الرئيسية آراء وأقلام ثــقــل ذاكـــرة الــمكــان

ثــقــل ذاكـــرة الــمكــان

IMG 20210914 WA0007.jpg
كتبه كتب في 14 سبتمبر، 2021 - 9:17 صباحًا

بقلم : ذة. مجد خدوج
صوت العدالة

امتطى سيارته بعد أن دس كلمة صلح في أذنها؛ فالشجار بينهما هذه المرة بلغ ذروته، وكان الأطفال للأسف شهودا عليه، ثم قال: سأغيب اليوم عن البيت، سأنام خارجا، إليك مفتاح الدولاب خذي ما يكفيك والأولاد، أمسكت المفتاح برأس مطأطإ ونظرة مفادها: “سنفتقدك اليوم”، أغلق الباب محدثا نفسه: هي وإن كانت سريعة الغضب، يُسْمَعُ صوتها عاليا كلما اصطدمت معي بسبب مشكلة من مشكلات الحياة، سرعان ما تسامح وتعود لطبعها، ويكفيها لتكون كذلك نظرة حنان أو كلمة اعتذار، لعل هذا شأن كل حاملي فصيلة الدم “O”؛ طيبون، سريعو الغضب… لكن سرعان ما يعودون لسجيتهم.
اتجه أحمد الموظف في مكتب البريد؛ الرجل الخمسيني نحو مدينته المفضلة؛ التي درس بها وفيها توج بنيل شهادة الباكالوريا، له فيها ذكريات لا تمحوها خطوات السنين.
على طول الطريق كانت الحقول تحاذيه من كل الجوانب، فالفصل ربيعا، خفف وطء السير رغبة في التمتع بسحر جمال حقول عاصمة المذاكرة؛ الأرض الفلاحية الخصبة المعطاء، وكان له ذلك، إذ شعر بنشوة كبيرة أحس من خلالها كأنه شاب في العشرين من عمره.
وصل إلى وجهته، ركن سيارته جنبا، مفضلا التجوال في شوارعها مشيا على الأقدام، فهي مدينة صغيرة وإن كانت قد عمرت طويلا، عجلة التنمية فيها سلحفاة، أهلها يعيشون على الفلاحة أو التجارة، ومنهم من فضل الهجرة خارجا إلى أرض الغربة؛ ذلك أنه لم يتشكل بها حي صناعي على غرار ما حصل مع جارتها، ولم تسعد بطريق رئيس يربطها بعاصمة الجنوب ويحتضن مرور الموكب الشريف.
في غمرة التجوال، ارتسمت بين عينيه صورة الفتاة التي أحبها لأول مرة، الفتاة التي أشعلت جذوة الحب في قلبه؛ كانت جميلة، لطيفة ، طيبة الأخلاق، حسنة السيرة، تصغره بخمس سنوات، بادلته نفس شعور الود والتقدير، وطلبت منه أن يكون حبهما في النور، لأن الظلام لا تعيش فيه إلا الخفافيش، وهي فتاة قمر أرادت أن يَرى نوره الجميع.
وهو كذلك، خالجت دواخله كلمات: فاتحت والدي آنذاك في موضوع الزواج منها، لكن طلبي قُوبل بالرفض بدعوى أنها تنتمي إلى أسرة ذات أصول عربية، وأنا أنحدر من جذور أمازيغية، وقال والدي سامحه الله: ” تلزمك “شلحة” تحافظ على شرفك وعادات أسرتك”، بعض بقايا سموم الظهير البربري لازالت سارية المفعول، لم أجد بدا من الخضوع لرأيه، كنت سلبي الموقف، وقفت مكتوف الأيدي وضحيت بكل ما تمنيت، ولم تسعفني قيم التربية على الاختيار التي لقنوها لي في المدرسة، غابت عني مبادئ الوفاء. هذا شأننا نحن أبناء الأمازيغ غالبيتنا تربوا على ترجيح رأي الآباء، ليثني كنت مع الاستثناء !
هي الآن تكون قد نسيت كل شيء، وربما لم تعد تتذكرني، وإن صادفتني في الطريق قد لا تعرفني، فالبياض والسنون غيروا ملامحي، ورغم ذلك لروح صداقتها الطاهرة أقول:
ليتك تعلمين أن القلب لازال مستقرا لك….
وإن قست الظروف والزمان عني أبعدك…
أحن إلى ما كان وأتمنى لو أن الأقدار تعيدك…
لكن هيهات، هيهات أن أسعد بالتمني…
وأنا قد اخترت طريقا إليك لن توصلني…

رجلاي تقودانني إلى وسط المدينة، إلى المكان الذي ضَرَبت فيه أول موعد مع أصدقائي من أبناء منطقتي؛ حين أُرْغِمنا صغارا على فراق فراش الأم الدافئ والعيش في هذه المدينة ، فمنطقتنا لم يساعدها الحظ كي توفر لنا ثانوية إعدادية نتابع فيها تعليمنا، كانت هجرتنا تلك تُثقِلُ كاهل الآباء، لكن الرجل المذكوري لم يعبأ لهذا الثقل، فشهامته جعلته يتفانى منذ القدم في تعليم أبنائه وتشجعهم على طلب العلم والمعرفة، إيمانا منه أن تعليم الأبناء أرقى هدية يقدمها الرجل لوطنه.
كان مكان الموعد آنذاك مميزا ومعروفا بمعلمة تسمى ” عوينة الحاج صالح” مزينة بزليج من نوع خاص، شهدت على لقاءاتنا نحن الأطفال، وقد تكون شاهدة على مواعيد أقوى وأبلغ؛ مواعيد رجال المقاومة والاستقلال، ولاشك أن النسوة اجتمعن بها وسردن بطولات أزواجهن في محاربة الاستعمار وهن يملأن القلل والقرب بالماء، وأكيد أنهن قد خرجن إليها وهن يُطلقن زغاريد الفرحة والنشوة بعد أن سمعن بعودة الملك محمد الخامس رحمه الله إلى أرض وطنه وطرد الاستعمار.
قلم برأس فأس أمضى على حذفها، لم يَسْتَحْضِر ثقافة احترام المكان.
غابت العوينة وحلت محلها مقهى للأكل والشرب واللحم المشوي، على حد قولهم:” كول واشرب أسيدي ولي بقات على الرأس لهلا يبقيها”.
اقترب المساء وأوشك المغيب، وأنا أنوي البقاء هنا، لكن أين سأنام؟… أذكر أن مدينة الكارة كانت تتوفر على فندق في عهد قديم، لم يكن شغالا عندما وفدت إليها صغيرا، كان مغلقا، كنا نمر بالقرب منه ونحن في طريقنا إلى الثانوية.
لم يكن حظه أحسن من حظ عوينة الحاج صالح؛ لحقه الهدم والدمار والإزالة، دمرت وأُخْفِيَتْ معالمه، وهذه المرة ليست مقهى؛ هذه المرة حديقة؛ الحديقة شيء جميل تحمي الجو والساكنة، وتوفر لحظات ماتعة للكبار والصغار، لكن أن تشيد على أنقاض فندق يشهد على تاريخ المنطقة ذاك ما لا يقبله التاريخ، أقلام تقرر وأيادي تنفذ، وجرافات تحطم.
مداد لم يخطر بباله أن المكان روح والبقعة سلطان، وأن البنايات والأماكن التي نسكنها ونحيا فيها تستوطننا وتَشْغَلُ حيزا فينا مدى العمر.
تمنيت لو امتلكت مدينتي فندقا، حينها كنت أستطيع المبيت خارجا كما أخبرت زوجتي؛ لأن المكان هنا يشدني وكل بقعة فيه ذكرى من ذكريات عمري، لكن أما وأن الأمر ليس كذلك فسأعود من حيث أتيت، وهي مناسبة أجدد فيها اعتذاري لنصفي الثاني، فهو اختيار الوالدين، واختيارهم قد أثمر ثلاث زهرات وبطل، وهؤلاء هم الدم الذي يجري في شراييني، وحياتي بدونهم وبدونها هباء وظلام دامس.

مشاركة