صوت العدالة
في ظرفية اختلطت فيها المفاهيم وتشابكت فيها الحدود بين الحقيقة والوهم، بات من الضروري التمييز بين ما هو شرف يُعتز به، وما هو جريمة أخلاقية وقانونية ينبغي التصدي لها بكل حزم. فمعرفة الشخصيات العمومية، وعلى رأسها الدكتور محمد عبد النبوي، ليست تهمة، ولا تُصنَّف في خانة الشبهات، بل قد تكون في كثير من الأحيان وساماً معنوياً ورمزاً للاعتزاز، خاصة حين يتعلق الأمر برجل دولة ارتبط اسمه باستقلال القضاء ونزاهته وترسيخ هيبته.
غير أن الخطير، والمستهجن، بل والمدان، هو تحويل هذه المعرفة إلى وسيلة للابتزاز المعنوي، وإلى جسر للتضليل وبيع الأوهام، حين يُوهم البعض الناس بأن قربه من هذا المسؤول أو ذاك يمنحه سلطة التأثير على مسار العدالة، أو القدرة على توجيه القضاة والتحكم في مصائر الملفات والأحكام. هنا تتحول “المعرفة” إلى سلوك منحرف، وإلى جريمة أخلاقية قد ترقى إلى أفعال يعاقب عليها القانون، لأنها تضرب في الصميم مبدأ استقلال السلطة القضائية وتقوض ثقة المواطنين في العدالة.
إن ما صدر عن المهداوي، سواء في مضمون الشريط أو في التعليق الذي واكبه، لم يقف عند حدود النقل أو النقد الإعلامي، بل اتخذ منحى تصعيدياً يوحي للقارئ وللمتلقي بأن هناك صلة خفية أو قنوات تأثير مفترضة على القضاء، في الوقت الذي لا يسند فيه هذا الإيحاء بأي دليل قانوني أو واقعي. وهو ما يمس، بشكل مباشر، بصورة مسؤول قضائي كبير وبهيبة مؤسسة يفترض أن تبقى بمنأى عن معارك شخصية أو صراعات ظرفية.
الأخطر من ذلك، أن هذا التوظيف الإعلامي سعى إلى تقديم الأمر كملف رأي عام، عبر الإصرار على تكرار الاسم وربطه بسياقات غير بريئة، في محاولة لإيهام الجمهور بأن هناك تواطؤاً أو تدخلاً محتملاً أو تأثيراً ممكناً في مسار القضاء، وهو ادعاء لا يرقى إلا إلى مستوى التشويش على الحقيقة وضرب ثقة المواطن في المؤسسات
إن الإيهام بإمكانية التدخل في القضاء، تحت مظلة أسماء وازنة، لا يمس فقط صورة المسؤول المعني، بل يسيء إلى مؤسسة القضاء برمتها، ويزرع الشك في نفوس المتقاضين، ويغذي ثقافة الريع والعلاقات المشبوهة، ويحوّل العدالة من ميزان للإنصاف إلى سوق للوهم والمساومات. وهو ما لا يمكن أن يقبله ضمير حي، ولا دولة تحترم نفسها، ولا مجتمع يطمح إلى سيادة القانون.
والواقع أن الدكتور محمد عبد النبوي، على غرار باقي المسؤولين الكبار في الدولة، أكبر من أن يُزَجَّ باسمه في حسابات صغرى أو استغلالات رخيصة. فهو رجل قانون بامتياز، عُرف بمواقفه الصارمة في الدفاع عن استقلال القضاء، وبجهوده المتواصلة في تطهير الحقل القضائي من كل الشوائب التي تعكر صفوه وتسيء إلى صورته. مساره المهني يشهد على انخراطه الدائم في معركة بناء سلطة قضائية مستقلة، قوية، ومحصنة ضد كل أشكال الضغط والتأثير.
إن الزج باسم مسؤول قضائي في معركة إعلامية ضد هيئة دستورية كالمجلس الوطني للصحافة لا يمكن اعتباره سوى محاولة للضغط غير المباشر، أو لاستدرار التعاطف، أو لإعادة توجيه البوصلة من صلب الإشكال إلى هوامش مثيرة للرأي العام. وهي ممارسة تفتقر إلى الحد الأدنى من المسؤولية المهنية، وتُسيء إلى المهنة الصحفية بقدر ما تسيء إلى المؤسسة القضائية.
