منذ 1995، وصاحب مؤلفات ودراسات أغنت المكتبة القانونية المغربية والعربية. ومؤخراً، اختار أن يهدي مكتبته الخاصة للمكتبة الوطنية للمملكة المغربية، بما تحتويه من آلاف الكتب والمخطوطات النادرة، لتكون في متناول الباحثين، في خطوة عكست نُبل الرجل وإيمانه برسالة المعرفة.

يصفه القضاة الذين اشتغلوا تحت إشرافه في المجلس الأعلى بأنه “رجل صارم في الحق، لكنه في نفس الوقت إنساني في تعامله، لا يرفع صوته ولا يستعرض سلطته، بل يُقنع بالحجة والبرهان”. أحد القضاة قال عنه: “كان حريصاً على أن يشعر كل قاضٍ بأن مهمته أمانة، وأن العدالة هي عنوان هيبة الدولة”.

أما زملاؤه في العمل الحكومي، فيروون أنه كان دقيقاً إلى حد يُحسب له، إذ لا يترك صغيرة ولا كبيرة في النصوص القانونية دون أن يتأكد من صياغتها السليمة ومطابقتها للدستور. أحد الوزراء السابقين قال عنه: “كنت أشعر وأنا أشتغل إلى جانبه أنني أمام مرجع قانوني ومؤسسة قائمة بذاتها، يشتغل في صمت بعيداً عن الأضواء”.

حتى الباحثون الجامعيون يكنّون له التقدير الكبير، ويعتبرونه جسراً بين الجامعة والمؤسسات، لأنه ظل وفياً للفكر القانوني ولم يتخل عن دوره التكويني حتى وهو في أرفع المناصب.

بعيداً عن الرسميات، يجمع كل من عرف إدريس الضحاك على أنه رجل متواضع، بسيط في حياته اليومية، لا يبحث عن الظهور ولا عن الألقاب. كان يؤمن أن المناصب زائلة، لكن ما يبقى هو السيرة الطيبة والعطاء. وهذا ما جعله يحظى بتقدير واسع ليس فقط داخل المغرب، بل أيضاً على المستوى العربي والدولي، حيث نال أوسمة رفيعة من دول عدة، بينها وسام العرش بدرجات مختلفة ووسام الاستحقاق الفرنسي والإسباني والسوري.

إن الحديث عن إدريس الضحاك هو استحضار لمسار طويل لرجل دولة بامتياز، كرّس حياته لبناء مؤسسات قوية، وإرساء تقاليد رصينة في القضاء والحكومة والدبلوماسية. تكريمه اليوم ليس فقط اعترافاً بمسيرته الشخصية، بل تكريم لجيل كامل من رجالات الدولة الذين آمنوا أن خدمة الوطن شرف ورسالة. سيظل اسمه محفوراً في الذاكرة المغربية كرمز للنزاهة والوفاء والانضباط، وكرجل جمع بين الفكر والممارسة، وبين الأخلاق والمسؤولية.

مشاركة