نزهة الاحد رقم 26… مياه الربيع تتدفق بين إيفان تورجنيف و اندري موروا

نشر في: آخر تحديث:

                                          بقلم نور الدين الرياحي 

ما أن يحل فصل الصيف و يبدأ موسم الحصاد حتى تبدأ تسري في روحي و فكري و حتى جسمي بعض الانفعلات الإيجابية منذ صغري و تعطيني طاقةزائدة و تفاؤل مستمر و امل جديد تجعلني اعيش الصيف عيش المراهق في الثانوية و الطالب في الكلية و القانوني في المحكمة و رب الأسرة فيما بعد ….

و المتنزه يوم الأحد في رياض المثقفين و الادباء و الفنانين و تساءلت مع نفسي كل مرة عن سر ذلك الا ان قرأت يوما في علم الابراج فوجدت بان ما بين برجي العربي و الغربي و الصيني مزيج من التراب و الماء و ان كنت لا اؤمن إيمانا شديدا بالابراج لان الإيمان بالله و قضاءه و قدره و مقدراته لا يجب ان يطغى عليه اي ايمان.

و ان كان علم الابراج من العلوم التي تتفكر في خلق السماوات و الأرض و تؤمن بان خلقها ما كان باطلا سبحان من جعل فيهااسرارا و اخبارا

.و لربما يعرف المقربين مني سر هذا التفاعل الايجابي مع الأرض لا لانني ابن فلاح و حفيد فلاح و لا لأن ارتباط برجي بالتراب ثارة و الماء ثارة اخرى و لان الماء هو حياة التراب ، فلربما هذا التفاعل الغريب حكى عليه كثير من اصدقائي و صديقاتي و حتى ام الورود التي رافقتني فيه منذ اربعة عقود .

و سامحني الله على ما تسببت لها فيه من كسر نظامها الدقيق و حرصها على التوقيت من فوضوية و عشوائية في الأكل و المشرب و تنظيم البيت ،و إخراجها من نظامها المحكم إلى تلقائية في كل شيئ و التعامل مع اللحظة لاننا مسيرين و ليس بمخيرين .

فحتى حطام الكتب الذي يحيط باسرتي و مكاتبي و الأوراق و المقالات التي تختلط فيها الاداب و القانون و الشعر و الموسيقى و الفنون و الفلاحة و الزراعة و الصناعة و الحسابات و الردود الخاصة و العامة على قرائي و قارءاتي و اختلاط ما يجول بعقلي و فكري و احاسيسي الانسانية .

و عندما تريد أن ترتب لي ذلك لاستطيع و لو المرور تحتار في التنظيم و اجيبها بان الماء و التراب عندما يختلطان ينتجان ذلك المزيج الذي هو انا و تتبسم كعادتها .

.و لما ارادت صباح يوم الأحد أن تنظم ممرات جوانب الخزانة المتنقلةو لربما سبقت يديها الجميلتين و وضعت دون شعور كتاب مياه الربيع لايفان ترجنيف و بالقرب منه كتاب لاندري موروا، و لم تكن تدري العلاقة بين هاذين العملاقين في الأدب و الشعور و الفكر الإنساني.

و بان الأول روسي و الثاني فرنسي و بان قصتي معهما بدأت و عمري لا يتجاوز الرابعة عشرة .و يرجع الفضل دائما إلى ابن خالتي و ما كنت اعتبره ابا و اخا كبيرا المرحوم سيدي عثمان القدميري لما اهدى الي جزءا من خزانته الأدبية و انا طفل صغير و هو يسافر إلى باريس في سبعينات القرن الماضي لاستكمال تكوينه المهني هناك .

لاجد نفسي اتهجى الأدب الفرنسي و الروسي و اكتشف لامارتين و هيجو و اندري موروا و نيتشه و تولتستوى و عبد القادر المازني و العقاد و شوقي و كتب صفراء اخرى تركها له والدي رحمة الله عليه الذي كانت هوايته الصيد و القراءة و الاسفار .

ووفر علي رحمة الله البحث عن امهات الكتب بحكم ثقافته الواسعة التي كان يغني بها خزانته في ستينات القرن الماضي و هو طالب في كلية الحقوق و التي التحقت بها سنوات قليلة بعد سفره .

و تشاء الاقدار ان امتحن قدراتي الأدبية بالمغامرة في المشاركة سنة 1976 و انا طالب مبتدئ في كلية الحقوق و في مجلة الهلال المصرية و في تلك المسابقة العالمية التي نظمتها تزامنا مع زيارة الرئيس انوار السادات لإسرائيل و توقيع معاهدة السلام و كانت الغاية منها المساهمة في نشر السلام و التعايش و الحب بين الأمم.

