الرئيسية آراء وأقلام الإسناد في القانون الجنائي

الإسناد في القانون الجنائي

IMG 20210508 WA00752.jpg
كتبه كتب في 8 مايو، 2021 - 9:52 مساءً


الكاتب: عبد الله المحساني باحث في العلوم الجنائية والأمنية


إن من القواعد الأساسية المقررة في التشريع الجنائي الحديث، أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ومعنى ذلك أن القاعدة الجنائية هي الوسيلة الرئيسية الوحيدة التي يلجأ إليها المشرع إذا رأى وجوب تجريم سلوك ما، كما يعني هذا المبدأ أيضا أن المشرع هو وحده فقط الذي يملك بيان الأفعال المعاقب عليها بإعتبارها جرائم.
وعلى ذلك فإن القاعدة الجنائية بهذا المعنى هي قاعدة تتكون من شقين، شق التكليف وشق الجزاء، فيما يخص شق التكليف فهو أمر أو نهي يتوجه به المشرع إلى المكلف بالإلتزام بالقاعدة الجنائية وإطاعة مضمونها وعدم مخالفة أحكامها، أما شق الجزاء فيتمثل في إحدى العقوبات الجنائية التي يمكن للقاضي توقيعها على المكلف الذي يخالف التكليف الذي تضمنته القاعدة الجنائية. ولا يكون للقاضي الجنائي سلطة توقيع العقوبة على الجاني إلا إذا ثبتت مسؤوليته جنائيا عن الجريمة التي إرتكبها، وتنهض مسؤولية الجاني في نطاق القانون الجنائي بأن يسند أو ينسب إليه ما إقترفه من فعل أو إمتناع تعتبره نصوص هذا القانون جريمة، فالجاني لا يكون مسؤولا عن أي فعل أو أي إمتناع، إلا حين يمكن إسناد إليه من الناحيتين المادية والمعنوية بإعتبار أن نسبة الفعل أو الإمتناع والنتيجة المترتبة عليه إلى الجاني هي الشرط الأول لإمكان مساءلته عن الفعل أو الإمتناع الذي إقترفه.
والإسناد في القانون الجنائي إما أن يكون إسنادا ماديا أو أن يكون إسنادا معنويا، فالأول يقتضي نسبة الجريمة إلى شخص معين، ولهذا فهو يشكل عنصرا في الركن المادي للجريمة ذلك لأنه لا يكفي لقيام الجريمة وقوع السلوك الإجرامي من الجاني، وأن تحدث نتيجة إجرامية، بل يلزم فضلا عن ذلك أن تنسب هذه النتيجة إلى ذلك السلوك، بمعنى أن تكون بينهما علاقة سببية. أما الإسناد المعنوي فهو يقتضي وجود رابطة إرادية بين الجاني وجريمته، فهذه الأخيرة لا تنسب للجاني إلا إذا توافرت لديه القدرة على الإدراك والإختيار، والإسناد بهذا المعنى يعد شرطا أساسيا لقيام المسؤولية الجنائية، إذ لا يمكن القول بمسؤولية جنائية تجاه شخص ليست بينه وبين الجريمة المرتكبة أية علاقة، وعلى ذلك فإن الإسناد بنوعية يشكل عنصرا مفترضا لقيام المسؤولية الجنائية.
بيد أنه لا يمكن إسناد النتيجة الإجرامية دائما إلى فاعلها، فالجاني لا يكون دائما أهلا للإسناد، إذ قد تتوفر قيود وعقبات تمنع من الإسناد، وهذه القيود إما أن تتصل بالركن المادي للجريمة وتتمثل في القوة القاهرة والحادث الفجائي والإكراه المادي وخطأ المجني عليه وحالة الضرورة والدفاع الشرعي، أو تتصل بالركن المعنوي للجريمة ومن ثم تقطع أية علاقة نفسية بين الفاعل والجريمة، بإعتبار أنها تؤثر في حرية الإختيار لدى الجاني، فتعدمها أو تنتقص منها إلى الحد الذي تصبح معه الإرادة متجردة من القيمة القانونية وتمثل هذه القيود في الجنون والسكر غير الإختياري وصغر السن.
إن أهمية الدراسة تكمن في مسح الغبار على فكرة الإسناد الجنائي، بإعتبار أن الفكرة تدخل في البنيان القانوني للجريمة كما أن دراستها ضرورية في مجال المسؤولية الجنائية فهذه الأخيرة هي من ترسم حدودها وتحدد نطاقها، وذلك بإستبعادها كلما توافرت أسباب تحول دون إسناد النتيجة الإجرامية إلى الجاني سواء من الناحية المادية أو المعنوية.
وبهذا يمكننا أن نتساءل عن موضع الإسناد في القانون الجنائي بين النظرية الفقهية والعملية التي يقوم بها القاضي للوصول للحقيقة القضائية؟
وتتفرع عن هذه الإشكالية مجموعة من الأسئلة الفرعية هي كالآتي : ما المقصود بالإسناد في نطاق قواعد القانون الجنائي؟ وما هي عناصره وأنواعه؟ وما هي طبيعته القانونية؟ وكيف إقتبس المشرع المغربي من نظرية الإسناد؟
وإنطلاقا من الأسئلة أعلاه لابد من التدرج في الدراسة لكشف معالم الإسناد وتوضيح مفهومه ونطاقه في القانون الجنائي وتبيان أنواعه. وكل ذلك سيتم عبر التصميم التالي:
المحور الأول: التأصيل النظري لمفهوم الإسناد الجنائي
المحور الثاني: أنواع الإسناد الجنائي
المحور الأول: التأصيل النظري لمفهوم الإسناد الجنائي
إن إسناد الجریمة إلى الجاني مبدأ جوهري وأساسي من المبادئ التي یقوم عليها القانون الجنائي بشقیه الموضوعي والشكلي، فلا يمكن مسائلة الشخص وإن كان أهلا للمساءلة الجنائیة مالم یسند إلیه – مادیا ومعنویا- عملا أو امتناعا یعد في نظر القانون جریمة حیث إن من المقرر أن الإنسان لا یكون مسؤولا عن عمل مالم ینسب إلیه ذلك العمل, فإسناد الفعل الإجرامي والنتیجة المترتبة علیه إلى الشخص یعد الشرط الأول لمساءلتة جنائیا عن هذه النتیجة.
فالإسناد في نطاق القانون الجنائي إذن هو مفترض من مفترضات المسؤولیة الجنائیة فلا قیام لهذه المسؤولیة دون توافر الإسناد، أي إسناد الفعل المكون للجریمة إلى مرتكبه مادیا ومعنویا.
تنهض المسؤولية في نطاق القانون الجنائي بأن يسند أو ينسب إلى شخص ما إقترفه من فعل أو إمتناع تعتبره نصوص القانون جريمة، إذ تعتبر فكرة الإسناد في القانون الجنائي فكرة مستقلة عن فكرة التكييف الجنائي، فالإسناد مرحلة مستقلة تلي مرحلة التكييف فما ينتج عن هذه العملية فهو إسناد، فهذا الأخير يعتبر عملية أي إسناد الفعل الإجرامي إلى صاحبه دون الوقوع في خطأ، ويقوم بهذه العملية القاضي الذي يجب أن يكون عالما بكثير من العلوم مثل علم الاجتماع القانوني، علم الإجرام، علم النفس، علم الاجتماع…إلخ
لتحديد معنى الإسناد الجنائي يتطلب معرفة الإسناد لغة ، فالإسناد في اللغة هو إضافة الشيء إلى الشيء، أي إسناد كلمة إلى أخرى يجعلها تستند إليه.
فمعظم التشريعات لم تعالج مفهوم الإسناد الجنائي، فالمشرع المغربي لم يحدد في نطاق القانون الجنائي معنى الإسناد حيث جاءت نصوصه خالية من نص يشير صراحة إلى معنى الإسناد، ولم يجعله في وعاء مفاهيمي محدد، بل ترك مجال تعريفه للفقه .
