بقلم : عثمان لبصيلي
مدخل: سؤال التنمية المؤجل
منذ الاستقلال، ظل المغرب يرفع شعار التنمية الشاملة باعتبارها المدخل لبناء دولة حديثة قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان كرامة المواطن. لكن رغم الإصلاحات الكبرى والمشاريع العملاقة، ما زال سؤال التنمية مطروحاً: هل استطاع المغرب تجاوز اختلالات “مغرب المركز ومغرب الهامش”، أم أن البلاد ما زالت أسيرة حلقة مفرغة من الطموحات المتعثرة؟
ماضٍ مثقل بالرؤى والتضحيات
في ستينيات القرن الماضي، وضع رموز الفكر الوطني اللبنات الأولى لمشروع تنموي مغربي مستقل. فقد أكد علال الفاسي أن الاستقلال السياسي يظل ناقصاً إن لم يقترن باستقلال اقتصادي وعدالة اجتماعية. أما المهدي بنبركة، فقد شدد على أن التنمية لن تتحقق من دون تعليم قوي، وصحة عادلة، وعدالة مجالية شاملة. فيما اعتبر عبد الكريم الخطيب أن التنمية الناجحة لا بد أن تُؤطرها قيم أخلاقية راسخة.
هذه المرجعيات التاريخية تكشف أن التنمية في المخيال الوطني لم تكن مجرد مؤشرات اقتصادية، بل مشروع حضاري متكامل يمس الإنسان والمجال معاً.
حاضر مزدوج: إنجازات كبرى وهشاشة اجتماعية
على أرض الواقع، شهد المغرب إنجازات لافتة في مجال البنيات التحتية: ميناء طنجة المتوسط، مشاريع الطاقات المتجددة، الطرق السيارة، والقطار فائق السرعة. كما أطلق سنة 2021 النموذج التنموي الجديد، محدداً أهدافاً كبرى في أفق 2035، إلى جانب ورش الحماية الاجتماعية الذي يشمل أكثر من 22 مليون مواطن.
لكن في المقابل، ما زالت التحديات الاجتماعية قائمة. تقارير المجلس الأعلى للتربية والتكوين تكشف استمرار أزمة التعليم عبر الهدر المدرسي وتراجع الجودة، بينما يواجه قطاع الصحة خصاصاً خطيراً في الموارد البشرية والبنيات.
المفكر حسن أوريد يلخص الوضعية بقوله: “إنجازات كبرى في البنية التحتية مقابل هشاشة اجتماعية عميقة”. أما السوسيولوجي محمد العطّري فيحذر من اتساع الفجوة بين المركز والهامش، باعتبارها أكبر تهديد للثقة المجتمعية والاستقرار.
الرؤية الملكية: بوصلة التنمية
جاءت خطب جلالة الملك محمد السادس لتشكل خارطة طريق واضحة لمشروع التنمية المغربية، ويمكن تلخيصها في أربعة محاور:
العدالة المجالية: إنهاء الفوارق بين المغرب النافع وغير النافع (خطاب 2017).
الكرامة الاجتماعية: التنمية لا معنى لها من دون كرامة المواطن (خطاب العرش 2018).
التعليم كرافعة للتنمية: إصلاح المدرسة العمومية وربطها بسوق الشغل (خطاب 2019).
الثورة الاجتماعية: تعميم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية الشاملة (خطاب 2020).
هذه التوجهات تؤكد أن الرؤية الملكية ليست اقتصادية فقط، بل مشروع مجتمعي قوامه الكرامة والمساواة والعدالة.
المقارنة: دروس من التجارب الدولية
كوريا الجنوبية: حولت دمار الحرب إلى إقلاع اقتصادي بفضل الاستثمار في التعليم والتكنولوجيا.
ماليزيا: نجحت في تجاوز التعددية العرقية والدينية من خلال عدالة مجالية وتوزيع عادل للاستثمارات.
المغرب: حقق قفزات نوعية في البنيات التحتية، لكنه لم يحقق بعد العدالة الاجتماعية الكاملة، مما يجعله بحاجة إلى “ثورة ناعمة” في التعليم والصحة والحوكمة.
رهانات المستقبل: الشروط الحاسمة
عدالة مجالية فعلية لتقليص الفوارق بين الجهات.
إصلاح تعليمي جذري يؤهل الأجيال الجديدة لمجتمع المعرفة.
حكامة رشيدة تعزز الثقة وتربط المسؤولية بالمحاسبة.
مشاركة مجتمعية واسعة تجعل التنمية مشروعاً جماعياً لا قراراً فوقياً.
خاتمة استشرافية: سيناريوهات 2035
أمام المغرب سيناريوهان محتملان مع اقتراب أفق 2035، الذي حدده النموذج التنموي الجديد:
السيناريو المتفائل: إذا تحولت الرؤية الملكية إلى إصلاحات ملموسة، وتمت إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة، وعُزز التعليم والصحة والعدالة المجالية، فإن المغرب قادر على أن يتحول إلى قوة إقليمية صاعدة، تحقق تنمية شاملة تعزز مكانته في إفريقيا والعالم.
السيناريو المتحفظ: إذا بقيت الإصلاحات حبيسة الخطابات والبرامج غير المكتملة، وظلت الفجوة بين المركز والهامش قائمة، فقد يجد المغرب نفسه أمام تنمية غير متوازنة، تحقق مؤشرات اقتصادية صاعدة، لكنها عاجزة عن ضمان العدالة الاجتماعية والكرامة للمواطنين.
خلاصة
يبقى مستقبل التنمية في المغرب رهيناً بقدرة الدولة على الموازنة بين الإنجاز الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وبين الرؤية الاستراتيجية والتنفيذ الميداني. فالمغاربة لا ينتظرون وعوداً جديدة، بل يترقبون ثماراً ملموسة تجعلهم شركاء في التنمية لا مجرد متفرجين عليها.

