الرئيسية آراء وأقلام جدل الحاضر بين الماضي والمستقبل

جدل الحاضر بين الماضي والمستقبل

IMG 20200405 WA0062.jpg
كتبه كتب في 6 أبريل، 2020 - 11:25 صباحًا


بقلم ذ مصطفى أمجكال

قد تفرض علينا الضرورات و الحاجات الملحة في الحياة  الانخراط التام في ممارسة مجموعة من التفاصيل والجزئيات داخل منظومة الحياة اليومية.
و لمعرفة  مدى المعاناة التي يعيشها الإنسان في الحاضر المغيب ، لابد من خلق حوار جاد حول طريقة تفكير كل من ذلك المتطلع  للرجوع إلى الماضي باعتباره الزمن الجميل والذهبي الذي عمت فيه الخيرات و البركات و بين المستشرف للمستقبل داعيا إلى القطيعة و القفز على التراث و معانقة الأنوار و الحضارة ، و ذلك لتتضح الهوى السحيقة بينهما ، ومن ثم الاجابة عن سؤال الحاضر المغيب : لماذا و كيف غيب هذا الحاضر ؟؟

إن  تجربة  الدعوة إلى الرجوع إلى الماضي ( الدعوة السلفية) تجربة معتبرة إلى حد ما ، فهي قراءة  للماضي بعين المجد و الفخر انطلاقا من النصوص الدينية و الذي سيطر عليها في الغالب الأثر النبوي و أقوال المفسرين و فتاوى العلماء .
إن الانطلاق من كون الماضي هو عصر التحكيم و هو الزمن الذهبي الذي لا مناص من الرجوع إليه إذا اردنا التقدم و الازدهار و الرقي، هو الذي أطر المنهج السلفي في التفكير و رسم المعالم الكبرى لأي نقاش حول نظرية الاصلاح .  فلقد حسم مصير المستقبل في الماضي ، بل لقد حددت المعالم والمناهج وكل التفاصيل في الماضي . حسمت العقيدة و المعاملات و الأخلاق و العلاقات الدولية و الاقتصادية و السياسية في الماضي .. إن الفكر السلفي يريد من الحاضر والمستقبل أن يكون نسخة طبق الأصل من الماضي ، فقد قال الإمام مالك رحمه الله ” لا يصلح اخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، و ما لم يكن يومئذ دين لن يكون اليوم دينا ” .

إن هذه المقولة وأمثالها هي ما جعل الفكر السلفي يدور في فلك الماضي و يحن إليه بشوق وعشق كبيرين ، بل يلده على الدوام كلما دعت الضرورة إلى نقاش نازلة من النوازل و طرأ  عارض من العوارض ، فقد قيل ” كل الناس تلد أبنائها إلا العرب فإنهم يلدون أباءهم ” . لا يمكن أن يتصور السلفي طريقة للإصلاح دون رجوع كامل للتراث و استلهام التفاصيل و الجزئيات ، إنها ليست مبالغة في توصيف طريقة التفكير ، لكنها المنطلقات التي مررها بعض دعاة السلفية عبر العصور إلى التلاميذ و تلاميذ التلاميذ … حتى أوردوا  لهم في الاثار قول بعضهم ” إذا استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فلتفعل “.

إنها المبالغة الشديدة في اتباع الاثر لدرجة أنه لو كان بالإمكان أن يحول  الفكر السلفي الحياة العادية و اليومية و العادات والتقاليد إلى عبادات منصوص عليها بالنص القرآني أو الحديث النبوي أو الأثر من أقوال الصحابة و التابعين لما توانى في جعلها من الدين يوالي و يعادي عليها … و قد وقع في ذلك كثير من الشباب و بالتجربة التي عشتها سنوات التسعينات و بداية الالفين .

هذا المنطلق  السلفي الأثري الذي يجد فيه الشاب الحداثي و العلماني اليوم تخلفا ورجعية وتقهقرا نحو الماضي بطريقة مجحفة و ظالمة في حق كل ما هو جديد و عصري وحداثي ، هو نفسه الذي يسقط  فيه هذا العلماني الحداثي من حيث لا يشعر و ربما بنفس الحدة والخطورة . إن العلماني ينطلق من مسلمة وهمية ( لأنه سلمها في عقله فقط ) مستوردة من التراث الأوروبي و بالضبط من تاريخ الصراع بين العلم و الكنيسة .. الصراع المعروف الذي أفرز فكرة العلمانية ( فصل الدين عن الدولة ) أو ( ما لله لله و ما لقيصر لقيصر ) . إنه نقل للصراع من ثقافة و بيئة إلى أخرى مختلفة تماما و على أكثر من صعيد .. إنها سلفية حداثية من حيث كونها ارتباط بماضي الغير لا بمنتوج الحاضر للانطلاق نحو المستقبل .

الشاب الثائر على الماضي و الداعي إلى القطيعة الفكرية والمعرفية مع التراث لا يرى المستقبل بعين الحاضر الراهن الذي يعيشه ويسعى إلى بناء الاتي من خلال ارضية اليوم ، لأنه ببساطة شديدة يحاول بناء المستقبل من خلال الحلم بالمستقبل لا من خلال المتاح اليوم ، و امكانيات اليوم ، و ما أنتجه الماضي و راكمته التجربة . فهل تستقيم النظرة وهل تستقيم الحلول بين الطرحين ؟ 

إن إحداث القطيعة التامة بين الحاضر و الماضي لبناء المستقبل أو ممارسة التمرد على الحاضر لبناء المستقبل .. كل ذلك نوع من الانتحار الفكري ، بل تعد مغامرة منهجية محسومة العواقب و الاثار ولا شك أن مصيرها الفشل الذريع ، و يمكن البرهنة على ذلك من خلال تسليط الضوء الكاشف على الحاضر الذي يحاول تغييبه من كلا الطرفين .

لا يستطيع عاقل أن ينكر أننا نرتبط بحاضرنا ارتباطا وثيقا ، فنحن اليوم نعيش في ضوء ما أنتجه الماضي و نتطلع نحو المستقبل من خلال انجازات الحاضر التي نسعى الى تجويدها و تطويرها .  فلا المتطلع للماضي يستطيع أن ينسخ التاريخ مهما كان براقا لامعا في فترة من الفترات ، حتى ذلك العصر الذهبي النبوي الشريف أو الذي بعده ، فلا أحد يستطيع ذلك بكل تأكيد ، لأن سنة الله جرت على أن التجارب الانسانية تتراكم و تتطور ليحصل الإستخلاف و عمارة الارض . في المقابل لا يمكن بحال من الأحوال إحداث القطيعة و كأننا ننطلق من نقطة الفراغ إلى كمال التطور الذي يتخيله العلماني الحداثي حين يقارن بين الدول و الحضارات و الانجازات .

مشاركة