السيد والي جهة فاس – مكناس؛
السيد الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بفاس ممثل السيد الرئيس المنتدب للسلطة القضائية؛
السيد رئيس قطب الدعوى العمومية وتنفيذ السياسة الجنائية ممثل السيد رئيس النيابة العامة
السيد رئيس جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس؛
السيد الوكيل القضائي للملكة؛
السادة المسؤولون القضائيون؛
السيد مدير المركز الجهوي للاستثمار
السادة العمداء؛
الحضور الكريم؛
إنه لمن دواعي سروري أن أحضر معكم هذا اللقاء العلمي الذي يلتئم اليوم في هذا الفضاء البديع، لقاء ارتضيناه جميعا مجالا للحوار الرصين، والنقاش العميق، والإرادة الصادقة في أن نجعل من تنوع خلفياتنا مرتكزا لتوظيف ذكائنا الجماعي في بلورة أبعاد جديدة لموضوع “الوساطة والاستثمار”، وتسليط الضوء على عديد الفرص التي توفرها المقتضيات القانونية ذات الصلة، وفتح المجال أمام الإبداع الخلاق للاهتداء إلى أفضل الممارسات الداعمة لجذب الاستثمار والحفاظ عليه.
إن تنوع مشاربكم، السيدات والسادة الحضور، وتعدد انتماءاتكم ومرجعياتكم الفكرية، يجعل من هذا اللقاء فرصة سانحة لضمان الالتقائية المنشودة في بسط الرأي والرأي الآخر في موضوع حظي باهتمام ملكي سام من خلال، دعوة جلالة الملك نصره الله، إلى تفعيل آليات التحكيم والوساطة، لحل النزاعات في مجال الاستثمار .
فالشكر موصول إليكم جميعا، حضرات السيدات والسادة، على ما عبرتم عنه بحضوركم، من استعداد وقبول للانضمام إلى هذا اللقاء الجهوي في تنظيمه، الوطني في أبعاده، كشركاء أساسيين، حاملين لانشغالات الارتقاء ببيئتنا الاستثمارية وحاجتها الملحة إلى تسوية الخلافات ذات الصلة، ليس فقط كمنظرين ومتكلمين في موضوع سمته التطور، بل كفاعلين تحدوهم الرغبة الأكيدة في التوفيق بين تيسير ظروف الاستثمار ومتطلبات استدامته وضمان تنافسيته في بيئة شديدة التغير.
حضرات السيدات والسادة؛ قد لا نختلف كثيرا حول ما تزخر به منظومتنا التشريعية والتنظيمية من قواعد ومقتضيات مؤطرة لمجال الاستثمار بشكل عام، كما قد لا نختلف حول ما يمكن أن نصفه بـ”الهوة” القائمة بين هذه المنظومة والواقع الاستثماري، “هوة” يقتضي منا الأمر تكثيف الجهود لملء فراغاتها، وأعتقد أن موضوع “الوساطة” الذي أنتم بصدد مناقشته اليوم أحد هذه المداخل.
لذا أعتبر أننا جميعا مطالبون، كل من جهته، كل من زاوية اهتماماته واختصاصاته، بإعادة قراءة الواقع القانوني والتنظيمي المؤطر لموضوع الوساطة، ورصد ما ترسخ من ممارسات وتطبيقات، وما تقتضيه المستجدات المتسارعة من عمل تجديدي في هذا الشأن.
حضرات السيدات والسادة؛ لا أخفيكم سرا، لما تمت دعوتي إلى حضور هذا اللقاء، وجدت نفسي أمام العديد من المداخل التي تلامس الموضوع، بل وأمام تعدد الجهات المعنية به، لدرجة أن كل جانب من جوانب الموضوع يستحق أن يكون مدار لقاءات خاصة به؛
لكن، لي كامل القناعة، بأن التنوع الفكري الذي يمثله السادة المتدخلون (قضاة جامعيون باحثون وممارسون …) سيكون قادرا على إماطة لثام الغموض عن مختلف التساؤلات التي تثار بإلحاح، في كثير من الأحيان، كلما طرح نقاش الوساطة، وعن مجمل الانشغالات التي تصاحب “جدوى الوساطة” من زاوية المكتسب في مجال الاستثمار الوطني، لكن أيضا في ظل واقع داخلي عنيد يظهر ضعف اللجوء إليها، وسياق دولي متطور تؤطره أحيانا قواعد وأعراف تحكمها اتفاقيات الاستثمار وتسوية المنازعات بين المستثمرين والدول المضيفة، أفرزت مفاهيم استثمارية من قبيل “المعاملة الوطنية للأجنبي”، أو “معاملة الدّولة الأولى بالرّعاية”، وما ارتبط بهما من وجوب احترام معيار المعاملة العادلة والمنصفة من جهة، ومراعاة الاستثناءات المقررة بأجيالها المختلفة من جهة ثانية.