حيث ذهب الأستاذ delogu إلى القول بأن الإسناد الجنائي هو حالة في الشخص تعني تمتعه بالقدرة على الإدراك والإرادة فهو يتطابق تماما مع أهلية التصرف، وعرف الإسناد الجنائي أيضا بأنه تحديد لأهلية الشخص وقدرته على التطابق مع القاعدة الموضوعية.
فالملاحظ أن هناك من الفقهاء من يعتبر أن الأهلية الجنائية مضمونا الإسناد، وهناك أيضا من يعتبر أن مضمونها يتمثل في المسؤولية الجنائية.
فلتحديد الطبيعة القانونية للإسناد، يلزم إستنباط العلاقة التي تربطه بالجريمة، فقد إختلف الفقهاء حول تحديد طبيعة هذه العلاقة، فهل يعتبر الإسناد الجنائي مفترضا أو مقدمة ضرورية للقول بوجود الجريمة، وبالتالي لا يدخل عنصرا في تكوينها؟ أم أنه عنصر يدخل في تكوين أركان الجريمة، بحيث لا تكتمل أركانها مالم يتوافر عنصر الإسناد؟
يرى أنصار الرأي الأول القائل بأن الإسناد إفتراض للجريمة وأنه هو مقدمة ضرورية لها، وبالتالي فإنه لا يمكن التسليم بجريمة الشخص غير الأهل للإسناد، فهذا الأخير وفقا لهذا الرأي مفترض من مفترضات أهلية إرتكاب فعل يطلق عليه وصف الجريمة، فهو حالة شخصية تسبق إرتكاب الجريمة، وتعد ضرورية لكي ترتب الجريمة آثارها القانونية.
ويرى أنصار الرأي الثاني بأن الإسناد الجنائي لا يعد من مفترضات الجريمة، ولا عنصر يدخل في تكوين أركانها، بل هو حالة شخصية قانونية، لأنه يرتبط بالجريمة لا بالجاني، ولا يجوز الخلط بين الإسناد الجنائي والظروف فالأول يتعلق بالجاني أما الظروف فتتعلق بالجريمة.
المحور الثاني : أنواع الإسناد الجنائي
الإسناد الجنائي نوعان، فهو إما إسناد مادي أو إسناد معنوي، وكلا النوعين يعتبران من عناصر المسؤولية الجنائية ولا تقوم لها بغيرهما قائمة، فقيام الجريمة بالإسناد المادي دون المعنوي أمر غير مستساغ، حيث أنه لا تكتمل الجريمة إلا بإقتران هذان النوعان.
يعرف الإسناد المادي بأنه نسبة الجريمة إلى فاعل معين، وهذا هو الإسناد المفرد، كما قد يقتضي نسبة نتيجة معينة إلى فعل ما بالإضافة إلى نسبة هذا الفعل إلى فاعل معين وهذا هو الإسناد المزدوج، فمثال ذلك عند إكتشاف سكان المنزل حالة السرقة، نتيجة لإختلاس مال مملوك لهم بغير حق، ثم بعد الكشف عن معالم الجريمة ينسب هدا الفعل إلى أحد أفراد الأسر المجاورة لهم.
يتضح من خلال هذا التعريف أن الإسناد المادي إما أن يكون إسناد مفرد حيث يكتفي بنسبة النتيجة الإجرامية إلى السلوك الإجرامي، أو يكون إسناد مزدوج حيث لا يكتفي هذا الجانب بل يتطلب فوق ذلك نسبة هذا السلوك الإجرامي إلى فاعل معين، ومثال على ذلك أنه في جريمة القتل العمد لا يكفي إسناد فعل القتل إلى الجاني، بل يلزم إسناد وفاة المجني عليه إلى هذا الفعل وإلا كانت الواقعة مجرد محاولة.
