بقلم: عثمان لبصيلي
في لحظة سياسية حاسمة يتعاظم فيها وعي المواطن المغربي بمخاطر الفساد وتضارب المصالح، كان يُفترض أن تقود القوى التقدمية، وعلى رأسها حزب التقدم والاشتراكية، جبهة الدفاع عن قيم الشفافية والمساءلة. إلا أن ما وقع خلال مناقشة مشروع قانون المسطرة الجنائية، وتحديدًا المادتين 3 و7، كان صادمًا؛ إذ أقدم الحزب على سحب تعديلاته دون توضيح مقنع، رغم أن هاتين المادتين تمسان جوهر الصراع ضد الريع والفساد، بل تُكرسان تحصينًا قانونيًا خطيرًا للمسؤولين والمنتخبين في تدبير المال العام.
- مضمون المادتين: قانون يُشرعن الحصانة؟
تنص المادة 3 المعدلة على تقييد صلاحيات النيابة العامة في تحريك الأبحاث والمتابعات المتعلقة بجرائم المال العام، واضعةً إياها تحت وصاية الجهات الإدارية، في خرق واضح لمبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في الفصل 128 من دستور 2011. أما المادة 7، فتمنع تحريك الدعوى العمومية ضد مسؤولين دون المرور بمساطر إدارية معقدة، وهو ما يُحوّل الرقابة القضائية إلى إجراء شكلي.
وقد نبّه الدكتور محمد أشركي في كتابه “الرقابة القضائية على قرارات الإدارة” إلى أن “تقييد صلاحيات النيابة العامة هو انحراف تشريعي يُفرغ العدالة من فعاليتها، ويُعطل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.”
- ازدواجية الخطاب: هل انهار المشروع التقدمي؟
حزب التقدم والاشتراكية، الذي طالما بنى خطابه على فضح “زواج المال بالسلطة” و”الفراقشية”، انسحب فجأة من المعركة الدستورية والتشريعية ضد الفساد، دون تقديم تفسير لهذا الانقلاب. هذا التناقض يُعيد إلى الواجهة تحذير عبد الله العروي في “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” حين قال: “غياب الانسجام بين الخطاب والممارسة يُفرغ المشروع السياسي من محتواه الأخلاقي.”
ويتقاطع هذا مع ما كتبه الباحث أحمد بوز (2022) حين وصف تراجع الأحزاب التقدمية بأنه “علامة على أزمة نخبوية تفقد فيها المعارضة وظيفتها التصحيحية وتتحول إلى ديكور ديمقراطي”.
- خطر تمدد الفساد وتقنين الامتياز
القلق يتزايد من توجه تشريعي لإقامة ما يشبه “دولة داخل الدولة”، تكون فيها فئة السياسيين والمسؤولين في مأمن من المراقبة القضائية والمساءلة الشعبية. وقد كشف تقرير Transparency International 2024 أن المغرب ما يزال يسجل مؤشرات مرتفعة في الفساد الإداري بسبب ضعف تفعيل المساءلة القضائية للمسؤولين العموميين.
وفي هذا السياق، يحذر نور الدين الأزرق (2021) في دراسته عن الحوكمة من أن “تحصين المسؤولين عن التدبير العمومي قانونيًا يُنتج مجتمعات مشروخة تحكمها شبكات المصالح بدل المؤسسات.”
أما المفكر Pierre Rosanvallon في كتابه:
La contre-démocratie
، فيوضح أن الديمقراطية لا تقف فقط على صناديق الاقتراع، بل على قدرة المجتمع في مراقبة السلطة بين الفترات الانتخابية، وهو ما تسعى هذه المواد إلى منعه.
- أزمة الثقة وتآكل التوازن الاجتماعي
في دولة تمر بتحولات اجتماعية واقتصادية عميقة، يصبح من الخطر تهديم ما تبقى من آليات التوازن: الرقابة، القضاء، الإعلام، والمجتمع المدني. ما يحدث اليوم هو تغول للفساد محمي بنص القانون، ما يدفعنا لاستحضار عبارة أنطونيو غرامشي الشهيرة في “دفاتر السجن” حين قال:
“الأزمة تحدث عندما يموت القديم ويعجز الجديد عن الولادة، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش.”
خاتمة: هل فقد التقدميون روحهم؟
إن حزب التقدم والاشتراكية، بسحبه لتعديلاته على المادتين 3 و7، لم يخذل فقط قاعدته الشعبية، بل خذل المشروع التاريخي الذي يدّعي تمثيله. وهذا التراجع لا يمكن أن يُفهم إلا في سياق أكبر من التواطؤ الصامت، الذي قد يُفضي إلى تقنين الفساد بدل محاربته.
إننا اليوم في حاجة إلى معارضة شجاعة، قادرة على الصدع بالحقيقة، لا إلى خطابات شعبوية تُفرّغ في دهاليز البرلمان. فالثقة لا تُبنى بالكلام، بل بالمواقف الصلبة، والمسؤولية تُقاس حين يكون ثمنها سياسيًا وأخلاقيًا، لا انتخابيًا فقط.