الرئيسية آراء وأقلام “التعذيب صنو القتل “

“التعذيب صنو القتل “

IMG 20210713 WA0035.jpg
كتبه كتب في 13 يوليو، 2021 - 9:53 صباحًا


كلمة الأستاذ احمد حرزني السفير المتجول المكلف بالملف الحقوقي
خلال الدورة التكوينية حول” اتفاقية مناهضة التعذيب , السياق والتطبيق” المنظمة من طرف الجمعية المغربية للنساء القاضيات بشراكة مع اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان العيون الساقية الحمراء
بمناسبة مرور 10سنوات من صدور دستور 2011
بتاريخ 09 يوليوز2021 بمدينة العيون

أيتها السيدات أيها السادة
يشرفني أن اخذ الكلمة أمام هذا الحضور البهي , واشكر الجمعية المغربية للنساء القاضيات التي يعود لها الفضل في هذا التشريف كما انتهز هذه الفرصة لتحية الجمعية على الدور الفعال الذي تلعبه بكل جدية وكل حماس في النهوض بمنظومتنا القضائية . ولعل من مؤشرات عزمها على المساهمة في الرقي بهذه المنظومة إلى أعلى المستويات اختيارها لهذا اللقاء لموضوع حساس وفارق كموضوع التعذيب .
موضوع التعذيب موضوع بالغ الأهمية بالفعل لأنه يمتحن إنسانيتنا كأشخاص وإنسانية أنظمتنا وسياساتنا ويحثنا على تحديد, وتجديد , معنى الإنسانية في زمننا المعاصر.
والتعذيب , للأسف, فعل بشري, ومقصور على البشر , فالحيوانات لا تعذب أمثالها ولا تأكل لحم أمثالها. البشر يفعلون. وإذا كانت بعض أشكال التعذيب القديمة كالتمثيل بالأجسام من باب الانتقام أو ممارسة التعذيب كعقاب قد اندثرت أو كادت تندثر , فان التاريخ المعاصر شهد ويشهد انتشارا واسعا لاستعمال التعذيب كسلاح سياسي في مواجهة الأنظمة الاستبدادية لمعارضاتها. بل وان انتشار ظاهرة الإرهاب عالميا جعل العديد من الدول الديموقراطية أو شبه الديموقراطية تسن قوانين تبيح لها ضمنا أو علنا اللجوء إلى التعذيب كلما ارتأت فائدة ذلك.
وعلى ذكر الإرهاب , فانه يوجد من يدافع صراحة عن شرعية استعمال التعذيب في حالاته, بدعوى أن انتزاع معلومة قد ينقد أرواحا بريئة , هذه الحجة مردودة , لأنها إحصائيا ضعيفة ولكن أيضا وبالأساس ,لان التعذيب دائما غير متناسب مع أفعال ضحيته , خاصة إذا كانت تلك الأفعال لم ترتكب بعد.
لقد صار التعذيب اليوم يمارس بطرق “علمية “, ولهذا فان آثاره الجسدية غالبا ما يصعب كشفها في الأمد القصير. ولكن أثاره النفسية سريعة الظهور وقد تكون أفظع.
التعذيب فيه , بداهة, ,إكراه للأبدان , ولكن أبشع ما فيه اغتصاب الضمائر , لان الضمائر هي مكمن خصوصية الأشخاص وخصوصية الأشخاص هي جوهر إنسانيتهم .
ضحية التعذيب الذي انتزعت منه معلومة لم يبح فقط بمعلومة , لقد اجبر على تمزيق عهد “كان” يربطه برفقاء. اجبر على نسف قضية كانت تجمعه و أولئك الرفقاء. وتلك القضية هي محصلة حياة كاملة من التجارب المجتمعية والمكاسب العاطفية والفكرية. وإذن فالتعذيب يفصل الضحية عن داتها ويحكم عليها بالغربة مدى الحياة , وكثيرون هم ضحايا حملات التعذيب الكبرى التي عرفها زمننا المعاصر الذين لم يتحملوا هذه الغربة اللامحدودة فانهوا حياتهم بأيديهم , ومن بقي منهم على قيد الحياة فانه كثيرا ما ظل مرهوبا من كل ما يذكره بجلاديه أو لاهثا وراء عفو رفقائه أو من خلفهم وفي جميع الحالات معرضا لاضطرابات عدة , منها فقدان الوعي بالتسلسل التاريخي للأحداث, وانسداد العواطف, واختلال التمثلات والسلوكات , وعسر التواصل وغير ذلك من الأعراض التي تصدى لدراستها عدد من الباحثين.
لا يمكن للمرء ألا يتساءل: ما قيمة المعلومة التي حصل عليها بواسطة “التعذيب أمام هذا الركام من الخراب البشري ؟