و كان موضوعها حول ما هي أجمل كلمة حب سمعتها أو قرأتها أو قلتها ؟

و شاركنا و مجموعة من عشاق الاداب الطلبة فيها حتى جاؤوا يسخرون مني عند ظهورنتيجة المسابقة و انتظرنا شهورا لنذهب الى كشك ساحة محمد الخامس في زاوية زنقة علال ابن عبد الله المقابل لمدرسة بيجي التي كنت من تلامذها لنتصفح العدد المعلن فيه النتيجة و نصيح من الفرح في زمن لم تكن فيه الانترنيت و سخر مني زملائي الطلبة مازحين :

آن لك ان تغادر كلية الحقوق بعدما سمتك اكبر مجلة بالاديب المغربي الشاب.
و تعجب صاحب الكشك من كرمنا الزائد و نحن نشتري منه كل اعداد مجلة الهلال التي ظهر فيها اسم صديقهم .

و منذ ذلك التاريخ بقدر ما كنت مزهوا زهو الشباب بهذه التسمية بقدر ما كنت و لا زلت اتقرب من شخصياته و ادرسها و أحاول النفاذ الى عمالقتها .

و الأدب و الفلسفة هما الاب الشرعي للعلوم القانونية و المرافعات لان فلسفة الإقناع و تفسير المصطلحات آليتها هي القدرة على التعبير و تفسير الكلمة تفسيرا قانونيا و كما يقول بعض الفقهاء مثل الزاوية التي تسمى :
ANGLE DROIT .
لا مجال في مناقشة دقتها لانه لا مجال في الاختلاف بين الحق و الدقة .

و كانت الكلمة التي جعلتني افوز بالجائزة الثانية من بين الثلاث الجوائز في السباق هي للشاعر الروسي استروفسكي :

قالت قطعة الجليد و قد مسها اول شعاع من أشعة الربيع انا احب فأنا اذوب و لا يمكن أن أوجد واحب معا ، فلابد من الاختيار بين امرين اثنين : وجود بدون حب و هاذا هو الشتاء القارئ الفظيع او حب بدون وجود و هذا هو الموت في مطلع الربيع .

و منذ ذلك التاريخ و اصدقائي في كلية الحقوق يبحثون عن مؤلفات القانون و انا ابحث عن الأدب الروسي الذي
اعتنى بالفلاحة و الأرض و حرثها و حصادها و حياة استعباد الاقطاع للضعفاء و طبيعة روسيا الخلابة و قصص الحب التي نشأت في الربيع .

لاجد في هذا الصباح و انا اخرج للنزهة معكم ام الورود و قد رتبت العشرات من الكتب المبعثرة كعادتي في زمن كرونا و وضعت فوق منضدتي الجانبية رائعة مياه الربيع للكاتب الروسي إيفان تورجنيف و عليها عازف الكمان الذي يذكرني بفنان جميل الطلعة جابر للقلوب و هو يعزف بكمانه و كانه تورجنيف يعزف الحان الكلمة و يتمزق بين مشاعر حبه و اشتعال نار قلبه في صمت مؤمنا كما آمن تورجنيف بان ما ياسر قلب الانسان هو جمال روح الحبيب و ما جمال الذات الا نوع من الكمال و ان كان مصدر الهام .

و صورة الغلاف تذكرني كذلك بصديقة روسية شابة جميلة اختطفها الموت ،كانت دائما عندما تزورني في المغرب تسميني باسم برجي الصيني و عندما قدمت تعازي لوالدتها الطبيبة التي لا تحسن الإنجليزية مثلي كثيرا نادتني بالاسم الذي اختارته لي ابنتها المرحومة عوض اسمي الحقيقي .و ذكرتني حتى في لحظات العزاء بذلك المرح الذي كنت اقتسمه في لقاءاتنا العائلية مع بنتها الفقيدة داخل و خارج المغرب .

و كنت دائم الطلب لصديقتي ان تحدثني عن المواقع التي حدثت فيها وقائع تلك القصص التي قرأتها لتشيكوف و بوشكين و الأقلام الروسية التي كانت تحاول إخراج الفلاحين من براثن العبودية آنذاك .

و كانت تعدني بزيارتها لكن موتها المبكر حال دون ذلك .و لكن ما علمته منها انها تشبه طبيعة بوادي و قرى وطننا الحبيب بفارق قساوة الشتاء فقط كما تشبه نفوسنا الطيبة نفوس شعراء و ادباء نهضة روسيا الأدبية .

