بقلم : عثمان لبصيلي .
مقدمة
المشهد الحزبي المغربي يعيش حالة انهيار صامتة. الأحزاب التي كان يفترض أن تكون مدارس للتكوين السياسي ومصانع للنخب، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى دكاكين انتخابية. السبب المباشر لذلك هو غياب الهياكل التنظيمية الفاعلة، وضعف الفروع المحلية، وهيمنة منطق الولاء والمصالح الضيقة على حساب الديمقراطية الداخلية. النتيجة: حزب ميت، ومناضل مقتول.
أزمة الفروع: حين يموت الامتداد الترابي
الأحزاب بلا فروع حقيقية أشبه بشجرة بلا جذور. الفروع هي المجال الطبيعي لاختبار الكفاءات وصقل المناضلين بالتكوين والممارسة. المناضل الذي كان يبدأ مساره في الخلية أو الفرع، ثم يصعد بالجد والنشاط إلى القيادة الوطنية، أصبح اليوم ضحية التهميش؛ إذ يتم إفراغ الفروع من أدوارها الحقيقية، وتُحوَّل إلى مجرد لافتات شكلية تُستعمل موسم الانتخابات.
هذا الوضع أدّى إلى قتل “المسار الطبيعي للمناضل”، فالشاب أو الكادر الذي قضى سنوات في النضال والتكوين السياسي، يجد نفسه مهمّشًا أو مُبعدًا، لأن القرار الحزبي لم يعد يمر من القاعدة نحو القمة، بل صار يُفرَض من المركز نحو الأسفل.
“مول الشكارة” على أنقاض المناضل
الأخطر من ذلك هو صعود المال الفاسد داخل الحياة الحزبية. فبدل أن يُكافأ المناضل الحقيقي على تضحياته، يتم جلب “مول الشكارة” وتمتيعه بالامتيازات، وتسهيل وصوله إلى القيادة المركزية بفضل قدرته المالية لا بكفاءته السياسية.
هذه الممارسة تمثل ضربًا في العمق لجوهر العمل الحزبي، لأنها:
تقتل الحزب عبر تحويله إلى مقاولة انتخابية تُدار بمنطق الربح والخسارة.
تقتل المناضل عبر سحق قيم الالتزام والتكوين والجدية.
تقتل السياسة عبر استبدال الفكرة بالصفقة، والبرنامج بالمال.
أزمة ثقة الشباب والمجتمع:
لا يتوقف الأمر عند حدود قتل الحزب والمناضل، بل يتجاوز ذلك إلى تأزيم علاقة الشباب بالسياسة. حين يرى الشاب أن الطريق إلى القيادة ليس عبر الكفاءة والنضال، بل عبر المال والولاءات، فإنه يعزف عن الانخراط ويبتعد عن المشاركة.
هذه الممارسات تعمّق فقدان الثقة في الحياة السياسية ككل، وتؤدي إلى عزوف جماعي عن التصويت والمشاركة، بل وإلى نظرة سلبية تجاه كل المؤسسات المنتخبة. هنا يتكرس الشعور بأن الأحزاب لم تعد وسيلة للتغيير، بل عائقًا أمامه.
كما يوضح المفكر حسن أوريد، فإن المشهد السياسي المغربي مضطرب بفعل أزمة الوساطة الحزبية، وهو ما يدفع المواطن، وخاصة الشباب، إلى البحث عن قنوات أخرى للتعبير خارج الأطر التقليدية.
- شهادات من الفكر المغربي:
علال الفاسي: أكّد أن الحزب لا يمكن أن يعيش بلا تربية سياسية وأخلاقية، وأن الانضباط القاعدي هو سر الاستمرارية (النقد الذاتي).
امحمد بوستة: قدّم نموذجًا للزعيم الأخلاقي الذي آمن بالمناضل والمؤسسة، لا بالمال والنفوذ.
عبد الله العروي: شدّد في مفهوم الدولة على ضرورة العقلنة والشرعية المؤسسية، وهو درس ينطبق على الأحزاب أيضًا.
نحو إحياء الأحزاب
إنقاذ الحياة الحزبية يستلزم:
- إعادة الاعتبار للفروع وإلزامها بالتأطير المستمر.
- منع التمديد غير المبرر للقيادات المركزية.
- ربط التمويل العمومي بمؤشرات التنظيم الفعلي والتجديد القيادي.
- سن قوانين صارمة لمحاربة المال الانتخابي داخل الأحزاب.
خاتمة
إن موت الفروع، وتهميش المناضل، وصعود “مول الشكارة” ليست مجرد انحرافات عرضية، بل هي عوامل بنيوية تُهدّد مستقبل السياسة بالمغرب. الأخطر أنها تزيد من عزوف الشباب عن العمل السياسي، وتعمّق فقدان الثقة في المؤسسات المنتخبة. وكما قال علال الفاسي: “لا حزب بدون أخلاق”. واليوم يمكن القول أيضًا: لا حزب بدون فروع، ولا ديمقراطية حزبية مع المال الفاسد.

