الرئيسية آراء وأقلام القضاء وسؤال الإصلاح بالمغرب‏

القضاء وسؤال الإصلاح بالمغرب‏

368535738.jpg
كتبه كتب في 30 سبتمبر، 2016 - 11:57 مساءً

من المعلوم أن ورش إصلاح القضاء في المغرب أضحى معطى لا محيد عنه في سبيل تحقيق الإقلاع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقد أثار هذا الموضوع منذ الإعلان عنه ضجة إعلامية ونقاشات لم تخلوا من العصبية والصراعات من طرف كل المهتمين والعاملين بحقل العدالة، وأيضا من طرف الأحزاب السياسية، وبصفة عامة كل منظمات وفعاليات المجتمع المدني بمختلف مشاربها وشرائحها وكوادرها وانتماءاتها. في حين أنه يعتبر من الأوراش الكبرى التي تستأثر باهتمام جل مكونات المجتمع المغربي وعلى رأسها عاهل البلاد، وذلك من خلال الخطب الملكية للملك الراحل الحسن الثاني، أو من خلال خطب الملك محمد السادس، التي أبانت عن الرغبة الملحة في إصلاح الجهاز القضائي ومنظومة العدالة ببلادنا، أو من خلال دسترة القضاء والاعتراف باستقلاليتها من خلال دستور المملكة لسنة 2011، أو من خلال الميثاق الوطني لإصلاح منظومة العدالة الذي شكل حلقة أساسية في مسلسل إصلاح المنظومة القضائية ببلادنا .

” فقديما قيل إن العدل أساس الملك، والحقيقة أن العدل هو أساس الحضارة وأساس الأمن والاستقرار، والدليل القاطع على المدنية والأصالة. فإذا كان المغرب يدخل نفسه في مقاييس الدول ذات الحضارة والأصالة والباع الطويل في المدنية، فعليه إذن أن يجعل من العدل الأساس لحياته اليومية والأساس لفضيلته التربوية “. “والعدالة كما لا يخفى هي الضامن الأكبر للأمن والاستقرار والتلاحم الذي به تكون المواطنة الحقة. وهي في نفس الوقت مؤثر فاعل في تخليق المجتمع وإشاعة الطمأنينة بين أفراده، وإتاحة فرص التطور الاقتصادي والنمو الاجتماعي وفتح الباب لحياة ديمقراطية صحيحة تمكن من تحقيق ما نصبو إليه من آمال”، فنظرا للدور الكبير والجسيم الذي يلعبه القضاء المغربي داخل الدولة، والتي يقوم بها تجاه مؤسسات الدولة وتجاه المواطن، فقد حظي هذا الجهاز بأهمية بالغة جعلت منه موضوعا للعديد من الخطب والرسائل الملكية الموجهة لضرورة إصلاح هذا الجهاز حتى يكون قضاء نزيها مستقلا ومواكبا للتطورات المجتمعية ولمسار بناء دولة المؤسسات، ودولة الحق والقانون، وأحد الأركان الأساسية الضامنة للانتقال الديمقراطي الذي تعيشه بلادنا. وقد كان الملك الراحل الحسن الثاني السباق إلى القول بوجود خلل في الجهاز القضائي، وقد ألح مرارا وبشدة خلال التسعينات على الضرورة القصوى لتحديث عدالتنا وانفتاحها. وما تبعها من خطابات للملك محمد السادس منذ توليه عرش المغرب في 23 يوليوز 1999، يدعوا من خلال هذه الخطب إلى إصلاح القضاء، والتي كان آخرها خطاب العرش لسنة 2013 بمناسبة التوصل إلى ميثاق لإصلاح المنظومة القضائية.

