الرئيسية آراء وأقلام مداخلة الأستاذ عزيز بنزيان حول موضوع الحقيقة القضائية في المادة الجنائية خلال ماستر العلوم الجنائية والأمنية الفوج الأول بتطوان

مداخلة الأستاذ عزيز بنزيان حول موضوع الحقيقة القضائية في المادة الجنائية خلال ماستر العلوم الجنائية والأمنية الفوج الأول بتطوان

IMG 20210623 WA0053 1.jpg
كتبه كتب في 23 يونيو، 2021 - 9:48 مساءً

بسم الله الرحمان الرحيم ، بداية أتوجه بالشكر الى السادة الأساتذة والمؤطرين الذين ساهموا في إنجاح هذا الملتقى ، وكذلك الشكر موصول لأستاذي فضيلة الدكتور بلال المويني الذي كلفني بتمثيل ماستر العلوم الجنائية والأمنية موقع تطوان

أما بعد فإن فن القانون من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد ليها الركائب والرحال ، وتسمو إلى معرفة الإدعاءات والأقوال ويتنافس فيه طلبة العلم وأصحاب المجال ، ولا يتساوى في فهمه العلماء والجهال ، إذ هو في ظاهره لا يزيد عن إخبار بردود الأفعال وعن تقلبات الأحوال ، ويتسع فيه نطاق القاضي لتحديد الحقيقة والواقع الحال .

فموضوع المداخلة يتمحور حول الحقيقة القضائية في المادة الجنائية ، إذ تعلمون يقيناً أن أحكام المحاكم عنوان للحقيقة ، وهناك حقيقة في المادة المدنية وكذا المادة الجنائية ، ولكن بحكم التخصص كان من اللازم التدقيق والتمحيص في المادة الجنائية ، لإظهار أبرز سمات هذه الحقيقة القضائية .

قبل الخوض في الجدل القائم عليه موضوعنا سنعرج على كنه الحقيقة القضائية ، ومحاولة التعريف بها ، فالواقع يُفترض فيه وجود نزاع ينتهك به حق من الحقوق ، والأطراف هنا لا يمكنهم إستخلاص هذا الحق بمحض ارادتهم والا سنكون أمام عدالة خاصة ، فالشرعية تقتضي سلوك مساطر قضائية تنتهي بإقرار حق أو نفيه . فلا عقوبة بدون محاكمة ، ولا محاكمة بدون إجراءات ولا اجراء من غير قاعدة ، ولا اجراء من غير أجهزة رسمية ، فالحقيقة القضائية تظهر من خلال مجمل ما توصل اليه قاضي الحكم واستقراره على توجه ، يصدر به حكما حائزا للحجية .

وهنا يمكننا ان نتسائل عن الكيفية التي يقوم بها القاضي الجنائي في كشفه الحقيقة القضائية ، وهل تكون مطلقة أم نسبية ؟

وهنا كان حري بنا أن نلج باب الجدل القائم بين الحقائق ، اذ أن الحقيقة الواقعية تتجسد من خلال ما جرى به من أحداث ، والقاضي في تمحيصه للدعاوى يبحث عن الحقيقة الواقعية ، لكن الحقيقة القانونية هي من ترسم الخطوط العريضة لسير العمل القضائي ، وبهذا تقترب أو تبتعد الحقيقة القضائية من الحقيقة الواقعية .

فنظام الاثبات المتبع هو المحدد الأساس للنسبية ، حيث أن نظام الاثبات الحر  يجعل الحقيقة القضائية تقترب من الحقيقة الواقعية ، لأن القاضي في بحثه يوظف جل المعارف لاستجلاء حقيقة قضائية تكاد تطابق الواقع ، وهذا لا يمنع من الجور  والتحكم ، فنظل أمام النسبية . لكن في نظام الاثبات المقيد أو القانوني يلتزم القاضي بوسائل اثبات الواقعة من خلال النصوص القانونية المحددة لها ، ويلعب القاضي دورا سلبيا في التنزيل ، فلا يمكنه سن قاعدة اثبات من خلال قناعته ، وهنا تحديدا تبتعد لنا الحقيقة القضائية عن الحقيقة الواقعية ، ورغم علم القاضي بثبوت حق أو نفيه يلتزم بما أسس له المشرع من قواعد للاثبات ويتسع هنا مجال النسبية .

فلا يمكننا أن نتحدث عن الحقيقة المطلقة الا في الحقيقة الالاهية ، فلله وحده معايير العلم والادراك ومعرفة بالغيب ، ما جعل حقيقته تكون مطلقة ، أما دون ذلك فنجد النسبية بين الفينة والأخرى .

فالحقيقة القضائية في المادة الجنائية في التشريع المغربي تتمحور بين نظام الاثبات الحر  والمقيد أي النظام المختلط ، فحرية الاثبات هي الأصل  ،الا استثناء نجد المشرع سن قواعد اثبات محددة في جرائم معينة . ولكن قبل وصولنا الى تقدير الدلائل ، لازم علينا معرفة الحقيقة القضائية في المادة الجنائية أن لها مكونات ودعائم تقوم عليها .

أول أساس تنشأ عليه الخصومة الجنائية هو ادعاء النيابة العامة فاذا شكت تابعة ، واذا تابعت تحرك ذراعها اليمين المتجسد في الضابطة القضائية من خلال مجمل الاختصاصات المخولة له قانونا ، وقد نكون أمام بحث تمهيدي عادي او بحث تلبسي متى توفرت الشروط ، ولا خلاف بينهم في  الغاية والمقصد ، اذ أن دور الضابطة لا تصنع به الحقيقة القضائية بل يساعد على تكوينها .

فاجراء التثبت من وقوع الجريمة يمكن تجسيده من خلال المعاينات التي تقوم بها الضابطة ، من اجل تفكيك جزئيات المعطيات المادية والقولية ، اذ أن المشرع هنا تحدث عن المعاينات المفيدة ، وهذا ينبني بالأساس على أهلية الضابط ومهنيته العالية ، فالامر نفسه ينطبق على التفتيش ، فهذه الإجراءات تساهم في انطلاق عملية البحث والتدقيق قصد وضع التصور العام للحقيقة القضائية في المادة الجنائية.

وبهذا يمكننا القول أن مرحلة الاشتباه في منطق كشف الحقيقة لا يمكن أن تكون سوى مرحلة ممهدة لتدخل السلطة القضائية . فهي ان كانت لا تحسم في كشف الحقيقة لكنها تقدم معطيات للمساعدة على ذلك .

سنمر مباشرة لابراز أهم سلطات قاضي التحقيق الذي يساهم بدوره على كشف الحقيقة ، ويظهر ذلك من خلال جمع الأدلة عن الجريمة والافصاح عن كل من شارك أو ساهم فيها ويتخذ بشأنها القرار النهائي اما بإحالة الدعوى على جهة الحكم أو أن يخلص لعدم المتابعة .

فالغاية من التحقيق الاعدادي تكمن في تقدير إمكانية اسناد التهمة الى الشخص المتابع بها من عدمه ، وهذا لن يتأتى بضغطة زر ، ولكن بعد التمحيص لمختلف الأدلة المقدمة ضده او التي وصل اليها قاضي التحقيق باجراءاته .

فالتشريع الاجرائي المغربي مكن القاضي خاصية التنقل خارج نفوذ المحكمة قصد القيام باجراءات التحقيق ، متى ظهر له الأهمية في ذلك ، واستقرت قناعته الوجدانية ، وكذلك امكنه توجيه الاستدعاء لاي شخص يرى فائدة في سماع شهادته قصد الحضور أمامه ، ففائدة الاستماع تقدر بواسطة قاضي التحقيق ، ويمكنه اصدار امر بعدم المتابعة اذا تبين له انه ليست هناك ادلة كافية ضد المتهم . فكل هذا وذاك يتمحور حول قناعة قاضي التحقيق الوجدانية .

ثم نمر مباشرة الى مرحلة المحاكمة كاساس في تكوين الحقيقة القضائية في المادة الجنائية ، فهذه المرحلة تظهر من خلال مجموعة من الإجراءات تستهدف أدلة الدعوى كلها ، ماكان منها ضد مصلحة المتهم وما كان في مصلحته . فدور القاضي الجنائي يتجسد في تقدير الأدلة القولية ، تحديدا -الاعتراف والشهادة- ، فالاعتراف يخضع بدوره للسلطة التقديرية حيث لا يعتد بكل اعتراف ثبت انتزاعه بالعنف أو الاكراه. فيجب أن يتعلق الإعتراف بالوقائع المكونة للجريمة وعناصرها المادية والمعنوية ، وأن يصدر طواعية عن المتهم نفسه لا عن غيره ,

وكذلك الشهادة يعتمد عليها في الاثبات بعد آداء اليمين ، ويَمنع القانون على مجموعة من الأشخاص آداء الشهادة بحكم الواقع والتأثير على القناعة الوجدانية للقاضي الجنائي .

إذ أنه يتمتع بحرية الإقتناع بخصوص القيمة الإثباتية للشهادة فله أن يأخذ بها أو يطرحها عند تعددها وتناقضها .

هذا فيما يخص الأدلة القولية فأما بخصوص الأدلة المادية والعلمية ، يمكننا إستحضار أهمها في الدليل الكتابي سواء المحاضر أو المحررات ، حيث أن المشرع وضع محددات في المحاضر التي يوثق بمضمونها ، ولا يطعن فيها إلا بدعوى الزور ، وهذا تنفرد به مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة ، وكذلك التقارير التي يحررها الموظفون التابعون لإدارة المياه والغابات .

ولكن المحاضر التي يعدها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من وقوع الجنح والمخالفات ، يوثق بمضمونها إلى أن يثبت العكس ، وهنا لازم علينا أن نفرق بين محاضر المعاينة وكذا محاضر التلقي ، فالأولى هي التي تنشأ لديها القوة الثبوتية وفقاً لما جاءت به محكمة النقض من قرارات . 

وللقاضي الجنائي حق الإنتقال إلى عين المكان لمشاهدة واقعة لها علاقة بالجريمة ، فالمشرع أعطى له الحرية في الإثبات بأي وسيلة ، وهذا ما يزكي إعتقاده وإقتناعه الصميم .

ولا يجب أن ننسى تقدير الأدلة العلمية ، فتقرير الخبير يعد وسيلة إثبات في الخصومة الجنائية ، ويجوز للقاضي الأخذ بما جاء في التقرير ، كله أو بعضه أو طرحه تماماً ، ولكن هذه السلطة ليست مطلقة ، إذ عليه الإستناد على أسباب منطقية كوجود خبرة مضادة ومتناقضة .

وهنا قد نكون استحضرنا أهم مكونات هذه الحقيقة ، انطلاقاً من الادعاء مروراً بتحريات قاضي التحقيق وصولاً  لتقديرات قضاء الحكم ، وتكوين قناعته الوجدانية ، لإستجلاء الحقيقة القضائية في المادة الجنائية .

فلا يمكن للحقيقة أن تنتظر من يكتشفها كما انتظرت أمريكا كريستوفر كولمبوس ، فهي ترقد مبعثرة في أعماق من البئر ، من يجمعها بمشقة وجهد هو الذي يكتشفها .فخاتمة الموضوع ليست تلخيصاً له وإنما هي مغزاه ونتيجته ، ومغزى هذه الدراسة هو الدعوة لإستنباط الحقيقة القضائية في المادة الجنائية بوصفها النتيجة النهائية للخصومة والهدف الأساس من إقامة الدعوى العمومية .

وشكرا أسيادي الكرام على حسن الإستماع . 

مشاركة