فإسناد الجريمة ماديا لا يتوقف على حصول نتيجة تكون أحد عناصر الركن المادي، لإرتباطها بالنشاط الذي غير من العلاقات الخارجية، وإنما يلزم أن تكون هناك علاقة سببية بين النشاط والنتيجة، بإعتبارها رابطة تسمح بإسناد النتيجة إلى سلوك إجرامي معين، فتقوم بدلك المسؤولية الجنائية، وإستقرائنا مجموعة من النصوص نجد أن المشرع إستعمل عدة عبارات تكرس للعلاقة السببية بين النشاط والنتيجة الإجرامية، فتحديدا في الفصل 392 يؤكد على أن” كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا” وكذلك في الفصل 408 يجرم أو ” يؤاخذ من يستعمل العنف ضد الأطفال بحسب ما نتج عن فعله” فالتعابير المستعملة هنا يمكن حصرها في ” تسبب ونتج” وهدا ما يجعل المشرع يؤكد على ضرورة إرتباط النتيجة بالنشاط الإجرامي من أجل إسناد العقوبة الملائمة وطبيعة الجرم المرتكب .
فالمشرع المغربي يشير إلى مبدأ مضمونه أن الشخص لا يمكن أن يسأل جنائيا عن فعل أو إمتناع تجرمه نصوص القانون، مالم يسند إليه هذا الفعل ماديا بأن يكون نتيجة لسلوكه الإجرامي، فقد جسد ذلك من خلال مجموعة من النصوص الموضوعية التجريمية وفق زوايا متعددة حيث أنه يستشف من تلك النصوص ضرورة قيام عناصر الركن المادي لضرورة إسناد السلوك الإجرامي للمجرم بعد إقترانه بالنتيجة الإجرامية.
أما الإسناد المعنوي فهو نسبة الفعل إلى إرادة الجاني لقدرته على الإختيار، فهذا التعريف لم يخلط بين الإسناد المعنوي والركن المعنوي للجريمة وأنه إعتبر الإسناد المعنوي عنصرا في هذا الركن وليس الأخير برمته، فيراد بالإسناد المعنوي الرابطة النفسية بين الشخص والواقعة.
ويرى البعض أن الإسناد المعنوي هو ذاته الأهلية الجنائية، وذلك بقوله ” أن الجريمة لا تقوم إلا بنوعين من الإسناد، إسناد مادي هو العلاقة السببية وإسناد معنوي هو الأهلية الجنائية”.
قد أشار المشرع بصورة واضحة عن الإسناد المعنوي تحديدا في الفصل 132 من القانون الجنائي على أن” كل شخص سليم العقل قادر على التمييز يكون مسؤولا شخصيا عن الجرائم التي يرتكبها، الجنايات والجنح التي يكون مشاركا في إرتكابها، ومحاولة الجنايات ..ومحاولات بعض الجنح… “
في هذا النص تحدث المشرع عن اهلية الجاني عند توجيه إرادته إلى إرتكاب الفعل الجرمي، وهذه المقدرة هي التي تعبر عن حرية الإختيار التي هي جوهر الإسناد المعنوي.
فالأساس الفلسفي للإسناد المعنوي هو المبدأ القائم على إفتراض أن كل إنسان عاقل حر الإختيار ويقدر على التمييز بين الخير والشر، فإن سلك المسلك الثاني فيجب أن يتحمل مسؤوليته.
بناء على ما سبق يتبين لنا أن نظرية الإسناد فكرة إقتبستها التشريعات الجنائية فجعلت بذلك أساس الإسناد فيها يقوم على إقتران النتيجة بالنشاط الإجرامي، وأن يكون صادر عن شخص مميز ومدرك ومريدا للغاية الإجرامية. وكذلك الأمر بالنسبة للعمل القضائي الجنائي حيث أن الإسناد لا يدخل ضمن المراحل التي تمر بها عملية تكييف الواقعة الإجرامية، مرحلة مستقلة تماما عن مرحلة التكييف وهي تأتي بعد هذه المرحلة من الناحية المنطقية والزمنية، فلا بد أن يقوم القاضي بتكييف هذه الواقعة ليتمكن بعد ذلك من إسناد الفعل إلى فاعله، وإلا فلا يمكن الحديث عن الإسناد قبل إجراء عملية التكييف لإنعدام موضوعه، لأن إسناد الفعل لا يكون إلا بوصف قانوني معين وهو ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد عملية الإسناد.

مشاركة