فما هي أبرز التوجهات والملامح الكبرى لهذا الإصلاح كما جاءت في الخطب الملكية؟ والدستور؟ والميثاق؟ وكيف لها أن تؤسس لأرضية إصلاح تستجيب لإنتظارات وطموحات المغاربة في منظومة عدالة مستقلة، نزيهة، ومتطورة؟

I- إصلاح القضاء في تصور الخطب الملكية:

لقد أعطيت مسألة إصلاح القضاء أهمية، منذ عهد الملك الحسن الثاني، إذ ألح مرارا على الضرورة القصوى لتحديث العدالة وانفتاحها، وأثار أيضا انتباه الجميع إلى وظائفها الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما أشار إليه من خلال قوله:” من المعلوم  أن القضاء أصبح يواجه تحديات جديدة سواء بالنسبة للمغرب أو لغيره من البلدان، تحتم عليه ألا يتوانى عن المبادرة في مواجهتها إذا ما أراد أن يستمر في أداء رسالته النبيلة، وأن يكون قادرا على مواكبة التحولات الاقتصادية والاجتماعية كما أن عليه بصفة خاصة أن يأخذ بعين الاعتبار تسارع وتعقد هذه التحولات ليتمكن من معالجتها بما يلزم من استجابة وكفاية “. وهو ما يدل على ضرورة مواكبة القضاء للتطورات والمستجدات التي تعرفها الساحة الوطنية والدولية، وأن يكون مستعدا لمواجهة التحديات القادمة والمستقبلية التي تعرفها بلادنا.

أما على مستوى تحليل مضمون الخطب الملكية للملك محمد السادس، نجدها بأنها استعملت كثيرا مفهوم إصلاح المنظومة القضائية، فضلا عن حضور مفاهيم ذات الحمولة الإصلاحية، مثل التأهيل، والتحديث الشامل، الإصلاحات الجوهرية، الإصلاحات المؤسسية العميقة، الإصلاحات الهيكلية، الإصلاحات الجذرية. وما عزز طرح إصلاح المنظومة القضائية خطاب الملك محمد السادس، مساء يوم الخميس20  غشت 2009، بمناسبة الذكرى ال56  لثورة الملك والشعب:”مواصلة للجهاد الأكبر لتحقيق هذا الهدف الأسمى، فقد ارتأينا أن نخصص خطابنا، المخلد لذكراها السادسة والخمسين، لإطلاق الإصلاح الشامل والعميق للقضاء، تعزيزا لأوراش التحديث المؤسسي والتنموي، الذي نقوده. فمنذ تولينا أمانة قيادتك، وضعنا في صلب انشغالاتنا إصلاح القضاء، بمنظور جديد، يشكل قطيعة مع التراكمات السلبية، للمقاربات الأحادية والجزئية”.

ويعتبر خطاب العرش لسنة 2013، متابعة لمسار الاهتمام الملكي بالمنظومة القضائية بالمغرب وبضرورة ترسيخ استقلالها وإصلاحها، حيث عبر عنه جلالته بقوله:”ما فتئنا منذ تولينا أمانة قيادتك، نضع إصلاح القضاء، وتخليقه وعصرنته، وترسيخ استقلاله، في صلب اهتماماتنا، ليس فقط لإحقاق الحقوق ورفع المظالم، وإنما أيضا لتوفير مناخ الثقة، كمحفز عل التنمية والاستثمار. وفي هذا الصدد، نسجل بارتياح التوصل إلى ميثاق لإصلاح المنظومة القضائية. حيث توافرت له كل الظروف الملائمة، ومن ثم، فإنه يجب أن نتجند جميعا، من أجل إيصال هذا الإصلاح الهام إلى محطته النهائية. ومهما تكن أهمية هذا الإصلاح، وما عبأنا له من نصوص تنظيمية، وآليات فعالة، فيظل “الضمير المسؤول” للفاعلين فيه، هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته”.

 

 

II- إصلاح القضاء في دستور 2011

لقد عمل المشرع المغربي على تدارك الفراغ القانوني الحاصل في دستور 1996، وذلك حينما نص في  الفصل 107 من دستور 2011 على أن: ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، والملك هو الضامن لاستقلال القضاء”. فانتماء القاضي إلى سلطة مستقلة، وضرورة تخليق هذا الجهاز، هي من أكبر هذه الإشكالات. فالاستقلال هو أكبر دافع لتميز ومساءلة القاضي ومحاسبته؛ إذ أن مبدأ الشرعية وسيادة القانون يفترض أن يسود كل من الحكام والمحكومين على حد السواء، ومادام الحال كذلك فلابد أن تكون السلطة القائمة على صيانة هذا المبدأ –بما في ذلك القاضي- مستقلة وقادرة على حمايته. فهذا الاستقلال وعدم تدخل أي سلطة في الوظيفة القضائية هو الذي يضمن للجهاز القضائي طابع الحيادية وأن يكون محققا لقواعد ومبادئ العدالة، وتطبيق العدل بين الأفراد داخل الدولة، لهذا يقول “مونتسكيو”:”لا تكون الحرية إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، وإذا كانت متحدة بالسلطة التشريعية كان السلطان على الحياة، وحرية الأهلين أمرا مراديا، وذلك لأن القاضي يصير مشرعا، وإذا كانت متحدة بالسلطة التنفيذية أمكن القاضي أن يصبح صاحبا لقدرة الباغي”.

ويتجلى مبدأ استقلال السلطة القضائية بشكل واضح كذلك في الفصل 109 من الدستور، الذي ينص على أنه: “يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء؛ ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط. ويجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية “، وفي الفقرة الأخيرة من نفس الفصل نص على أنه يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة، وفي هذا تزكية لطرح أن الدستور وثيقة أسست لإصلاح عميق لمؤسسة القضاء، واعتراف دستوري باستقلال السلطة القضائية.

ويجب التنبيه هنا، بأن نص المادة 20 من مشروع القانون التنظيمي رقم 106.13 المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة، والمؤسس وفقا للفصل 112 من دستور 2011؛ وعلى إثر إنجاز ميثاق إصلاح منظومة العدالة؛ ووفقا للمبادئ والمعايير الدولية المتعلقة باستقلال السلطة القضائية بما يوافق روح دستور المملكة، التي جاء فيها:”يوضع قضاة النيابة العامة تحت سلطة ومراقبة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ورؤسائهم التسلسليين”، يلفها الكثير من الغموض وكثرة تضارب الآراء، وتدل على التبعية التي أكدتها هذه المادة، لكن السؤال المحوري هو ما نوع هذه التبعية؟ ولمن؟. كما أن مشروع القانون التنظيمي للقضاة، استنسخ مقتضيات واردة في الدستور دون تفصيلها وتوضيحها وأجرأتها، وهو ما يخالف ما ذهب إليه المجلس الدستوري بعدم استنساخ فقرات الدستور في النصوص التنظيمية. وما يتعلق أيضا بما جاء في نص المادة 41 من مشروع هذا القانون التنظيمي، المتعلقة بحرية التعبير والرأي بالنسبة للقضاة،لم يحدد أين تبدأ هذه الحرية وأين تنتهي.

ومن المحطات المتميزة  في مسار إصلاح القضاء بالمغرب، هو تنصيص الدستور على المجلس الأعلى للسلطة القضائية، الذي أصبح هو الساهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم، ويضع تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها، وذلك بموجب الفصل 113 من دستور المملكة لسنة 2011، الذي ينص على أنه: “يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، ولاسيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم. يضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بمبادرة منه، تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة، ويُصدر التوصيات الملائمة بشأنها. يُصدر المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بطلب من الملك أو الحكومة أو البرلمان، آراء مفصلة حول كل مسألة تتعلق بالعدالة مع مراعاة مبدأ فصل السلط”، وإعادة النظر في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء (المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمقتضى دستور 2011)، والذي ألغى بموجبه عضوية وزير العدل في المجلس والتي كانت محل انتقاد باعتبار وزارة العدل مؤسسة تنفيذية ومن شأن ذلك أن يؤثر على استقلال سلطة القضاء، وهو ما نص عليه الفصل 115 من الدستور الذي جاء فيه:”يرأس الملك  المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ويتألف هذا المجلس من : الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا منتدبا؛ الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض؛ أربعة ممثلين لقضاة محاكم الاستئناف، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم؛ ستة ممثلين لقضاة محاكم أول درجة، ينتخبهم هؤلاء القضاة من بينهم؛ ويجب ضمان  تمثيلية النساء القاضيات من بين الأعضاء العشرة المنتخبين بما يناسب مع حضورهن داخل السلك القضائي؛ الوسيط؛ رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان؛ خمس شخصيات يعينها الملك مشهود لها بالكفاءة والتجرد والنزاهة والعطاء المتميز في سبيل استقلال القضاء، من بينهم عضو يقترحه الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى”. هذه التركيبة المستقلة تؤكد بالملموس على التطبيق الفعلي لمبدأ فصل السلط الذي سعى الدستور الجديد إلى تكريسه وبلورته.

III- إصلاح القضاء من خلال ميثاق إصلاح منظومة العدالة

لقد اتّبع المغرب منهجية جديدة في التعامل مع إصلاح منظومة العدالة، من خلال “الحوار الوطني حول الإصلاح الشامل والعميق لمنظومة العدالة”، الذي شاركت فيه190  مؤسسة رسمية وجهوية ووطنية، مع مكاتبات ومقترحات الأحزاب السياسية، انتهت بعد 14 شهراً من العمل إلى تقديم خريطة طريق في أيار/مايو 2013 رفعت أمام أنظار الملك، حيث يشمل إصلاح منظومة العدالة مهن القضاء كافة (القضاء، المحاماة، كتاب الضبط، الموثقون، الخبراء، المفوض القضائي…)، وقد تضمن هذا الميثاق ستة أهداف استراتيجية رئيسية، وينبثق عن هذه الأهداف الرئيسية 36 هدفا فرعيا، يستلزم تنفيذها الفعلي 200 آلية تنفيذ، كما يتضمن المخطط الإجرائي المرافق لمشروع هذه التوصيات الستة 353 إجراء تطبيقيا، وذلك قصد بلوغ الغاية الجليلة لهذا الإصلاح. وتتضمن الأهداف الستة المحورية ما يلي:

– الهدف الاستراتيجي الأول يكمن في توطيد استقلال السلطة القضائية: باعتباره من أهم محاور إصلاح منظومة العدالة، وكفالة لحسن سير العدالة، وتكريسا لحق المواطنين في الاحتماء بالقضاء المستقل المنصف الفعال، وذلك عن طريق وضع القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على أرض الواقع، وتكريس الاستقلال الإداري والمالي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتخصيص ميزانية ومقر خاص بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والعمل على إحداث مفتشية عامة للتفتيش القضائي بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية يسيرها مفتش عام يعينه الملك باقتراح من الرئيس المنتدب للمجلس؛ وكذلك ضمان تمثيلية النساء القاضيات من بين الأعضاء العشرة المنتخبين لعضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية، بما يتناسب مع حضورهن داخل السلك القضائي، على أساس قاضية على الأقل من أربعة قضاة يمثلون محاكم الاستئناف، وقاضيتين على الأقل من ستة قضاة يمثلون محاكم الدرجة الأولى، تعزيزا لمقاربة النوع داخل الجهاز العدلي ببلادنا؛ وإقرار التفرغ بالنسبة للقضاة المنتخبين لعضوية المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وتحديد مدة انتدابهم في خمس سنوات. أما فيما يخص التدبير الأمثل للمسار المهني للقضاة، فقد حث الميثاق على ضرورة وضع القانون التنظيمي للنظام الأساسي للقضاة؛ واسناد اتخاذ مجموع القرارات الفردية المتعلقة بالمسار المهني للقضاة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ وتعزيز التفتيش القضائي عن طريق تأليف المفتشية العامة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، بالإضافة للمفتش العام؛ واعتماد آليات التنسيق والتعاون بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارة العدل في مجمل شؤون منظومة العدالة؛ واستقلال النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، من خلال إسناد رئاسة النيابة العامة إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض.

