الرئيسية ثقافة وفنون “عبث ” فرجة مسرحية بنكهة سينمائية

“عبث ” فرجة مسرحية بنكهة سينمائية

IMG 20181127 WA0059.jpg
كتبه كتب في 27 نوفمبر، 2018 - 2:56 مساءً

 

صوت العدالة – علي الداه

 

عودتنا فرقة بصمات الفن على التجديد والابتكار والتمرد على أنماط كلاسيكية في الاشتغال على العرض المسرحي بدءا من النص كلبنة أولية تستوجب الخروج عن المألوف ، فعرض مسرحي جيد يبقى رهين بوجود نص جيد وقوي من حيث الفكرة والبناء الدرامي بشكل عام ، وصولا للتصور الإخراجي وما يرافقه من محسنات جمالية على مستوى السينوغرافيا والملابس والإضاءة المسرحية والموسيقى.. ناهيك عن الممثل باعتباره أساس العرض المسرحي والقادر على ممارسة فن الاختزال وترجمة التصور الإخراجي بشكل حي على الركح المسرحي.
قبل الخوض في ترجمة ما أحسه وما أحسسته وأنا أتابع فصول مسرحية ” عبث ” لفرقة بصمات الفن لمخرجها ومؤلفها الفنان إبراهيم رويبعة لابد من الإشارة إلى تاريخ هذه الفرقة وما راكمته من عروض مسرحية استطاعت أن ترسم لنا خارطة طريقة تميز مشوارها المسرحي ، الحديث هنا يجرنا للتذكير بتاريخ هذه الفرقة والذي أسس بشكل أو بآخر تجربتها الحالية “عبث ” والتي نحن بصدد الكتابة عنها من باب الوقوف على ملامح التجديد والتمرد على أشكال وأنماط عودتنا عليها العديد من الفرق المسرحية العاملة في إطار الدعم المسرحي ، “انكسار”، “أنا وجولييت”، “تقاطعات”، “باب البحر”، “أيام التبوريدة”، “عرس الديب”، “راوية نار”، “طاح راح”، و”بورتريه” كلها تجارب مسرحية ساهمت في تكوين رؤية أكثر نضج واحترافية لدى المخرج إبراهيم رويبعة والذي نجح إلى حد بعيد في ركوب تجربة مسرح العبث كإحدى المدارس العالمية المستعصية على مستوى الاشتغال باعتبارها امتداداً لحركات أدبية مختلفة ظهرت لفترات قصيرة في بدايات القرن العشرين وازدهرت هذه الحركات التي عبرت عن مفاهيم ثائرة على القيم الفنية والأدبية في القرن العشرين، وكان ظهورها واضحاً جلياً بعد الحروب العالمية في محاولة للتعبير الصارخ عن التمرد الاجتماعي على الحروب الدامية وما فيها من مصائب وما تبعها من ويلات وأهوال ، تكاد كل التجارب العبثية تتفق على الغاية نفسها و التي جاءت من اجلها مدرسة العبث والقائمة بالدرجة الأولى على غموض الفكرة وعدم وجود عقده تقليدية، وانعدام الحل لما يعرض من قضايا في العرض المسرحي .
1/ النص المسرحي ” عبث ”
من خلال قراءتنا لنص “عبث “لمؤلفه إبراهيم رويبعة سنجد أنه يدخل في خانة النصوص المتضمنة لسمات هذا الأدب، فكتاب دراما العبث واللامعقول يتفقون على أن الأشياء «التي يقوم بها الإنسان، وكل الخبرات التي يكتسبها، مهما بالغ في فلسفة قيمتها ونفعها، ماهي في حقيقة الأمر سوى ألعاب تسلية، لا طائل من ورائها، ولا تغير من شيء، وفائدتها الوحيدة، هي قطع الوقت، وقتل الملل في انتظار خلاص لا يجيء» حسب الدكتورة نهاد صليحة في كتابها تيارات مسرحية معاصرة ، هذه الخاصية التي تميز نصوص العبث سنجدها حاضرة من خلال محطات صراع درامي بين شخوص المسرحية والتي جاءت نكرة دون أن يعطيها المؤلف اسما يميز الواحدة عن الأخرى بل مجردة من أي تعريف شخص1/ شخص 2 .