حضرات السيدات والسادة؛ قد لا أحتاج، في هذا المقام، إلى الحديث عن دور الوسيط في المساهمة في إشاعة ثقافة العدل والإنصاف ودعم الشفافية في تدبير المرافق العامة المتدخلة في موضوع الاستثمار، ولا عن دوره في حماية المستثمرين (مغاربة كانوا أو أجانب) إزاء مجموعة من السلوكيات الارتفاقية المعيبة (التأخيرات غير المبررة، والإهمال، وعدم انتظام الإدارة في خدماتها، وعدم استمرارية المرفق العام)؛
وقد لا أحتاج أيضا إلى التطرق إلى دور الوسيط في توضيح المواقف الغامضة، وتصحيح الأفكار الخاطئة وتبيان سوء الفهم، ووقف انتهاك حقوق المرتفقين المستثمرين بتفسيرات غير منصفة، من خلال الاعتراف بالخطأ المرتكب والتعويض عنه، ولم لا، تقديم الاعتذار إن كان ضروريًّا؛
وقد لا أحتاج كذلك إلى الحديث عن دور الوسيط في الدفاع عن موقف الإدارة وتحفيز النشاط الإداري ذي الصلة وضمان سلاسة إجراءاته، وتحديثه، ودقته، ونزاهته، وحياديته؛
ولكن سأكون محتاجا حقيقة إلى الإشارة، من خلال هذه الكلمة الافتتاحية، إلى التوجه الجديد الذي سنته مؤسسة الوسيط في شأن التعامل مع الحقوق الارتفاقية للمستثمرين من منظور فئوي يراعي خصوصياتهم الفئوية، اعتبارا لما تتميز به البيئة الاقتصادية من خصوصيات، واعتبارا للتنوع الكبير الحاصل على المستوى الدولي في الآليات العمومية المحدثة لتسوية النزاعات الناشئة في مجال الاستثمار قبل اللجوء إلى القضاء.
وإذا كانت بعض الأنظمة قد اختارت لذلك نهج خيار المؤسسات الخاصة، أو رجحت خيار “وسطاء الاستثمار” مركزيا أو جهويا، أو فضلت ممارسة مهام تسوية النزاعات الاستثمارية ضمن إطار حكومي من خلال لجان خاصة بين إدارية، فإننا نؤكد أن وسيط المملكة، كمؤسسة دستورية باختصاصات جد موسعة، يمكن أن تقدم الكثير من الدعم لأنشطة الاستثمار، وعلى أكثر من صعيد في هذا المجال:
فمن جهة، تعزز الحكامة الجيدة والشفافية الضروريتين لتحسين مناخ الأعمال وخلق فضاء ملائم للتنافسية، والحفاظ على بيئة جاذبة للاستثمار، بحيث تشكل تدخلاتها إحدى العوامل المشجعة للمستثمرين، على النحو الذي يحمي المستثمر من المخاطر المتعلقة ببعض الممارسات والسلوكيات الإدارية، ويوفر الشروط الضرورية لممارسة الأنشطة الاستثمارية؛
ومن جهة ثانية، تساعد بشكل مباشر في تسوية الخلافات الاستثمارية لأولئك الذين يختارون سبيل الوساطة المؤسساتية باعتبار بساطة وشفافية وسرعة ومجانية وسرية إجراءاتها، بل وأيضا بسبب عدم جواز الاحتجاج بالحلول التي يصل إليها أطراف التظلم، من قبل الغير أو في مواجهته، مما يجعل طالب التسوية طرفا مساهما في صياغة القرارات الناتجة عنها؛
هذا، فضلا عن بلورة تصورات أكثر بعدا في مناخ الاستثمار تصل إلى رصد الأولويات، من خلال ما يرد عليها من تظلمات تعبر في الغالب عن وجود خلافات من شأنها أن تذكي القلق في البيئة الاستثمارية وتنمي تمثلات خاطئة حولها.
ومن جهة رابعة، تحرص المؤسسة على تسهيل التعاون بين المستثمرين والسلطات الحكومية المعنية، من خلال ضمان تواصل فعال بين الطرفين، وتقديم اقتراحات لتحسين البيئة القانونية والتنظيمية لفائدة المستثمرين؛ وذلك 1) من خلال آليات تدخل متنوعة، ألخصها في التلقي والمعالجة (الشكايات والتظلمات وطلبات التسوية)، المبادرة التلقائية، البحث والتحري، المخاطبين الدائمين، اللجان الدائمة للتنسيق والتتبع مع الإدارات…؛ 2) وعبر مراكز قوة جاذبة، أجملها في المرونة والمجانية والابتعاد عن التعقيدات الإجرائية والمسطرية وسهولة الولوج والامتداد الجهوي للمؤسسة من خلال وسطاء جهويين ومحليين؛ وإعمال مبدأ العدل والإنصاف، ثم قطع آجال الطعن ووقف آجال التقادم؛
وعموما، ترتبط معظم التظلمات ذات الصلة بمناخ الاستثمار والتي تعتبرها المؤسسة مؤثرة في القرار الاستثماري، ويمكن أن تكون محل وساطة ميسرة في ما يلي:
■ التأخر الحاصل في زمن تقديم خدمات مكاتب الواجهة المتعلقة بإنشاء أو إدارة الأعمال؛
■ الخلافات المرتبطة بطلبات منح التراخيص والتصاريح والشهادات؛
■ الخلافات المرتبطة بسلطات الإدارة في تقدير الحقوق المتعلقة بإدارة الأعمال (التقديرات التعسفية)؛
■عدم مراعاة التوازن المنشود بين مقتضيات حماية المستثمر بمعناها العام وبين السياسة التنموية للدولة، أو عدم مراعاة الاستثناءات المقررة (الأمن /الصحة/حقوق الإنسان) (بما فيها الجيل الجديد من الاستثناءات: حماية البيئة، الثروات الطبيعية، التراث الحضاري، حقوق الأجيال القادمة)؛
■ عدم أداء بعض المستحقات المترتبة في مواجهة الإدارة وأشخاص القانون العام.
■ عدم تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة في مواجهة الإدارة وأشخاص القانون العام.
السيدات والسادة؛ لا أخفيكم سرا، أن الأمل معقود على أن تجعلوا من خلاصات هذا اللقاء أرضية لبلورة فهم جديد مشترك للوساطة (بجميع أنظمتها) كرافعة للاستثمار.
لأننا اليوم، نعطي الانطلاقة لحوارات موسعة بين المتدخلين، فنقول إن الوساطة (مؤسساتية كانت أو اتفاقية) ليست شأنا ثانويا ولا موضوعا نظريا نؤثث به ترسانتنا التشريعية ومخرجات بحوثنا العلمية، بقدر ما هي آلية حضارية لفض الخلافات بعيدا عن منطق التصادم والنزاع، وبتعبير آخر، بعيدا عن منطق أطراف الخصومة القضائية.
إنني على قناعة تامة ويقين أكيد، أن ما سيتمخض عنه لقاؤكم هذا من أفكار سيشكل رصيدا معرفيا مهما للرصد، وتقديم البدائل والمقترحات لصياغة ما يمكن أن نسوقه ونرفعه كتوصيات ستساهم لا محالة في حلحلة الأمر في تجلياته المختلفة.
وفي ختام هذه الكلمة، اسمحوا لي باسمكم جميعا أن أوصل جزيل الشكر وخاصته للسيد الوالي، على انخراطه التام ودعمه لهذا اللقاء، وعلى ما وضعه رهن إشارتنا جميعا من إمكانيات ووفره لنا من وسائل ستساعد لا محالة على إنجاح هذا الملتقى، وللسادة المتدخلين على إسهاماتهم العلمية الرصينة، ولكل السادة الحضور، على استجابتهم وتفاعلهم المميز،
وفقنا الله جميعا لما فيه خير هذه البلاد، وجعلنا جميعا عند حسن ظن مولانا المنصور بالله دام عزه وعلاه.