الرئيسية آراء وأقلام أجمل ما قيل في تأبين المرحوم محمد اللباخ

أجمل ما قيل في تأبين المرحوم محمد اللباخ

FB IMG 1490174831727.jpg
كتبه كتب في 22 مارس، 2017 - 9:28 صباحًا

 

محمد اللباخ

يصعب اختزال الراحل محمد اللباخ في بضع كلمات، فالرجل الذي فاضت روحه على ضفاف قلبه المثخن بنوائب الحياة، فجر أحد حزين، عاش مجد الأيام وربيعها، فدانت له سهلة بموفور الصحة، وهيلمان السلطة، وزينة البنين…مثلما عاش اضطراب الأوقات المرة وخريف السنين فسلبته التوهج و العافية، وتنكر الصحاب فغدا كمالك الحزين.

كان خريج الفوج 16  نموذجا للإنسان العصامي المكافح، الذي نحث اسمه الخاص في المشهد القضائي بهمة عالية وإرادة لا تلين، كان نموذجا للقاضي المجرب الذي عركته الحياة بعدما خبر دروبها، وأقبل عليها بسخاء ويقين، غارفا من حكمة التجارب ما جعله قادرا على فهم النسق المعقد للالة القضائية، والاستيعاب العميق لتضاريسها الوعرة من وارزازت، إلى الدارالبيضاء، ومن خنيفرة إلى ابن سليمان. كان رحمة الله عليه عارفا بالرجال، راويا ثقة للوقائع والمواقع.

تعرفت عليه أول مرة ذات مرور جميل بابتدائية خنيفرة حينما كان وكيلا للملك لديها صيف 2005، قدمني له رئيس المحكمة الأستاذ بوزيان في إطار أعراف البداية، سألني عن عنواني بالبيضاء، فأخبرته أنني تسعكت في درب لوبيلا والمدينة القديمة فأشرقت ابتسامته الشهيرة ليخبرني انه ابن حي العنق القريب من لوبيلا، فسرت بيننا كمياء غريبة، وسرحت به الذاكرة إلى أيام الصبا التي أنفق جزءا كبيرا منها في ضايات مريزيكة، وتقاسمنا المعارف حول الفضاءات المشتركة للهونا الطفولي…كان يتحدث بعفوية خالصة من زيف الكلمات ونبرة الأستاذية التي عادة ما يختارها المسؤول وهو يتقمص دور الواعظ للقاضي المبتديء. وكم أضحكني عندما حذرني إن كنت من أتباع باخوس أن أتجرع نبيذي بعيدا عن أعين العسس المفتوحة على مدينة الفضائح. شكرته على النصيحة وإن كنت صائما عن المدام، وانقطعت بيننا الأسباب إلى أن التحقت باستئنافية البيضاء ووجدته بها نائبا للوكيل العام بعدما طلب الاعفاء من مسؤولية النيابة العامة بابن سليمان.

وعندما كتب لي أن أعاود الرجوع إلى خنيفرة، أخبرني العديد ممن اشتغل بجانبه عن أسلوبه المتميز في التعاطي مع مشاكل مدينة صغيرة في بعدها الجغرافي، معقدة بملفاتها الملتهبة، وكيف كان قادرا على فك شيفرة قنابل آل أمحزون، وإبطال مفعول الألغام المزروعة على طول الطريق الملتوي بين خنيفرة ومكناس، محققا السلم الاجتماعي، وباعثا الثقة والطمأنينة في نوابه الذين كان يشاركهم المأكل والمشرب في بيثه ليلا، حتى إذا عادوا إلى المحكمة، نسوا ما جرى بالأمس وانصهروا في تصفية المشاكل القضائية بمعنويات عالية، وروح أخوية. لم يكن مسؤولا بارد المشاعر، مهووسا بالإنتاج، هيابا من تقارير الإدارة المركزية.

ولأنه صاحب ذاكرة مليئة بالأحداث، كان الجلوس إليه كل صباح بمكتبي تمرينا ممتعا في فهم دروس الحياة وتقلباتها. في الفلاحة كما السياسة وفي القضاء كما القانون. وحتى عندما أنهكه المرض بعدما عمليات القلب المفتوح التي خضع لها، ظل متيقظ الذهن، صائب الرؤية، عالما بقوالب الإدارة، وتقنيات النجاة من فخاخها المنصوبة للقضاة…وبين سطر وآخر من التنفيحة تتفتق عباراته عن معان مليئة بالمرارة عن شبابه الذي أفناه في خدمة وزارة العدل، متنقلا بين فجاج وارزازات، وجبال اخنيفرة، ومنعرجات ابنسليمان، ليستقر به المقام أسدا جريحا في قفص الأيام التي تباطأ إيقاعها لديه، واكتفى منها بالتأمل الصامت لما يحاك في الكواليس، مبديا عندما يستعيد بعضا من عافيته اهتماما لافتا لما يجترحه نادي القضاة من مواقف، ومنوها برجولية  أجهزته التقريرية، مقدما نصائحه الصادقة وتحاليله الثاقبة لمجريات الأحداث بكل جرأة واستقلالية.

جمعة قبل رحيله شاركنا الكسكس في مكتبي، انصرفت إلى الجلسة و تركته بمعية النواب باسما كعادته، مستهزءا من أمراض القلب، وساخرا من مواعظ الأصحاء حول مخاطر التبغ والنشوق. ولم ينس أن يتوجه بخالص الدعاء  لي بالخلاص من جلسة ماراطونية تنعقد ظهيرة الجمعة وتمتد إلى منتصف الليل، لافتا نظري إلى الاهتمام بصحتي التي تستنزفها الملفات هباء ، ضامنا لي عند السقوط آيات الجحود  وألوان الصدود.

مرت جمعة ولم أشاهده، وسألت عنه الأستاذة بنعامر بحكم اشتغالهما معا بالملحقة الاجتماعية فأخبرتني أنه لم يحضر لكونه يعاني ألما في يده، ولم تبد ما يدعو إلى القلق على صحته، فقد اعتدنا على مرضه متلما اعتاد، وظل وجوده بيننا متأرجحا بين الحضور والغياب. ولكن لا أحد كان يعتقد أن يد المنون ستختطفه في غفلة من الوقت.

رحم الله الأستاذ اللباخ فالذين يعرفونه يقولون بأنه عاش عمره الذي شارف على الستين مضروبا في اثنين، عاش الليل موصولا بالنهار….، عاش المجد وعاش الانهيار…، ومات واقفا كالأشجار ، باسقا كنخلة، عصيا على الانكسار.

إنا لله وإنا إليه راجعون

الأستاذ وردي حكيم

مشاركة