فالدكتور محمد عبد النبوي ليس طرفاً في هذا الصراع، ولم يصدر عنه أي موقف، مباشر أو غير مباشر، يبرر هذا الزج باسمه. بل إن مساره يشهد على العكس تماماً: رفض أي تدخل، صيانة صارمة لاستقلالية القضاة، ودفاع مستمر عن تحصين العدالة من كل أشكال الضغط أو التوظيف السياسي والإعلامي.
إن تحويل اسمه إلى أداة في معركة ضد المجلس الوطني للصحافة لا يخدم الحقيقة، ولا ينتصر لحرية التعبير، ولا يعزز الثقة في الإعلام، بل يفتح الباب أمام خطابات شعبوية خطيرة تُغذي الشك وتزرع الوهم وتخلق أعداء متخيلين بدل البحث عن حلول حقيقية للأزمات المهنية والمؤسساتية.
فالخلاف مع المجلس الوطني للصحافة، إن وُجد، يجب أن يُدار في إطاره القانوني والمؤسساتي، لا عبر تسريبات مشبوهة وإيحاءات مريبة تحاول جرّ القضاء إلى ساحة ليست ساحته، وتحمل أسماء كبرى وزر صراعات لا تتحمل مسؤوليتها
إن من يدعي أن بوسعه التأثير على القضاء عبر “علاقته” بهذا المسؤول أو ذاك، إنما يبيع وهماً مغلفاً بالاسم والمكانة، لمن هو مستعد لشراء الوهم وتصديقه، إما بدافع الخوف أو الطمع أو البحث عن طرق ملتوية للالتفاف على العدالة. وهي ظاهرة خطيرة تستدعي وقفة مجتمعية وأخلاقية حازمة، لأن السكوت عنها هو تواطؤ ضمني مع الفساد الرمزي، وتشريع غير مباشر لمنطق الاستقواء بالأسماء بدل الاحتكام إلى القانون.
ليس العيب أن يعرفنا الدكتور محمد عبد النبوي ونعرفه، فالمعرفة في حد ذاتها لا تجرّم، ولا تُخجل، ولا تُدان. العيب كل العيب أن تُستغل هذه المعرفة في غير موضعها، وأن تتحول إلى بطاقة عبور مزورة نحو التأثير أو التهديد أو الترويج لنفوذ موهوم. العيب أن يُقحم اسمه في متاهات لا تليق بمكانته ولا بمساره ولا بثقة الدولة التي وضعتها فيه.
إن هيبة القضاء لا تُحمى فقط بالقوانين والنصوص، بل أيضاً بالوعي الجماعي، وبالضمير المهني، وبالشجاعة في فضح كل من يتاجر بالأسماء ويوهم الناس بسلطة لا يملكها. فالقضاء لا يُدار بالهواتف ولا بالوساطات ولا بالعلاقات الشخصية، بل يُدار بالقانون، وبقضاة أقسموا على إحقاق الحق، وبمسؤولين نذروا أنفسهم لصيانة استقلال هذه السلطة من كل عبث.
ومن هنا، يصبح واجب المرحلة هو التمييز الواضح بين الاحترام المشروع والمعرفة الطبيعية من جهة، وبين الاستغلال المشين للأسماء من جهة أخرى. فالأول قيمة إنسانية واجتماعية راقية، والثاني سلوك منحرف يهدد أسس الدولة ويقوّض الثقة في العدالة.
إن العدالة لا تحتاج إلى وسطاء مزيّفين، ولا إلى سماسرة نفوذ، ولا إلى تجار أوهام، بل تحتاج إلى ثقافة قانونية راسخة، وإلى وعي مجتمعي يرفض تحويل المؤسسات إلى رهينة لمزاعم كاذبة وعلاقات مشبوهة. ففي النهاية، لا أحد فوق القانون، ولا اسم مهما علا شأنه يمكن أن يكون جسراً للالتفاف عليه.
وهكذا، تبقى الحقيقة الساطعة: ليس العار في المعرفة، بل في استغلالها، وليس الجريمة في القرب، بل في توظيفه لتضليل الناس، وليس الخلل في الأسماء، بل في من يتاجر بها باسم الطموح أو النفوذ أو الربح السريع. ويبقى القضاء، رغم كل شيء، حصناً منيعاً لا تهزه أوهام ولا تنال من هيبته ادعاءات العاجزين.
وهكذا، تتأكد مرة أخرى الحقيقة الجوهرية: عبد النبوي أكبر من أن يكون ورقة في يد أي طرف، والعدالة أسمى من أن تتحول إلى وقود لمعارك شخصية أو شعبوية عابرة. والزمن كفيل بفرز من احترم المؤسسات، ممن حاول الاتجار بها.