هذا الخراب البشري يجب أن تضاف إليه في الحقيقة أثار التعذيب على الجلاد نفسه , إن هذا الأخير , سواءا عاجلا أم آجلا لا ينجو أبدا من تبعات فعلاته.
في البداية يعتقد , أو يقنعونه بان بينه وبين الضحية فرق جوهري , بان الضحية ليس مثيلا له. فهو إنسان , والضحية دون الإنسان , هو إن لم يكن قديسا فانه من حماة النظام القائم , بينما الضحية مجرم تحركه أطماع مشبوهة . و إن كان في حياته “الرسمية” وسط عائلته أو في مقر عمله أو في أماكن عمومية يتعرض لاحباطات وربما لاهانات, فان حصص التعذيب التي يشارك فيها قد “تعوض” له ذلك وتزوده بإحساس بالعظمة والتفوق ينسيه الاحباطات والاهانات.
ولكن مثل ذلك الإحساس لا يمكن أن يكون الا عابر. اطال الزمن أو قصر فان الضحايا يعودون ولو كأشباح لتدمير راحة الجلاد , في الليل وفي النهار. وكم جلادا رأيناهم يفرون فرا عندما تلاقيهم الصدفة بأحد ضحاياهم السابقين …
عبثا يحاول الجلادون حماية أنفسهم , من عقاب ضميرهم أولا. يحرصون دائما على ارتكاب أفعالهم جماعيا ظنا منهم أنهم بذلك “يذوبون ” مسؤوليتهم. ثم بأنهم دائما كذلك يرددون مع أنفسهم أنهم أولا وأخيرا موظفون , وأنهم لا يفعلون سوى إطاعة أوامر رؤسائهم. و”الدفاعان” مردودان , لان المشاركة الجماعية في جريمة لا تنفي المسؤولية الفردية لكل من شارك في ارتكابها , ولان نظرية “الحربة الدكية” تثبت عن حق مسؤولية الشخص ولو كان منفذا”فقط” لفعل غير شرعي وغير قانوني.
وانه إذن لفي استئصال التعذيب من قوانيننا ومن ممارساتنا خير للجميع , انه من شانه أن ينشر في سعائنا جوا من الطمأنينة والأمن الجسدي والروحي من شانه بدوره أن يطفي في المهد النزوعات العدوانية التي يمكن أن تظهر عند الناس وتبطل كذلك مفعول الإيديولوجيات التي تدعو للعنف .
لهذا وجب علينا أن نحتفي بالاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب وهي لم يمر على ذكراها الرابعة والثلاثين إلا ثلاثة عشر يوما , خاصة وإننا كنا من السباقين إلى التصديق عليها , ودستورنا يتبناها بكل وضوح , وخاصة أيضا وأننا ممثلين على مستوى نيابة الرئاسة في اللجنة الأممية التي أحدثها البروتوكول الملحق بها.
بل انه يمكننا ربما بهذه المناسبة أن نساهم في تطوير مفهوم الجريمة ضد الإنسانية ذاته , وهو المفهوم الذي يؤطر جل الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان , بما فيها التعذيب . إن الإصطلاح الغالب إلى حد الآن هو القائل بان المفهوم ينطبق فقط على الخروقات الجسيمة التي تقع على نطاق واسع وتصيب الأعداد الغفيرة من الناس . ولكننا نقول , بناء على تجربتنا وعلى تراثنا الثقافي والديني , إن التعذيب صنو للقتل وبالتالي– واستغفر الله على الاقتباس – فان من عذب شخصا واحدا فكأنما عذب البشرية جمعاء , ومن حق بل ومن واجب , البشرية ان تتابعه , لمعاقبته , ولكي يرتاح , لان البشرية متابعته على كل حال عبر كوابيس وغيرها من الاضطرابات النفسية. والخلاصة أننا ربما مصيبون إن دافعنا في المحافل الدولية عن فكرة أن التعذيب يجب أن يعذ من الجرائم ضد الإنسانية ولو مورس على شخص واحد.
ان الأمل معقود عليكن , أيتها السيدات القاضيات المحترمات , في ان تكن في طليعة الكفاح من اجل مجتمع , وعالم ,خاليين من التعذيب ومن غيره من الخروقات الجسيمة لحقوق الإنسان. عالم يحترم فيه البشر كبشر , وتصان فيه كرامة الإنسان كانسان , وتحاط فيه بما يشبه القدسية خصوصية كل واحد وكل واحدة . مثل هذا العالم يحتاج إلى كثير من التراحم وكثير مما يسميه إخواننا المصريون “الحنية”. وانتن كنساء وان كنتن لا تحتكرن هاتين الصفتين إلا أنهما متوفرتان لديكن بنصيب اكبر ولو فحسب لأنكن بحكم طبيعة جنسكن تخبرن الألم عن كثب ولو انه الم من نوع أخر. فلا تبخلن على قطاعكن , ووطنكن , وعالمنا اجمع , بما أتيتم من الرحمة والحنية . واحرصن على الباسكن كفاءتكن المشهودة وتفانيكن المعهود هدين الرداءين البهيين. وفقنا الله جميعا لما فيه خير وطننا وخير البشرية جمعاء , والسلام عليكم ورحمة الله .

مشاركة