.فكما تذوب الثلوج في روسيا باشعة شمس الربيع كما قال استروفسكي تذوب القلوب و قد استطاع إيفان تورجنيف الاقطاعي الاصل الذي رق قلبه للعبيد وعذابهم في ذلك المجتمع البائد الذي كان لا يعرف رأفة و لا شفقة في القرن الثامن و التاسع عشر حيث استطاع بعد وراثته الأرض أن يخالف القسوة التي كانت تعامل امه بها عبيدها و التي وصفها في قصصه بالشراسة و التسلط و التحكم و القسوة و بلغت به الوقاحة الى وصف امه بعدة اوصاف لعدم تشبعها بقيم الحرية و الانسانية التي سرت في شرايين هذا الفتى الاقطاعي الاصل جميل الروح .

و تكلم في رواية مياه الربيع كيف يمكن للذكريات ان تذوب( برفع التاء ) جليد الكهولة التي تكاد تتحجر قلوب أهلها فيترقرق ماء الحب عذبا فراتا في قلب بطل القصة الجميلة كما تذوب جليد القلوب الجميلة التي تتراكم عليها مشاعر الحب و الشوق و تأسرها و تنفذ الكلمات الجميلة و الغريب أن سبب عشقه للفاتنة الإيطالية الفنانة المسرحية كان هو التقرب اليها بحكايات عن المجتمع الروسي و قصص القلوب المكسرة الباحثة على من يجبر كسرها .

و تشتعل خلجات الغرام فيه و هو يعيش قصة مع تلك الحسناء الإيطالية التي كتب لها معه اللقاء ….و اي لقاء و ذلك خلال رحلته الى المانيا فتحولت النار الى نارين و العاطفة الى عاطفتين . عاطفة و غرام يعده بالدفئ و الحنان و النار الإيطالية المنطلقة من جحيم فيلسوفها دانتي و كم كانت و لا زالت إيطاليا ذلك الجحيم الذي اختاره كبار الادباء و الفلاسفة و المفكرين ليهدوا قلوبهم الى الإيطاليات لشوائها على نار غرامهن الهادئة و يتلذذن باكلها بعد ذلك .

و تتكلم مياه الربيع عن العاطفة الثانية التي مزقت دون ان تشوي قلب بطل قصة تورجنيف و هي الروسية الثرية ….و العاشقة التي تغريه بغرام آخر ممزوج بذوبان جليد الربيع.

والغريب أن مياه الربيع هي قصة واقعية لتورجنيف لذلك صرح في مذكراته بانه لم يجد صعوبة في كتابتها لانها تتعلق بشخصه و تلك قمة الروعة في الأدب.

و الغريب أيضا و ان كآنت اوجه الخلاف بارزة انها تشبه واقعية للكاتب الفرنسي الكبير بلزاك مع عشيقته الروسية التي بنى لها قصرا في باريس احتاج معه الى شرب كميات من القهوة عبارة عن سطول ليؤلف المزيد …….

من أجل الحصول على المال و ارضاء قريبة القيصر و ليبني لها قصرا به و يذهب لاحضارها من روسيا الى فرنسا علها ترضى عنه ، و لما حقق رغبته تدهورت حالته الصحية من كثرة السهر من أجل الحصول على المال و الاستدانة فمات بعد أن زاره فيكتور هيجو و قال له قولته المشهورة :

ان مجد العظماء في بساطتهم يا مسيو بلزاك. و هو يقصد ما يقصد ……

و قرأت فيما بعد انه بينما كان بلزاك في غرفة قصره بين سكرات الموت ذهب خادمه لايقاظ روسيته الحسناء فوجدها في غرفة اخرى بين ذراع عشيق لها ، و كانت تلك النهاية لكاتب روائع الأدب الفرنسي الذي اشتعل حبه في روسيا و انطفأ في باريس ……..

لكن ان يعجب صاحب رواية أجواء او طقوس الكاتب الفرنسي الكبير اندري موروا الذي بفرط إعجابي بأسلوبه الذي اعتبره كبار نقاد الأدب بانه الأسلوب الأكثر تأثيرا و رقة في الأدب المعاصر الفرنسي و اللغة الفرنسية و يكتب سيرة ذاتية على العبقري تورجنيف فيلزمنا عدة نزهات للإطلاع على التحليل النفسي و الواقعي و الفني لابدعات إيفان تورجنيف كما رواها العبقري اندري موروا .