الانتظار سيد الموقف دائما في النصوص التي تشتغل على تيمة العبث ، بحيث وظف الكاتب هذه الخاصية من خلال اللقاء الأول بين الشخصيات في إشارة إلى زمن مضى طابعه الانتظار لموعد يجمعهما :
شخص 1 : تفضل ، واش عرفتي شحال وأنا كنتسنا هاذ النهار
شخص 2 : ضاحكا
شخص 2 : تعطلنا بزاف ..
الصراع بين الماضي والحاضر والرغبة في الرجوع للوراء على حساب الحاضر المؤلم كانت هي الديباجة التي مهد بها الكاتب مسرحيته لطرح قضايا ذات بعد سياسي واجتماعي تحيلك بشكل انسيابي نحو الشعور العميق بالاغتراب وبالزمن الضائع والقاسي . وعلى هذا الأساس, تتحدد ماهية العبث في شعور الإنسان الذي ينحو في اتجاه التأزم والقلق والاكتئاب واليأس, ورفض الواقع بكل مقوماته ونظمه.
شخص 1 : كانت أيام زوينة
شخص 2 : (في صمت )
شخص 1 : كان الفكر، الحماس، النضال ،وملي كنساليو كنغرقو فوسط الحب ..عقلتي على البنات
شخص 2 : ( منزعجا ) سمح لي ..
شخص 1 : حتى أنا ملي تفكرت ديك المرحلة كنتمنى كون الوقت رجع بنا اللور شوية ..
الشعور بالغربة في الزمن الحاضر يبقى عقدة اشتغل عليها الكاتب لطرح التباين الحاصل بين الأمس واليوم وكيف ساهمت تطورات المجتمع وصراعاته الطبقية في تجريد الإنسان وتفريغه من ذاكرته ليصبح ميتا من باب أن المفصول عن ذاكرته ميت ، من هنا يمكن أن استحضار قولة لكامو يقول فيها : “يشعر الإنسان أنه غريب في هذا الوجود. وهو منفى ميؤوس منه، ما دام هذا الإنسان محروم من ذكريات فترة غير معروفة، أومن الأمل في أرض موعودة ويمكن أن يشكل هذا الانفصال بين الإنسان وحياته شعورا بالعبثية ”
هذا فقط غيض من فيض فحيز هذه الورقة لايسمح لنا بالإحاطة جملة وتفصيلا بكل القضايا التي طرحها النص للنقاش دون أن يقترح حلولا لها وهذا أيضا يدخل في سياق الكتابة العبثية التي تكسر إنتظارات المتلقي .
2/ جمالية السينوغرافيا في العرض المسرحي “عبث ”
لا أحد يجادل على أن السينوغرافيا تبقى إحدى الضروريات الكبرى لترجمة التصور الإخراجي عموما ، باعتبارها علم وفن يهتم بتأثيث الخشبة الركحية، وهندسة الفضاء المسرحي من خلال خلق انسجام وتآلف بين ما هو سمعي بصري وحركي. ومن ثم، تحيل المتلقي على ماهو سينمائي بصري ومشهدي من جسد وديكور وإكسسوارات وماكياج وأزياء وتشكيل وصوت وإضاءة… وما إلى ذلك من جماليات اختيار إبراهيم رويبعة لفضاء اللعب كانت له أكثر من دلالة ، هو الفضاء الذي استطاع السينوغرافي والفنان العرقوبي ترجمته بنوع من الحس الإبداعي على مستوى التوزيع الهندسي والألوان القاتمة التي جاءت لتعطي صورة واضحة عن تراجع دور المسرح كفضاء لزرع قيم الحب والسلام وحب الحياة ، ليتحول دوره في مسرحية عبث إلى لقاء تفاوض بين شخصين حول قلب نظام سياسي حاكم ، استحضار المسرح من خلال بعض الأكسسورات يحيلنا على أهميته في احتواء كل الخلافات السياسية التي قد تعصف بحياة الأبرياء في تكريس صارخ لمفهوم المصلحة والبرغماتية الفردية ، التراب الذي يملأ جنبات الركح/ المسرح كانت له دلالة خاصة تحيلنا على الدمار والنسيان وتراجع دور المسرح في مقابل وسائط أخرى تزيد من تعقيد الواقع وتوسيع الهوة وتغذية النعرات والتناقضات التي يحبل بها مجتمعنا .
3/ لمسة سينمائية على مستوى التشخيص المسرحي وملابس الشخصيات
لقد استطاع إبراهيم رويبعة ان يمزج في تصوره الإخراجي بين المسرح والسينما ، تارة في التصور الذي طبع ملابس الشخصيات والتي جاءت لتعطي صورة تعكس خلفية كل شخصية على حدة ، شخصية القاتل المأجور والتي جسدها الفنان (بوبكر أوملي) بملابسه التي تبعث الرهبة في النفوس وحركاته ورقصاته التي تشبه الى حد بعيد أبطال السينما العالمية في عاداتهم وطقوسهم الغربية التي تميز تركيبتهم النفسية ، وشخصية المفاوض التي جسدها الفنان (محمد اوراغ سيموكا ) والتي صورت عالم المافيا بكل ما يحمل من صور السادية واللارحمة والتلذذ بمعاناة الآخر ، والتفكك النفسي الذي يطبع تصرفات هذا العالم الملئ بأشكال العنف ، وتارة أخرى نستشعر تلك اللمسة السينمائية في الزوايا التي وظفت الضوء لتمنح للشخوص وضعا اعتباريا يحيل على سلطتها وقوة حضورها في المتن المسرحي أدبيا ، تلك التحركات التي تقوم بها الشخصيات قبل الدخول في الحوار وهي تقطع الركح المسرحي ذهابا وإيابا في إشارة لاختصار عامل الزمن النفسي والبيولوجي على حد سواء .
على مدار ساعة من الزمن تابعنا طبقا فرجويا دسما رحل بنا إلى عالم ملئ بالتناقضات، ملئ بالصراعات ، صراع بين شخصيتين حول الانخراط في عملية اغتيال لشخصية ستقلب موازين القوى لصالح فئة على أخرى ،هنا يكون التفاوض مبني على المصالح الذاتية دون أدنى شعور بالحس الإنساني المشترك ، بعد جدال طويل بين هذا وذاك تكون الغلبة للقوي القادر على إطلاق رصاصة تنهي عقدة الصراع دون أن تمنحنا شعورا بالأمن والأمان ، السطو على الماضي على الذاكرة تبقى هي الصورة الأخيرة التي ينهي بها المخرج إبراهيم رويبعة مسرحيته ” عبث ” من خلال حصول شخصية المفاوض على تلك اللعبة التي تصدر موسيقى ارتبطت في أذهاننا بالطفولة والبراءة البعيدة كل البعد عن دنس السياسة وصراعاتها .
كل هذه الانطباعات الأولية المختصرة لاتعبر بالضرورة عن القيمة الفنية والإبداعية لمسرحية ” عبث ” وزخمها الفكري والجمالي والإبداعي ، وما دعوتها للمشاركة في فعاليات مهرجان أيام قرطاج المسرحي في دورته العشرون بتونس الشقيقة كممثلة للمسرح المغربي الإ خير دليل على أن هناك في مسرحية ” عبث ” ما يستحق الانتباه.

مشاركة