– الهدف الثاني الذي تضمنه الميثاق، فهو يتعلق بتخليق منظومة العدالة: وذلك من أجل تحصين هذه المنظومة من مظاهر الفساد والانحراف، وتكريس دورها في تخليق الحياة العامة، ودعم وإشاعة قيم ومبادئ المسؤولية والمحاسبة والحكامة الجيدة المنصوص عليها في دستور 2011، وذلك بالعمل على تطبيق الأهداف التي جاء بها ميثاق إصلاح منظومة العدالة على أرض الواقع، والتي من بينها تعزيز آليات الجزاء لضمان نزاهة وشفافية منظومة العدالة، بتتبع ومراقبة الثروات والتصريح بالممتلكات، مع الأخذ بعين الإعتبار، إذا اقتضى الأمر، مظاهر الثراء الذي لا يتناسب مع الدخل المشروع للمعني بالأمر، مع مراعاة ضمانات يحددها القانون؛ وتعزيز مبادئ الشفافية والمراقبة والمسؤولية في المهن القضائية، عن طريق إحداث هيئة قضائية ومهنية مختلطة على مستوى محاكم الاستئناف، تتكون من ثلاثة قضاة من بينهم الرئيس، ومحاميين اثنين يمثلان مجلس هيئة المحامين، للبت في الطعون المقدمة ضد القرارات التأديبية وغيرها، الصادرة عن هذا المجلس، مع تخويل الهيئة المذكورة حق التصدي؛ وترسيخ القيم والمبادئ الأخلاقية لمنظومة العدالة، عن طريق وضع المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وكذا هيئات باقي المهن القضائية والقانونية لمدونات سلوك، تتضمن القواعد الأخلاقية والمهنية التي يجب الالتزام بها من قبل المعنيين بها، مع العمل على نشر هذه المدونات؛ وتعزيز دور القضاء في تخليق الحياة العامة، وذلك بتخويل المجلس الأعلى للحسابات ومختلف هيئات الحكامة إحالة الأفعال التي تكتسي صبغة جنائية مباشرة إلى النيابة العامة المختصة، وتوسيع مجال الإلزام بالتبليغ عن جرائم الفساد المالي وإقرار جزاءات عن عدم التبليغ عنها، وتوفير الوسائل الضرورية لحماية الضحايا والشهود والمبلغين.

– الهدف الثالث المتعلق بتعزيز حماية القضاء للحقوق والحريات: أكد الميثاق على ضرورة نهج سياسة جنائية جديدة، تبدأ بملاءمة القوانين الزجرية الوطنية مع أحكام الدستور، ومع مبادئ الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة الجريمة وبحقوق الإنسان، المصادق عليها والمنشورة، وتعزيز الحماية القانونية للنساء ضحايا العنف؛ مع تطوير سياسة التجريم من خلال نزع التجريم عن بعض الأفعال والبحث عن حلول لها خارج المنظومة الزجرية، وتوسيع مجال الأخذ بالعقوبات الإدارية في ميدان الأعمال بدل العقوبات الزجرية؛ وإرساء سياسة عقابية ناجعة تقر بدائل للعقوبات السالبة للحرية، مع مراجعة النصوص القانونية التي تتضمن فوارق شاسعة بين الحدين الأدنى والأقصى للعقوبة، في اتجاه التقليص من هذه الفوارق؛ وتعزيز ضمانات المحاكمة العادلة بترشيد الاعتقال الاحتياطي من خلال إخضاعه لضوابط واضحة ومحددة، وعدم اللجوء إليه إلا في حالة الضرورة، وتقليص مدده، وتعليل القرارات المتعلقة به، مع العمل على جعل هذه القرارات قابلة للطعن أمام جهة قضائية بشروط يحددها القانون؛ وضمان نجاعة آليات العدالة الجنائية، عن طريق منع التدخل أو إعطاء التعليمات لضباط الشرطة القضائية من غير الجهات المختصة فيما يتعلق بتسيير الأبحاث القضائية، مع وضع آلية لحوسبة محاضر الضابطة القضائية، من أجل ضمان معالجتها الحينية في إطار التواصل الرقمي مع النيابات العامة؛ والعمل على تحديث آليات العدالة الجنائية، بإحداث مرصد وطني للظاهرة الإجرامية والاهتمام بالإحصاء الجنائي، وإحداث مركز وطني للسجل العدلي، وتحديث إدارة السجل العدلي، لضبط الجوانب المتعلقة بحالات العود.

– الهدف الرابع الذي جاء في الميثاق، يهدف بالأساس إلى الارتقاء بفعالية ونجاعة القضاء: وذلك بتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة، وتوفير عدالة قريبة وفعالة في خدمة المتقاضين من خلال إرساء التنظيم القضائي على مبدأي الوحدة والتخصص، وذلك بإرساء أسس تنظيم قضائي قائم على التخصص في إطار وحدة القضاء، قمته محكمة النقض؛ ودعم فعالية الأداء القضائي، بإسناد الاختصاص لبعض المحاكم الابتدائية للبت في القضايا الجنائية ابتدائيا، بناء على معايير تأخذ بعين الاعتبار توفر مؤسسة سجنية في دائرتها؛ وتقريب القضاء من المتقاضين وعقلنة الخريطة القضائية بإرسائها على معايير موضوعية، قائمة على مبدأي حجم القضايا وتقريب القضاء من المتقاضين، مع مراعاة الاعتبارات الديموغرافية والجغرافية؛ والبت في القضايا وتنفيذ الأحكام خلال آجال معقولة، وذلك باعتماد الإدارة الإلكترونية للقضايا من أجل تسريع الإجراءات والمساطر القضائية، واعتماد وسائل الاتصال الحديثة لضبط وتسريع إجراءات التبليغ؛ وكذلك العمل على الرفع من جودة الأحكام وضمان الأمن القضائي باعتماد آليات تمكن من توحيد الإجتهاد القضائي والحد من تضاربه، وإقرار آليات قانونية تتعلق بالتعويض عن الخطأ القضائي؛ وتسهيل الولوج إلى القانون والعدالة من خلال تطوير نظام المساعدة القضائية، وإحداث نظام المساعدة القانونية المجانية؛ وتسهيل اللجوء إلى الوسائل البديلة لحل المنازعات عن طريق تشجيع اللجوء إلى الوساطة والصلح والتحكيم لحل هذه المنازعات، ومأسسة الوساطة الأسرية بقضاء الأسرة.

– الهدف الخامس يتعلق بإنماء القدرات المؤسسية لمنظومة العدالة: وذلك بإنماء القدرات المهنية لكل مكونات منظومة العدالة (قضاة، موظفي هيئة كتابة الضبط، محامين، موثقين، عدول، مفوضين قضائيين، خبراء قضائيين، تراجمة محلفين، موظفين وأعوان مكلفين بمهام الشرطة القضائية)، من أجل تعزيز ودعم آليات تعزيز ثقة المواطن في هذه المهن، وذلك عن طريق التأهيل المؤسسي لاحتضان الجودة وضمان التميز، من خلال مراجعة نظام التكوين الأساسي والمستمر والتخصصي بمعهد تكوين القضاة، وإحداث مدرسة وطنية لكتابة الضبط؛ والارتقاء بمعايير وشروط ولوج وممارسة مهن منظومة العدالة، بمراجعة مستوى المؤهل العلمي للمشاركة في مباريات ولوج سلك القضاء، مع الانفتاح على مختلف التخصصات العلمية، وإشراف المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تنظيم مباريات الالتحاق بسلك القضاء؛ والارتقاء بمستوى وفعالية التكوين الأساسي والتخصصي عن طريق الرفع من مدة التكوين الأساسي للملحقين القضائيين بمعهد تكوين القضاة إلى ثلاث سنوات؛ ودعم التكوين المستمر لضمان الاحترافية باعتماد مبدأ إلزامية التكوين المستمر، واعتباره حقا وواجبا بالنسبة لجميع منتسبي مهن منظومة العدالة؛ والرفع من قدرات الموارد البشرية لهيئة كتابة الضبط من خلال اعتماد مبدأ إلزامية التكوين الأساسي للموظفين الجدد الملتحقين بهيئة كتابة الضبط، واعتماد إلزامية القيام بتدريب حول الإدارة القضائية لتولي منصب المسؤولية الإدارية؛ مع تقوية القدرات المؤسساتية للمهن القضائية والقانونية، بإحداث مجلس وطني لهيآت المحامين، من ضمن مهامه وضع التصورات العامة للتكوين الأساسي والمستمر للمحامين، ووضع نظام داخلي موحد لهيئات المحامين، ومدونة سلوك للمهنة، وإحداث هيئة وطنية للخبراء القضائيين لمختلف فروع الخبرة القضائية؛ ودعم الثقة في المهن القضائية والقانونية، من خلال تعزيز الضمانات الممنوحة للمتعاملين مع المهن القضائية والقانونية، بالنص عليها في صلب القوانين المنظمة لهذه المهن.

– الهدف السادس والأخير يعمل على تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها: لبلوغ هذا الهدف، ينبغي النهوض بالبنية التحتية للمحاكم لتوفير ظروف ملائمة للعمل والاستقبال، وتحديث أساليب الإدارة القضائية، بما يضمن تدبير مواردها البشرية المادية، والارتقاء بأدائها، مع ارتكازها على استخدام التكنولوجيا الحديثة، من أجل تحقيق العدالة الرقمية، كل هذا لن يتأتى إلا عن طريق إقامة إدارة قضائية احترافية ومؤهلة، وذلك بمراجعة اختصاصات وتنظيم وزارة العدل في ضوء أحكام الدستور بشأن استقلال السلطة القضائية، وتحديد اختصاصات المفتشية العامة لوزارة العدل؛ والعمل على تأسيس إدارة قضائية قائمة على اللاتمركز الإداري والمالي بتوسيع مجال التفويض الإداري والمالي للوحدات الإدارية اللاممركزة، وبإعادة هيكلة وتنظيم المديريات الفرعية الجهوية؛ فإرساء مقومات المحكمة الرقمية لن يأتي بمحظ الصدفة، ولكن بوضع المخطط المديري لإرساء مقومات المحكمة الرقمية، بما يضمن تقوية البنية التحتية التكنولوجية للإدارة القضائية، وتوفير الأنظمة المعلوماتية الآمنة، والبرامج المتعلقة بإدارة القضايا والمساطر، مع تأهيل الموارد البشرية، وتحديد آجال التنفيذ؛ وإحداث بوابة الإدارة القضائية، وتقوية المواقع الإلكترونية للمحاكم، وتوجيه خدماتها المجانية المنتظمة للمواطنات والمواطنين، وذلك من أجل تحديث خدمات الإدارة القضائية وانفتاحها على المواطن؛ والارتقاء بمستوى مرافق المحاكم وتجهيزها.

فتصور الميثاق لإصلاح العدالة من خلال أهدافه الستة، ينطلق من تشخيص لواقع الممارسة القضائية بالمغرب، يرتكز على مبدأ استقلالية السلطة القضائية، وتخليق منظومة العدالة، انطلاقا من منظور استراتيجي يأخذ مسارين يسيران جنبا إلى جنب، يهتم الأول بالإصلاح المؤسساتي للقضاء، ويركز الثاني على البعد الأخلاقي والمعرفي للقاضي، وذلك في سياق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يشهدها المغرب، وفي اندماج وتكامل مع روح الدستور والمنظومة الكونية لحقوق الإنسان، والمواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة.

وتعتبر الأهداف الإستراتيجية التي جاء بها ميثاق إصلاح منظومة العدالة، ذات أهمية بالغة، نظرا لكونها ركيزة أساسية ومحورية في إصلاح هذا الجهاز، لكن تبقى هذه التوصيات والأهداف حبر على ورق إذا لم تفعل وتطبق على أرض الواقع، وإذا لم توفر لها الإعتمادات المالية الضرورية، وآليات للمتابعة والتقييم تتولى قياس مدى بلوغ هذه الأهداف المسطرة لمراميها، وكذلك ضرورة الانخراط الجدي والفعال والقوي، وبروح من المسؤولية والمواطنة الإيجابية من لدن الجميع، سواء سلطات عمومية، أو مهنيين عاملين في ميدان العدالة، أو إعلاميين، أو مواطنات ومواطنين، من أجل ربح رهان إنجاح ورش إصلاح منظومة العدالة، ومواجهة اللحظات المفصلية التي من شأنها أن تتقدم بهذا الوطن ومواطنيه على درب الديمقراطية

ويجب من جهة أخرى، إعادة النظر في العديد من الجوانب، التي من بينها مبدأ تبعية النيابة العامة لوزير العدل، وذلك ضمانا لاستقلاليتها وتفاديا للتأثير عليها، وضرورة ارتكازها على ثوابت القيم الكونية والمعايير الدولية ذات الصلة بالعدالة وحماية الحقوق والحريات والشفافية والحكامة الجيدة، بالإضافة إلى تفعيل مقتضيات الدستور المتعلقة بالسلطة القضائية، واعتماد مقاربة تشاركية في إطار صياغة القوانين التنظيمية ذات الارتباط بمؤسسة النيابة العامة، بعيدا عن أي انتماء حزبي، أو حقد سياسي، أو مصالح فردية، أو فئوية ضيقة، لأن إصلاح العدالة مشروع مجتمع ومسؤولية دولة بمختلف مؤسساتها.

 

مشاركة