و كما عددها قلمه بكل جبروته و تعبيراته الحالة و كيف استطاع ان ينقل للقارئ كآية من آيات الله سبحانه و تعالى عندما يخص عبدا من عباده من ملكة من الملكات ، و قد كنت مدمنا إدمانا على قراءة روايات اندري موروا و اشتريت منها العشرات منها (أجواء climats).

نسخ هديتها لكل اصدقائي و صديقاتي من أجل القراءة و الارجاع لكن اي واحد منهم و منهن لم يف بوعده و التمست لهم و لهن العذر لان من قرأ القصة لا بد أن تشتعل فيه نعرة قراءتها من جديد لعله يتصور الشعور الإنساني بأسلوب في اللغة و الخيال و الواقع المنطبق على الانسان فتهب به نعرة اعادة قراءتها و التشوق الى ملازمة المرجع .

بلغة يكاد يصل جمالها إلى الوحي و اندري موروا كما يعرفه قراؤه ليس من الكتاب الذي يروون الرواية او يكتبون القصةو لكن هو ممن يحللون نفسيات أبطاله و بطلاته فلا تفرق بين كونه كاتب او طبيب نفساني او هو البطل نفسه او البطلة ، او شاعر بمضامين النفوس و تقلباتها و شهواتها المتعددة و يستخرج الشهوة من نظرة او رقصة او كلمة او محادثة بسيطة او مراسلة او حديث او عزف موسيقى، او نثر كلمة شعر ،فيجعل القارئ يعيش معه اللحظة بكافة تجلياتها ، و لم ينل تلك العبقرية بين عباقرة الأدب و الفكر مجانا و انما باستحقاق كبير دلت عليه مبيعات مؤلفاته الى يومنا هذا و تحميلها حتى الآن في زمن الانترنيت و التواصل الاجتماعي.

فهذا الكاتب الذي استقبلته الأكاديمية الفرنسية سنة 1938 بالاحضان صاحب كتاب فن الحياة و أجواء و وازن الارواح و سير ذاتية لعبقريات عالمية و غيرها ، كان فنانا حتى في اختيار موضوعات رواياته و قصصه و مسرحياته و اصبحت اقوله مراجع في فهم الحياة الانسانية و التغول في أسرارها أليس هو القائل :

بإمكان كل قيد يحدّ من انطلاقتنا أن يحثنا على اكتشاف و تطوير صفات و قدرات أخرى لعلها كانت قد بقيت .

أهم شيء هو ألا تخاف، فعدوك الذي يجبرك على التراجع يخافك في تلك اللحظة ذاتها.

يمكن تحسين الحوار بصورة كبيرة عن طريق الإكثار من استخدام كلمتين بسيطتين: لا أعلم.

الروايات الرائعة تكون غالبا معاكسة كلية لحياة المؤلف.

نَدِين للعصور الوسطى بأسوأ اختراعين في تاريخ البشرية: الحب الرومانسي والبارود.

العمل هو مزيج من الصراع والتسلية.

الزواج الناجح محادثة طويلة تبدو دائما أقصر مما يجب.

يكاد يستحيل تحقيق زواج بلا خلافات، مثله في ذلك مثل دولة بلا كوارث.

يمكننا التحدث عن عيوبنا فقط لمن يعترفون بمميزاتنا.

الزواج الناجح صرحٌ لابد أن يُعاد بناؤه كل يوم.

ليس التقدم في العمر إلا عادة سيئة لا يملك المنشغلون وقتا لاكتسابها.

أصعب ما في النقاش ليس الدفاع عن وجهة نظرك، بل معرفتها.

من لا يتجنب الغرابة لا يستطيع أن يكون أصيلا حقا.

نحن نقدر الصراحة ممن يحبوننا، أما الصراحة من الأخرين فنطلق عليها وقاحة.

الحقيقة الخالصة بمثابة السم لبعض الناس

.
فالفن يهدف إلى خلق عالم أكثر إنسانية مواز للعالم الحقيقي كما كان يقول و ما احوجنا الى فهم هذه المفاهيم الانسانية و التغلغل الايجابي في مكوناتها .

فكيف يمكن لكاتب و مفكر من هذا العيار الثقيل ان يسرد سيرة ذاتية لايفان تورجنيف يربط بها بين ما أغنى به هذا الكاتب الروسي الأدب العالمي و شخصيته و دراسة نفسيته ؟

ذلك بحول الله ما نحاول اكمال به نزهة الاحد المقبل في رياض هاتين العبقريتين.

                             يتبع 

مذكرات نور الدين الرياحي
نزهة الاحد رقم 26 .
الاحد 27 حزيران 2021

اقرأ أيضاً: