مشروع المسطرة الجنائية التفتيشية غير ملائم للمغرب سياسيا وحقوقيا

نشر في: آخر تحديث:

النقيب علال البصراوي  

إن تعديل قانون المسطرة الجنائية أو وضع مسطرة جديدة أمر بالغ التعقيد في كل البلدان وذلك لسببين على الأقل:

الأول يعود لطبيعة المسطرة الجنائية نفسها وصعوبة الدور الذي تلعبه في المحاكمة: فهي أداة الدولة لإنزال العقاب على المتهمين، وفي نفس الوقت وسيلة هؤلاء المتهمين لضمان المحاكمة العادلة.

والسبب الثاني يعود لكون المسطرة الجنائية أحد أهم عناصر السياسة الجنائية التي تهدف إلى التصدي للجريمة، وهذه مهمة صعبة ومعقدة تشكلت حولها مدارس فكريةوثيارات ومذاهب، وكل دولة تختار ما يناسب سياستها العامة ويتماشى مع تطورهاووضعها الحقوقي والسياسي. لذلك فإن تعديل المسطرة الجنائية، ووضع مسطرة جديدةليست مسألة تقنية تتم لسد بعض الثغرات بهدف اضافة مقتضى أو تعديل آخر.

وباستحضار هذه المعطيات نطرح السؤال حول مشروع القانون رقم 23-03 بتغيير وتتميم القانون  رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية، والذي هم مراجعة ازيد من 420 مادة (تغييروتتميم 286 مادة، إضافة 106 مادة ، نسخ وتعويض 27 مادة، نسخ 5 مواد) 

ما الغاية من هذا التعديل؟ وهل هذا التعديل سيؤدي إلى حل معضلة العدالة الجنائيةبعناوينها المعروفة: ( ارتفاع نسبة الجريمة، ازمة الاعتقال الاحتياطي، اكتظاظ السجون، ارتفاع نسبة العود…) ؟

وهل هذا التعديل والأصل المطلوب تعديله يسايران من حيث الفلسفة العامة ومن حيث التفاصيل الإجرائية الوضع السياسي والحقوقي للمغرب اليوم؟

في اطار البحث عن الأجوبة لابد من الاشارة إلى ملاحظتين بخصوص المسطرة الجنائيةالحالية والمراد تعديلها مع الحفاظ على فلسفتها العامة.

الأولى: ان هذه المسطرة السارية منذ 1959 ( ادخلت عليها تعديلات جزئية عدة مرات ) هي النص المطبق والذي في ظله وبواسطته عرفت العدالة الجنائية أزمتها التي تعيشها منذسنوات.

والملاحظة الثانية: هي كون هذه المسطرة الجنائية المحتفظ بها مع تعديلها، هي المسطرةالتي اعتمدت في محاكمات سنوات الرصاص، وانها هي التي سهلت الانتهاكات الجسيمةلحقوق الانسان التي عرفتها المرحلة. ولذلك كان من التوصيات الاساسية لهيئة الانصاف و المصالحة لطي صفحة الماضي: تعديل هذه النصوص التي سهلت الانتهاكات المذكورةوتسببت في آلام كثيرة بذل المغرب مجهودا كبيرا لطي صفحتها.

ان طبيعة المسطرة الجنائية المعمول بها في المغرب منذ 1959 وفلسفتها العامة تنتمي إلىصنف المساطر الجنائية التفتيشية التي لا تعتمد المساواة في الاسلحة القانونية والأوضاعبين طرفي الدعوى العمومية: النيابة العامة وخلفها أجهزة التفتيش والتنقيب من جهة، والمتهم مجردا من اية وسيلة للدفاع – إلا محاميه إذا تمكن من أن يكون له محام- من جهةأخرى. إن

هذا الوضع يجعل طرفي الدعوى وهما أمام هيئة المحكمة في وضعية مختلة: طرف يتوفرعلى كل الوسائل ، وهو الذي يملك القوة والسلطة ويوجه التهمة، وطرف لا يتوفر على اية

وسيلة. مع ان المسطرة الجنائية أصلا هي وسيلة المتهم للدفاع عن نفسه، والقانون الجنائيهو وسيلة النيابة العامة في مواجهة المتهم.

ان هذا الوضع يجعل المحاكمة تفقد أهم خاصياتها وهي خاصية المساواة أمام هيئةالحكم، وصولا إلى الهدف الذي هو المحاكمة العادلة كغاية انسانية وحقوقية ودستورية ( وهي من المقتضيات النادرة التي تكررت مرتين في نفس الدستور: الفصل 23 » قرينةالبراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان «  والفصل 120 »لكل شخص الحق فيمحاكمة عادلة .( « 

والمحاكمة لا تكون عادلة إلا إذا تساوى طرفاها أمام المحكمة.

لهذا الاعتبار الأساسي، المتعلق بجوهر المحاكمة، والتي تعتبر المسطرة الجنائية أداتهاالرئيسية، فإن كل الأنظمة الديمقراطية في العالم تخلت عن هذا الصنف من المساطرالتفتيشية التنقيبية وتحولت إلى صنف المسطرة الجنائية الاتهامية التي تضمن أكثر شروطالمساواة بين الأطراف أمام القضاء. وبالتالي تشكل ضمانه للمحاكمة العادلة.

لكن المشروع الحالي للمسطرة الجنائية يصر على تبني النهج التفتيشي. 

ونقف فيما يلي على بعض الامثلة من هذا المشروع للتدليل على أنه لن يساهم  في المحاكمةالعادلة ولا في حل معضلات المحاكمة الزجرية. 

التي ذكرنا بعض عناصرها.

– الحراسة النظرية:

رغم ان المشروع نص في المادة 1-66 ان الحراسة النظرية تدبير استثنائي، إلا أنه أوردعلى الأقل سبعة اسباب تبرر اللجوء إليه، وفي حقيقة الأمر كل سبب منها كاف، ومتوفردائما ويصلح في كل الحالات سببا للجوء إلى الحراسة النظرية مثلا:

– الحفاظ على الادلة والحيلولة دون تغيير معالم الجريمة

– القيام بالأبحاث والتحريات التي تستلزم حضور أو مشاركة المشتبه فيه

– وضع المشتبه فيه رهن اشارة العدالة والحيلولة دون فراره.

– حماية المشتبه فيه

– الحيلولة دون ممارسة اي ضغط على الشهود أو الضحايا أو أسرهم أو أقاربهم، 

فكلها اسباب مجتمعة أو متفرقة، وأي سبب منها صالح للاعتماد، ويمكن القول أنه متوفردائما.

وبالتالي فالحراسة النظرية مع هذه الاسباب ليست تدبيرا استثنائيا بل هو الأصل.

– الاعتقال الاحتياطي:

في وضع شبيه بالحراسة النظرية اعلاه، نص المشروع في المادة 1-175 أنه لا يمكن الأمربالاعتقال الاحتياطي إلا إذا ظهر أن هذا التدبير ضروري لأحد الأسباب التي ذكرها، وحددها في تسعة. وبالتمعن في هذه الأسباب يتضح انها يمكن اعتبارها دائما موجودةكلها أو بعضها، أي أنه يوجد دائما سبب أو أكتر للاعتقال الاحتياطي. ولنتمعن في هذهالاسباب :

– الخشية من عرقلة سير اجراءات التحقيق

– وضع حد للجريمة أو منع تكرارها

– الحفاظ على الأدلة والحيلولة دون تغيير معالم الجريمة

– وضع المتهم رهن اشارة العدالة والحيلولة دون فراره

– الحيلولة دون ممارسة اي ضغط على الشهود أو الضحايا أو اسرهم أو أقاربهم

– حماية المتهم

– منع المتهم من التواطؤ مع الأشخاص المساهمين أو المشاركين في الجريمة.

انها أسباب دائما متوفرة في كل النوازل، بل انها جامعة لكل ما يمكن تصوره كأسباب تموضعها، وبالتالي يمكن دائما الأمر باعتقال أي متهم احتياطيا.

وهذا يعني أن المشروع لم يأت بقيود من شأنها أن تخفف من أزمة الاعتقال الاحتياطيالتي أصبحت مستفحلة والتي هي موضوع نقاشات وأراء كثيرة.

– قرار الاعتقال :

من خاصيات المسطرة الجنائية التفتيشية التي يأخذ بها المغرب أن القرارات المهمة، والتيتهم المتهم وحريته وحياته الخاصة هي بيد النيابة العامة التي تأمر بوضع الشخص فيالحراسة النظرية أو تأمر بتفتيش منزله وغيرها من القرارات المهمة، في حين أنه فيالمسطرة الاتهامية، القرارات الخطيرة المذكورة تكون بيد القضاء وليس بيد النيابة العامة.

إن النيابة العامة خصم للمتهم وبالتالي عليها أن تلتمس من القضاء الاعتقال أو السماحلها بالتفتيش، وليس الأمر به مباشرة.

– القوة الثبوتية لمحاضر الضابطة القضائية:

تثير القوة الثبوتية لمحاضر الضابطة القضائية في المشروع كما هو الحال في المسطرةالمعمول بها عدة اشكالات اهمها:

– حافظ المشروع في المادة 290 على ما كانت تنص عليه من كون المحاضر والتقارير التييحررها ضباط الشرطة القضائية في شأن التثبت من الجنح والمخالفات يوثق بمضمونهاإلى أن يثبت العكس بأية وسيلة من وسائل الاثبات.

قد يبدو نظريا أنه يمكن اثبات عكس ما جاء في محضر الضابطة القضائية، لكن الحقيقةهي بخلاف ذلك: إذ كيف يمكن اثبات عكس ما جاء في المحضر؟ انه اثبات شبه مستحيل، لأن الأمر يكتسي صبغة السرية في مرحلة البحث التمهيدي حيث تحرر المحاضر في سريةومع المتهم على انفراد، وبالتالي ليست هناك أية امكانية لإثبات العكس، بل حتى الشهود تماستبعادهم وقالت بعض الاجتهادات أن وسيلة اثبات عكس ما جاء في المحضر يجب أنتكون بوسيلة  من نفس قوة ودرجة المحضر نفسه. وبالتالي تم استبعاد شهادة الشهود.

– ما دامت المحاضر تحررها نفس الجهة وهي الضابطة القضائية وفي نفس الظروف، فلماذا يوثق فيها بشكل كلي في الجنح والمخالفات ولا يوثق فيها في الجنايات ولا تعتبر إلامجرد بيان؟ 

– نصت المادة 3-66 على انجاز تسجيل سمعي بصري للمشتبه فيه الموضوع في الحراسةالنظرية اثناء قراءة تصريحاته المضمنة في المحضر وتوقيعه أو ابصامه أو رفضه حينيتعلق الأمر بالجنايات والجنح المعاقب عليها بخمس سنوات فأكثر.

فلماذا لا يوثق في الاجراء في هذه الجرائم ويستلزم الأمر انجاز تسجيل سمعي بصريويوثق فيه في الجرائم الأخرى مع ان الامر يتعلق بنفس الضابطة؟

– ولماذا يحضر المحامي حين الاستماع للمشتبه فيه إذا كان شخصا في وضعية اعاقة ولايحضر في الحالات الاخرى؟ علما بأن دور المحامي في المؤازرة هو علمي وقانوني وليسجسدي.

– المحكمة تعتمد محضر الضابطة القضائية كحجة على المتهم ويوثق بما جاء فيه بالأولويةحتى على محضر الاستماع الذي تنجزه النيابة العامة حين تقديم المشتبه فيه أمامها، ويوثق بالأول بالأولوية على الثاني رغم ان الضابطة القضائية مرؤوسة من النيابة العامة. كيف يوثق بمحضر المرؤوس على محضر الرئيس؟

ان كل  ما سبق ذكره من امثلة تبين ان مضمون كثير من الاجراءات مخالف لما توحي بهللوهلة الاولى. ومن جهة اخرى ، فإن النص على حق معين لا يعني بالضرورة أنه سيطبقمتلما نص عليه. ومثال ذلك ما تنص عليه المادة 66 من المسطرة الجنائية (2-66 منالمشروع) من انه بإمكان الشخص الموضوع في الحراسة النظرية الاتصال بمحام. لكنعادة ما تأتي المحاضر متضمنة لعبارة » تنازل عن مقتضيات المادة 66  « 

ما هي الضمانات إذن؟

في مسطرة جنائية تفتيشية لا توجد أية ضمانات في مثل هذه الحالات.

لذلك فإن التعديلات المدخلة على قانون المسطرة الجنائية من خلال هذا المشروع لا تحلمعضلة العدالة الزجرية في الجوانب التي ذكرناها، وجوانب اخرى. وإن الأمر لا يحتاج إلى

تعديلات تقنية على المواد، بل يحتاج تعديل فلسفة المسطرة الجنائية وخلفيتها الفكرية، ثمترجمة ذلك في مشروع متكامل قادر على المساهمة في التصدي للجريمة، وفي نفس الوقتضامن لحقوق اطراف المحاكمة . وإن هذه الغاية هي التي انتهت اليها كل المرجعياتوخاصة:

– دستور 2011 والخطب الملكية المتواترة حول العدالة

– توصيات هيئة الانصاف والمصالحة

– توصيات ميثاق اصلاح منظومة العدالة

– مذكرة المجلس الوطني لحقوق الانسان المقدمة إلى وزارة العدل والحريات بتاريخ 28 غشت 2014

– المرجعيات الحقوقية المعتمدة، وخاصة المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيةوالسياسية.

– المبادئ التوجيهية بشأن دور اعضاء النيابة العامة كما اعتمدها مؤتمر الامم المتحدةالثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا بتاريخ 27  غشت 1990

– مبادئ اساسية بشأن دور المحامين التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمةومعاملة المجرمين المنعقد في هافانا في 1990

– الملاحظات الاممية الموجهة إلى المغرب في موضوع المسطرة الجنائية من طرف هيئاتالمعاهدات وخاصة: 

* اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في 1 دجنبر 2004

* لجنة مناهضة التعذيب في 21 شتنبر 2011

* لجنة حقوق الطفل في17 مارس 2006

* التوصيات الموجهة إلى المغرب في إطار الاستعراض الدوري الشامل.

مع مراعاة وضع الشريك الذي يتمتع به المغرب مع كثير من الهيئات والمؤسسات الدولية ذاتالصلة.

كل هذه المرجعيات المعيارية تدفع في اتجاه اصلاح شامل وعميق للمسطرة الجنائية وتجاوزالنموذج المعمول به الذي اصبح غير ملائم لوضع المغرب سياسيا وحقوقيا بالنظر إلى ماراكمه المغرب على هذه المستويات.

اقرأ أيضاً: