أسس لترسيخ حكامة قضائية فعالة في الأوقات العادية و في الأزمات الاستثنائية

نشر في: آخر تحديث:

د/ خالد الادريسي

تعتبر الحكامة من بين أهم المفاهيم المتداولة في الوقت الحالي من أجل الوصول إلى أهداف إيجابية في المجال الذي تعتمد فيه ، و قد انتقل هذا المفهوم من ميدان الإقتصاد و المقاولات إلى ميادين أخرى حققت من خلاله نتائج إيجابية و مبهرة . و يعد مجال العدالة من المجالات الجديدة التي أصبح يستعمل فيها مفهوم الحكامة من أجل تحقيق النجاعة القضائية . غير أنه لا يمكن اعتبار هذا المفهوم مفهوما شكليا أو فولكلوريا قد يستعمل من أحل الاستهلاك الإعلامي و التواصلي ، و لكنه يبقى مفهوما محوريا و رئيسيا من أجل تطوير مجال العدالة بشكل يضمن فعاليتها بالشكل الذي يسمح لها بالقيام بأدوارها الأساسية في تصريف العدل بين المتقاضين و بالتالي تحقيق الأمن القضائي . فالوصول إلى الحكامة القضائية يعني بالضرورة تعزيز و تثمين المكاسب السياسية و الحقوقية و التنموية التي تبقى من أهم الأسس التي تحدد وضعية الدولة من حيث مدى تقدمها أو تأخرها في هذا المجالات الأساسية ، و لذلك تجد على أن من أهم المجالات التي تقوم عليها النماذج التنموية في جميع دول العالم هو التركيز على تطوير قطاع العدالة باعتباره القطاع الذي يقود و يؤثر و يواكب باقي القطاعات الأخرى التي تحتاج الى عدالة قوية و ناجعة و شفافة من أجل ان تقوم بأدوارها بشكل يحقق التنمية المستدامة داخل البلد و لكن الحكامة في مجال العدالة ليست مجرد مبادئ فرعية أو تدبير مرحلي يومي و جزئي ، و لكنها بالأساس مبادئ و اختيارات كبرى يجب دراسة أهميتها وجدواها دراسة عميقة قبل أن يتم تبنيها و إعمالها ، و لذلك فأي خلل في هذه الاختيارات الكبرى ستجعل ما بني عليها من مبادئ فرعية مختلة و ستؤدي في النهاية إلى انعدام لمفهوم الحكامة أو على الأقل الانتقاص منه بشكل يجعل مجال العدالة لا يقوم بالدور المنوط به . و لذلك سنحاول أن نختبر مجموعة من الأسس و التوجهات الكبرى للعدالة المغربية المرتبطة بمبدأ الحكامة ، لنرى كيف يمكن اعتبارها أسس مهمة و منتجة لخلق نموذج مهم و متطور لحكامة رشيدة في مجال العدالة ، أو على العكس من ذلك تعبر عن تراجع خطير قد يضر بحكامة هذا القطاع الحيوي بشكل يؤثر غلى دور العدالة في تقوية باقي بنيات الدولة التي تحتاج الى عدالة قوية و حكيمة و رشيدة ؟

و لكن قبل ذلك و قبل التفصيل في أسس الحكامة و مدى تجلياتها داخل منظومة العدالة بالمغرب ، يحق لنا طرح تساؤل جوهري يتعلق بمدى تعلق قرار توقيف العمل بالمحاكم لمواجهة تداعيات و آثار فيروس كوفيد 19 صائبا و سليما و مبنيا على أسس قانونية وواقعية سليمة ؟

نعم ، لاشك أن الظهور المفاجئ لهذه الجائحة و تأثيره المذهل على كافة قطاعات و مجالات الدولة ، جعل هناك كثير من الخوف و الهلع الذي ينتاب الدولة بجميع مكوناتها أفرادا و مؤسسات ، و أيضا جعل هناك نوع من الارتباك في تحديد التدابير و اتخاد القرارات لمواجهة آثار الجائحة . و من بين القرارات التي آراها متسرعة و مرتبكة في مواجهة هذه الآثار ما صدر عن السلطات الرسمية بخصوص توقيف العمل بالمحاكم الا ما بعد الاستثناءات القليلة ، و هو قرار لا ينضبط مع قواعد الحكامة التي تفرض توفير جميع الشروط و الضمانات من أجل السير العادي لمرفق حيوي في البلاد و هو قطاع العدالة . فمن جهة يبدو أن متخذي هذا القرار إختاروا الحل السهل و غير المكلف و الذي لا يرتب أي مسؤولية لدى مصدره ، و بالتالي لم يتم بدل مجهود كاف من أحل خلق و ابداع حلول أكثر ابتكارا عن طريق استغلال الإمكانيات المسطرية و التقنية من أجل الحفاظ على استمرارية المرفق و الحفاظ على حق المواطنين الدستوري و الأساسي في العدل و تصريف العدالة ، لا سيما بالنسبة للمساطر الكتابية التي كان يسهل إيجاد حلول من أحل الحفاظ على استمراريتها ودوام إجراءاتها . لا سيما أن هناك قطاعات و مجالات اقتصادية و اجتماعية استمرت في عملها بشكل شبه عادي طيلة الجائحة و لم تتأثر بآثار هذه الأخيرة ، فلماذا توقف قطاع العدالة رغم أنه حيوي و مركزي في أي نموذج تنموي سواء في الظروف العادية أو الاستثنائية . كما أنه كان من شأن الإستمرار في عمل المحاكم أن يحقق العديد من المزايا التي اندثرت في ظل قرار التوقيف ، و من بين هذه المزايا على سبيل المثال لا الحصر ، نجد استمرار العمل في قطاع حيوي و مؤثر على باقي القطاعات الأخرى ، و أيضا ضمان تصريف العدالة و تمكين المواطنين من حقهم في المحاكمة العادلة ، و من جهة أخيرة تمكين العديد من المهنيين من غير الموظفين و القضاة الذين لهم أجور ثابتة ، من الحفاظ على استقرار أوضاعهم المادية التي تضررت نتيجة قرار التوقيف ، و هكذا على سبيل المثال تضرر رجال و نساء الدفاع بشكل كبير نتيجة هذا التوقيف و اضطروا الى طلب المساعدة من مجالس هيئاتهم في إطار دعم مباشر من أحل تدبير ضروريات حياتهم و حياة أسرهم اليومية ، و بالتاليفتوقيف العمل بالمحاكم أضر بجميع من لهم علاقة بهذا المحال من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية و الحقوقية و المهنية . 

و بغض النظر عن هذا النقاش أعلاه حول مدى انسجام قرار توقيف المحاكم مع قواعد الحكامة في تدبير قطاع العدل ، فإنه يمكن القول أن الحكامة بصفة عامة و في مجال العدالة و القضاء بصفة خاصة ، تصطبغ بعدة مقومات تشكل مبادئ ثابتة ينبغي احترامها لتكريس حكامة ناجعة ، و من هنا سنعرج على أهم هذه المبادئ و اختبارها مع ما اتخذ من قرارات و تدابير في الأوقات العادية و الاستثنائية ، و ذلك من أجل الخروج بخلاصات حول ما إذا كانت لدينا حكامة قضائية مميزة أم أنها تعاني من عدة نواقص تؤثر في نجاعتها و فاعليتها ؟

لعل أول عنصر يمكن التحدث عنه من أجل إبراز مدى وحود مقومات حكامة رشيدة داخل منظومة العدالة هو ما يتعلق باستقلال الجهاز القضائي و تعدد الفاعلين الرسميين في مجال العدالة . ذلك أنه منذ وقت قصير كان الشأن القضائي كله تحت إمرة وزارة العدل التي كان تشرف على القضاء الجالس و القضاء الواقف و أيضا إدارة السجون ، قبل أن تنفصل كل هذه المؤسسات عن وزارة العدل ، بحيث أصبح القضاء الجالس خاضعا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و القضاء الواقف خاضعا لرئاسة النيابة العامة ، بينما إدارة السجون تابعة للمندوبية السامية لإدارة السجون ، و لم يتبقى لوزارة العدل سوى ادارة الشؤون الادارية و المالية لموظفي الادارة القضائية . و بالتالي أصبحنا أمام تعدد الفاعلين الرسميين في مجال العدالة ، و لذلك يطرح السؤال حول ما إذا كان انفصال و استقلالية هذه الأجهزة الرسمية عن وزارة العدل ، و تعدد الفاعلين الرسميين قد خدم بالفعل الحكامة القضائية و جعلها تقوم بالدور المنوط بها ؟

من المؤكد أن الاندماج الكلي لتلك الأجهزة سابقا في وزارة العدل ممثلة السلطة التنفيذية المكلفة بقطاع العدالة كانت تعتريه الكثير من المساوئ لعل أبرزها تحكم السلطة القضائية في المرفق القضائي آنذاك و المس باستقلاليته المفترضة ، لكن ينبغي الإعتراف أن تكريس الإستقلالية التامة عن وزارة العدل و تعدد الأجهزة الرسمية المقررة في الشأن القضائي أدى بدوره إلى وجود مجموعة من المشاكل الناجمة أساسا عن وجود إرتباك في تحديد الأهداف و تنسيق الجهود من أجل ترسيخ حكامة أكبر داخل القطاع القضائي ، و هكذا اصبح يلاحظ أن هناك أحادية على مستوى القرارات الكبرى من دون تنسيق بين باقي الفاعلين الآخرين ، مع العلم أن الشأن القضائي و مجال العدالة يجب أن ينبني على تصورات كلية و أهداف كبرى قصيرة و متوسطة و بعيدة المدى ، تنخرط في تنزيلها و أجرأتها جميع مكونات قطاع العدالة في إطار من التنسيق و التلاؤم . و قد ظهر جليا هذا الجانب إبان تدبير أزمة جائحة كوفيد 19 إذ أبانت أن كل فاعل من هؤلاء الفاعلين الرسميين في مجال العدالة اتخذ قراراته بشكل فردي بناء على المعطيات التي تفيده و تخدم تدبيره الجزئي لقطاعه دون أن تهدف الى خدمة مرفق العدالة بشكل كلي ، فقد لاحظنا أن وزارة العدل فرضت المحاكمة عن بعد بشكل متسرع من دون أن تكون هناك دراسة جدوى هذه الإمكانية المسطرية التكنولوجية و مدى إمكانية تطبيقها بجميع شروطها من طرف الفاعلين الرسميين و غير الرسميين و هو ما جعل هذه التقنية تساهم في خلق نوع من الارتباك في تدبير هذا النوع من المحاكمات و أيضا في المساس ببعض ضمانات المحاكمة العادلة . و نفس الأمر بالنسبة للمندوبية السامية لإدارة السجون التي اتخذت قرار انفرادي بعدم نقل المعتقلين إلى المحاكم من أجل محاكمتهم بصفة حضورية داخل الجلسات ، و نفس الشيء بالنسبة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية و أيضا بالنسبة لرئاسة النيابة العامة ، و لعل أبرز مثال على ذلك بالنسبة لهذه الأخيرة هو قرارها من خلال منشورها الأخير باستئناف العمل العادي الى ما بعد شهر يوليو ، و هو قرار انفرادي يضرب في الصميم كل ما اتفقت عليه اللجان الثلاثية و الرباعية داخل دوائر محاكم الاستئناف التي اتفقت على مقتضيات مخالفة لا سيما من جهة بداية العمل بالمحاكم . و لذلك فاستقلال هذه الأجهزة عن وزارة العدل أدى إلى وجود نوع من الارتباك في اتخاد القرارات التي تكون في الغالب ممتدة الى جميع مجال العدالة ، كما أدى أيضا الى نوع من التنافس من أحل إثبات حجم القوة و التأثير داخل قطاع العدالة . و هذه ليست دعوة للتراجع على الاستقلالية ، و لكن أظن أن هذه الأخيرة يجب أن تبقى في إطار ما هو قضائي محض يرتبط بالتصريف اليومي و الروتيني للعدالة عبر الإشراف على الأجهزة الامنية و المتابعات و المحاكمات و الطعون و ما الى ذلك من إجراءات قضائية بالمعنى الضيق . على أن تبقى الوزارة الوصية مكلفة بكل ما يتعلق بوضع السياسات الشمولية و كل ما يتعلق بالتدبير الإداري و المالي للقطاع ، و ذلك من أجل ترسيخ حكامة قضائية واضحة و فعالة ، و تفادي الارتباك و عدم التجانس الناتج عن تعدد و تنوع الفاعلين و المتدخلين في قطاع العدالة .

و إذا كان ما سبق يتعلق بمبدأ الاستقلالية الذي يعتبر من أهم مبادئ الحكامة ، فإنه أيضا يوجد مبدأ آخر لا يقل أهمية وهو مبدأ التشارك و التشاور قبل اتخاذ التدابير و القرارات ، و قد لاحظنا كيف تعامل المتدخلين الرسميين في اتخاد القرارات أثناء تعاملهم مع أزمة كوفيد 19 ، سواء في التنسيق و التشاور فيما بينهم أو فيما بينهم و بين باقي المتدخلين غير الرسميين لا سيما مهنة المحاماة ، و هكذا يلاحظ أنه أصبحت تغيب المقاربة التشاركية المندمجة في الكثير من القرارات و التدابير التي اتخذتها الأجهزة الرسمية المتدخلة في ميدان العدالة ، رغم أنه من الواجب التشاور و إشراك باقي الفاعلين غير الرسميين من المهنيين المرتبطين بمجال العدالة من محامين و مفوضين قضائيين و خبراء و تراجمة يساهمون كلهم في بلورة و تطبيق المساطر القضائية كل بحسب وضعه و إختصاصه . و تبقى أهم مهنة ذات إختصاص رئيسي و محوري في المساطر القضائية و في تصريف العدالة هي مهنة المهنة التي تجسد و تكرس حق المواطنين في الدفاع حماية لحقوق و مصالحهم ، و لكن رغم أهمية المحاماة في منظومة العدالة الا ان الكثير من القرارات التي صدرت سواء قبل أزمة جائحة كوفيد 19 أو بعدها ، قد تم تغييبها و عدم إشراكها قبل طرح و إصدار هذه القوانين أو القرارات أو التدابير ، و يمكن التدليل على ذلك من خلال إصدار وزارة العدل لقانون التقاضي عن بعد دون إستشارة أو إشراك المؤسسات المهنية للدفاع ، رغم مساسه المباشر بعمل المحامي و بضمانات المحاكمة العادلة و حق الدفاع ، و أيضا توجيه الرئيس المنتدب للسلطة القضائية لمنشور يحث فيه القضاة على ضرورة تجهيز الملفات و تحرير مشاريع الأحكام و القرارات ، دون الرجوع أو التشاور مع جسم الدفاع الذي يبقى المعني الأول بتجهيز المساطر من خلال أن موقعه الإجرائي يجعل أي إجراء أو تجهيز للمسطرة من دون وجود بصمته ، خرقا لحقوق الدفاع و انتقاصا من ضمانات المحاكمة العادلة التي هي أساس الحق و العدل . و نفس الأمر بالنسبة للمندوبية السامية للسجون التي قررت بشكل أحادي و من دون استشارة الفاعلين المعنيين و اهمهم الدفاع بالخطوات التي سطرتها لمواجهة آثار أزمة كوفيد 19 ، و لعل أهمها اتخاذها قرار بعدم نقل المعتقلين من السجون الى المحاكم من أجل الحضور لجلسات المحاكمة و أيضا منع المحامين من التخابر المباشر مع مؤازريهم المعتقلين في المؤسسات السجنية و فرض التخابر عن طريق الهاتف بكل ما يشكله من تضييق لهذا التخابر و مس بمبدأ السرية المفروض إحترامه و تحصينه ضمانا لحقوق المتهم و حقوق الدفاع ، و أخيرا قرار المندوبية بتفتيش المحامي قبل ولوجه المؤسسة السجنية من أجل التخابر مع مؤازره ، الذي صدم جميع مكونات جسم الدفاع ، ولو أنه تم التراجع عنه فيما بعد استجابة لضغوط مارسها رجال و نساء الدفاع ، إلا أنه يؤكد أن قرارات هذه الأجهزة الرسمية المتدخلة في العدالة ، غالبا ما تكون أحادية و منغلقة و لا تشرك باقي المتدخلين في المجال ، مما يجعلها قرارات و تدابير مرفوضة من باقي الأطراف ، و تكون هناك صعوبات و عراقيل من أجل تنفيذها ، و هذا ما يضرب مبدأ الحكامة القضائية في العمق و يجعلها لا تتحقق بالشكل المفروض أن تتحقق به ، و بالتالي يكون تأثير ذلك سلبيا على مجال العدالة .

كما يبقى مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من أهم المبادئ التي ترسخ الحكامة بشكل عام و في الميدان القضائي على وجه الخصوص ، و لذلك نص عليه الدستور و جعله مبدأ دستوريا راسخا ، من أجل ترسيخ المزيد من الشفافية في تدبير الشأن العمومي . فالمسؤولية ليست إمتياز أو تشريف فحسب ، و لكنها أيضا تكليف و محاسبة ، و على كل من يتقلد مسؤولية عمومية أن يقدم تقريرا عن إنجازاته و عن الكيفية التي دبر بها القطاع المسؤول عنه إداريا و ماليا . و في هذا الصدد أؤكد أن قطاع العدالة يعاني في هذا الجانب الاستراتيجي المتعلق بترسيخ مبدأ المحاسبة ، و لكن خين أقول المحاسبة لا أعني إمكانية محاسبة الأحكام و القرارات القضائية عن طريق الطعن فيها بطرق الطعن المتاحة قانونيا ، و لا أعني بها محاسبة القضاة عن طريق التجريح و المخاصمة ، و لكن أقصد بالأساس تلك المحاسبة السياسية و الادارية و المالية المفروضة في الأجهزة الرسمية المتدخلة في مجال العدالة و هي المجلس الأعلى للسلطة القضائية و رئاسة النيابة العامة و المندوبية السامية لإدارة السجون ، لا سيما بعض استقلالها عن وزارة العدل ، و تحكمها في رسم توجهات القطاعات التي تدبرها و تحكمها في ميزانية مالية ضخمة . و تفاديا للإطناب سنعطي مثالا برئاسة النيابة العامة فقط ، و هو نموذج يمكن تعميمه . فلقد كانت هناك دعوات منذ مدة طويلة من جميع مكونات العدالة بضرورة إستقلال النيابة العامة على وزارة العدل بصفتها ممثلة السلطة التنفيذية ، على إعتبار أن إستقلال القضاء الجالس و الوقف يعتبر من بين أهم المبادئ التي تؤكد ترسخ مبدأ فصل السلط الذي يشكل أساس الديموقراطيات الحديثة . لكن بعد أن أصبحت النيابة العامة مستقلة بعد دستور 2011 ، لوحظ أنه لم يحدث تغيير كبير على عمل النيابة العامة رغم الاستقلالية المطلقة ورغم الإمكانيات البشرية و المالية المخصصة لعملها . لكن الإشكال الحقيقي يبقى هو مادام أن رئاسة النيابة العامة أصبحت مستقلة و مسؤولة عن وضع السياسة الجنائية ، و أيضا عن تدبير ميزانية مالية ضخمة ، فإنه يفترض أن تحاسب سياسيا من طرف البرلمان ، و أيضا ماليا من طرف القضاء المالي المتمثل في المجلس الأعلى للحسابات ، حتى تتجسد الحكامة و الشفافية في أبهى صورها . فمعلوم أن السياسة الجنائية كانت في السابق من اختصاصات وزير العدل ، و بما ان هذا المنصب الوزاري يمثل مسؤولية سياسية تنفيذية ، فإن الوزير كان مسؤولا سياسيا أمام البرلمان من أجل تبرير مدى نجاح هذه السياسة و يمكن لنواب الأمة أن يناقشوا معه ثغرات هذه السياسة الجنائية ، بينما لم يلجأ السيد رئيس النيابة عن العامة منذ تعييه الى مناقشة سياسته الجنائية أمام البرلمان من أحل محاسبته سياسيا حول مدى فعالية هذه السياسة الجنائية ، و بالتالي فغياب المحاسبة السياسية عن طريق الرقابة التي تفرضها المؤسسة التشريعية يؤدي إلى غياب عنصر من أهم العناصر المكونة لمبدأ الحكامة ، وهو ما يؤثر بشكل سلبي في عمل النيابة العامة و يجعلها تشتغل من دون ضغوط إيجابية قد تجود من عملها و تجعله أكثر حكامة . نعم ، من الأكيد أن مؤسسة رئاسة النيابة العامة تقوم برقابة ذاتية و داخلية على عملها و لكنها آلية رقابية غير كافية ، لأن مفهوم المحاسبة الدستوري و الذي يعتبر العمود الفقري لمبدأ الحكامة هو المحاسبة الخارجية التي تكون أكثر موضوعية في تقييم آثار المسؤولية . و ما قلناه على الرقابة السياسية عن طريق البرلمان يمكن تأكيد مع المحاسبة المالية عن طريق أجهزة الرقابة المالية و لا سيما المجلس الأعلى للحسابات ، و هذا ليس شك في نزاهة و نظافة يد المسؤولين على هذه المؤسسة القضائية المعروفين بنزاهتهم و شفافيتهم ، و لكن لأن ترسيخ الحكامة يقتضي إضفاء رقابة خارجية إدارية و مالية ، و بالتالي فغياب المحاسبة في الإطار المتحدث عنه أعلاه يجعل هناك ابتعاد عن قواعد و مبادئ الحكامة داخل هذا المرفق ، و يمكن قياس كامل قلناه عن رئاسة النيابة العامة على باقي المؤسسات القضائية و شبه قضائية المتدخلة في مجال القضاء و العدالة . 

و من أجل ترسيخ حكامة ناجعة في الميدان القضائي ، يجب أيضا الحسم في الاختيارات الكبرى المتعلقة بالتنظيم القضائي و المساطر القضائية ، من خلال اتباع نماذج أثبتت فاعليتها في تجويد المحاكمات المدنية و الزجرية ، و في تدبير الزمن القضائي . لأنه يلاحظ أن الكثير من الاختيارات يطبعها الارتباك و التغيير و التعديل المستمر من دون وحود أي أساس لذلك ، فعلى سبيل المثال يعد خيار التخصص القضائي إحدى الخيارات التي تم تثبيتها و التخلي عنها مرارا و تكرارا ، لكن الكل آمن ان إنشاء المحاكم الادارية و المحاكم التجارية و فيما بعض محاكم الاستئناف التجارية و محكمتي الاستئناف الإداريتين ، هو أوجه نهائي نحو التخصص ، في اتجاه تجويد العمل القضائي و ترسيخ دور القضاء في التنمية الحقوقية و الاقتصادية و الاجتماعية ، إلا أنه يلاحظ بالتأمل في مشروع قانون التنظيم القضائي تخلي المشرع جزئيا عن نظام التخصص الذي سبق أن أرساه و كنا نظن ان سيتم استكمال لبناته بإنشاء مجلس الدولة كمحكمة عليا يتم الطعن أمامها في الأحكام و القرارات الصادرة عن القضاء الاداري ، ذلك أن مشروع قانون التنظيم القضائي نص على ضرورة إحداث غرف إدارية و تجارية لدى المحاكم الابتدائية ذات الولاية الشاملة ، و هو توجه و إن كان يتلاءم مع مبدأ تقريب القضاء من المتقاضين ، إلا أنه يضرب في العمق مبدأ التخصص لا سيما في القضايا التجارية و الادارية التي تتطلب تكوين خاص و دراية بهذا المجال التي يفتقده القضاة الذين يشتغلون في المحاكم الابتدائية العادية ، و بالتالي فإن هذا التعديل الجديد من شأنه أن يؤدي إلى نوع من الارتباك في البت في هذه النزاعات ، و هو ما سيضر بتصريف العدالة في هذا المجال المتخصص ، و أيضا سيؤدي تنوع الجهات القضائية التي لها الحق و الاختصاص في البت في هذه القضايا ، الى تعارض مع ما تفرضه الحكامة القضائية من توجهات ثابتة و راسخة يمكن تدعيمها و لكن لا يمكن التراجع عنها . و بخصوص هذه الاختيارات الكبرى دائما يمكن القول أن من أهم آليات ترسيخ الحكامة في النظام القضائي المغربي ، هو إصلاح محكمة النقض ، التي يجمع الكل على أنها لا تقوم بالدور المنوط بها في توحيد تطبيق و تفسير و تأويل القانون ، و لا تحقق الأمن القضائي الذي يفترض أن تكون حصنه الحصين ، ذلك أنه بتتبع عمل محكمة النقض يتبين أن لا يقوم بتوحيد توجهات المحاكم الدنيا بقدر ما يكرس الاختلاف انطلاقا من تضارب غرفه و أقسامه في الكثير من الإشكاليات القضائية التي يجب أن تكون موحدة و ثابتة ، و هذا الإشكال يعود بالأساس الى اتباع نظام النقض الفرنسي الذي يعتبره الفقه القانوني الفرنسي أسوأ نظام نقض في العالم ، و لذلك فإن الحكامة القضائية تتطلب إصلاح نظام النقض ، و لما لا الانفتاح على أنظمة قانونية و قضائية أثبتت قوتها و نجاعتها كالأنظمة القانونية و القضائية الانحلوساكسونية ، و أن لا نبقى رهينين بما يفرضه علينا النظام القانوني و القضائي الفرنسي الفاشل . و لعل أهم إصلاح يحب أن ينصب على نظام النقض بالمغرب هو المتعلق بضرورة إحداث إلية انتقائية للقضايا بحيث لا يسمح بالطعن الا في القضايا التي تثير إشكاليات عميقة تحتاج لتدخل قضاة النقض ، بغض النظر عن قيمتها المالية ، و هذه الآلية ستمكن من تحقيق مجموعة من المكتسبات سواء على مستوى توحيد الاجتهاد القضائي ، أو على مستوى القضاء على ظاهرة تخلف القضايا التي تصل الى الآلاف و التي تجعل محكمة النقض شبيهة بمحكمة درجة ثالثة . و بالتالي فإن هذا الإصلاح الجوهري سيؤدي لا محالة الى ترسيخ حكامة قضائية ناجعة بالنظر للتأثير الذي تخلقه محكمة النقض غلى باقي المحاكم الدنيا و أيضا على النظام القضائي برمته . و أخيرا ، فإنه يمكن الجزم على أن أهم عنصر محرك و فعال لتوطيد حكامة قضائية مثالية و مؤثرة ، هو المتعلق بالتنزيل و إرادة الإصلاح ، فإذا لم يتم تنزيل و أجرأة الخطط و الاستراتيحيات و القوانين و التدابير ، و ادا لم تكن هناك إرادة سليمة و ثابتة من أجل الإصلاح ، فإن باقي تدابير الحكامة التي سطرناها أعلاه ستبقى حبرا على ورق . و هكذا يمكن ان نستدل على ذلك بتوصيات ميثاق إصلاح منطومة العدالة التي عملت وزارة العدل على بلورتها بشراكة مع مع باقي الفرقاء في محال العدالة سواء من الرسميين أو غير الرسميين ، و أسفرت على الخروج بمجموعة من التوصيات التي كانت محل إجماع في غالبيتها ، كما أن ما ميز هذا الميثاق هو لنه وضع جدولة زمنية من أجل تنفيذ هذه التوصيات ، الا أنه للأسف بعد مرور أزيد من سبع سنوات لم يتم تنزيل الا جزء ضئيل من هذه التوصيات رغم أهميتها الكبيرة في النهوض بمجال العدالة و ترسيخ حكامة قضائية بناءة ، و يمكن أن نعطي مثال على ذلك بمشروع رقمنة المحاكم في أفق الوصول إلى محكمة رقمية ، فالملاحظ أن الميثاق حدد في توصياته أجل سنتين لتنزيل هذه المقتضيات التي فرضها مشروع رقمنك المحاكم ، الا انه منذ صدور الميثاق سنة 2013 الى الان لم يتم هذا التنزيل و التطبيق ، وهو ما يبين أن أكبر إشكال لدينا ليس هو بلورة القوانين و وضع الخطط و الاستراتيجيات ، و لكن في تنزيلها و تطبيقها و إعمالها ، و هنا يمكن ان نتحدث عن الإرادة الحقيقية في الإصلاح . مع العلم أنه لو تم تطبيق هذه المقتضيات الرقمية الواردة في توصيات الميثاق ، لما اضطرنا الى توقيف العمل بالمحاكم نتيجة التأثيرات التي خلقها وباء كوفيد 19 ، و لاستطاعت المحاكم العمل و تصريف القضايا و الحفاظ على حق المواطنين في الحق في العدالة ، و المهنيين من الحق في العمل و عدم التأثر ماليا و إجتماعيا حراء الجمود الذي يعرفه هذا المحال إبان هذه الأزمة التي كشفت العديد من عيوب نظامنا القضائي بنيويا و هيكليا و موضوعيا . كما أن صدور بعض القوانين عن السلطة التنفيذية و تقبلها بصدر رحب ، يؤثر بشكل كبير على سمعة و مصداقية مرفق العدالة الذي يجب أن يبقى في منأى عن أي إضعاف أو تحجيم ، و هكذا يمكن التأكيد على أن المادة التاسعة من قانون المالية لسنة 2020 التي قيدت تنفيذ الأحكام و القرارات ضد الدولة ، ضربت في الصميم هيبة القضاء و قوة الشيء المقضي به ، كما اضرت بمبدأ الفصل بين السلط ، و جعلت الأحكام و القرارات الصادرة عن القضاء و لا سيما القضاء الاداري مجرد حبر على ورق ، وبالتالي فإن قانون المالية في مادته التاسعة دمر مفهوم الحكامة الذي تم الاشتغال على ترسيخه منذ سنوات ، ولذلك فإن أي استراتيجية حكماتية تبقى مجرد سراب أمام صدور قوانين تقتل الأحكام و تفقدها أي جدوى ، مع العلم أن إصدار الحكم العادل و تنفيذه بشكل سريع هو أساس العمل القضائي ، وهو مغزى كل سياسية ترمي ابى حوكمة قطاع العدالة . 

اقرأ أيضاً: