حاتم البطيوي
في غمرة أحزان تشييع السيد محمد بن عيسى، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة وعمدة المدينة ووزير خارجية المغرب الأسبق، إلى مثواه الأخير، أدليتُ بتصريحٍ صحافي مفاده أن بن عيسى هو فكرة، والفكرة لا تموت، وأن غيابه الجسدي لا يعني غياب أفكاره ورؤاه، التي ستظل حاضرة بقوة وملهمة للأجيال القادمة في أصيلة وغيرها.
إن ما قام به بن عيسى في مسقط رأسه هو، في نهاية المطاف، إنجاز يصب في صالح الإنسان، ومن ثم، فإنه، إلى جانب البعدين الثقافي والسياسي اللذين ميزا شخصيته الفذة، كان البعد الإنساني هو الأساس في مسيرته المتميزة.
فمنذ انطلاقة مشروعه الثقافي والتنموي في أصيلة، راهن بن عيسى على الطفل باعتباره عماد المستقبل ، وحرص على أن ينشأ في بيئة نظيفة تساعده على الإبداع، وتمكنه من النظر إلى العالم بروح إيجابية مفعمة بالجمال والفن. ومن هنا جاءت فكرة إنجاز الجداريات الفنية في أزقة المدينة العتيقة.
وبشأن ذلك كان بن عيسى يقول :” إذا كانت بيئة الطفل سليمة، فإن عقله سيكون سليمًا لا محالة”.
لقد رحل بن عيسى عن دنيانا الفانية بعد عقود من النضال والعمل والبناء من أجل مدينته، التي بذل الغالي والنفيس ليرتقي بها، وينتشلها من وهدتها. فقد بنى تقريبًا كل شيء جميل فيها، وأخرجها من بوتقة التخلف والهامشية، لتصبح شمسًا تشع ضياءً في سماء المغرب والعالم العربي.
إن من يعود بذاكرته إلى ما قبل عام 1978 سيدرك كيف كانت عليه الحال في أصيلة، والتطور الذي عرفته ، ومدى حجم الإنجازات التي تحققت فيها بمذاق الصبر والأناة. وذلك ، لعمري ، أمر لا ينكره إلا جاحد .
حين بدأ بن عيسى خطوته الأولى في مغامرته غير المسبوقة، رفع شعار “الثقافة من أجل التنمية”. استصغر البعض الفكرة في الوهلة الأولى واستهجنوها، بل اعتبرها بعضهم ضربًا من الجنون، لكنهم نسوا أن شيئًا من الجنون، أو كثيرًا منه، هو ما يصنع التاريخ. وبالفعل، استطاع بن عيسى أن يجد لمشروعه في أصيلة موطئ قدم على أرض الواقع.
لم تكن المسيرة سهلة، فقد اعترض طريقه ما لا يخطر على بال، وهي أمور عايشتها عن بعد في البداية، قبل أن أعايشها عن قرب بحكم العلاقة الروحية التي جمعتني به.
إلا أنه، بفضل عزيمته وصبره وثباته، وأيضًا تسامحه، استطاع أن يتجاوز كل الصعاب. ولا يمكننا أن ننسى الدور الكبير الذي لعبه الملك الراحل الحسن الثاني، من أجل ترسيخ مشروع أصيلة ، حيث استطاع، بفراسته، أن يستشرف ويستوعب ما كان يعتزم بن عيسى القيام به في مدينته، فسمح بأن يكون ابنه وقرة عينه، ولي العهد آنذاك، الأمير سيدي محمد، رئيسًا شرفيًا لموسم أصيلة الثقافي الدولي منذ بداياته، قبل أن تستمر فعاليات هذه التظاهرة الثقافية الفريدة تحت رعاية الملك محمد السادس.
في ربيعه الخامس عشر، زار الملك محمد السادس أصيلة لأول مرة خلال موسمها الثقافي الأول (1978) للاطلاع على فعالياته، وتفقد أوراش الفنون التشكيلية المقامة في قصر الثقافة. ومنذئذ، أصبح عطفه على أصيلة ملحوظًا لا تخطئه العين.
إن من يقرأ رسالة التعزية التي بعث بها الملك محمد السادس إلى عائلة فقيد المغرب وأصيلة، محمد بن عيسى، يلمس أيضًا المكانة التي كان يحظى بها لدى مليكه.
ومما جاء فيها قوله :”وإن كان رحمه الله قد رحل إلى مثواه الأخير، فسيظل أثره حيًا كرجل دولة مقتدر ودبلوماسي محنك، أبان عن كفاءة عالية في مختلف المناصب السامية التي تقلدها، بكل تفانٍ وإخلاص، سواء كوزير للثقافة، أو وزير للشؤون الخارجية والتعاون، أو كسفير لجلالتنا في واشنطن، أو كمنتخب برلماني وجماعي (محلي). كما نستحضر، بكل تقدير، ما كان يتحلى به من خصال إنسانية رفيعة، ومن سعة الأفق والفكر، وشغف بالثقافة، إذ أخذ على عاتقه هم الإشعاع الثقافي والفني لمدينة أصيلة، مسقط رأسه، التي سخر نشاطه وجهوده لخدمة تنميتها، وفرض إشعاعها الثقافي والجمالي وطنياً ودولياً، لا سيما من خلال تأسيسه وتسييره لمؤسسة ‘منتدى أصيلة’، مجسدًا بذلك مثالًا يُحتذى به في المواطنة المسؤولة”.
لقد حمى بن عيسى أصيلة على امتداد عقود طويلة، بدعم ملكي موصول، وكانت لديه أفكار وأحلام أخرى كثيرة أراد إنجازها، لكن مشيئة الله كانت أقدر.
رحل بن عيسى وهو يلهج حتى لحظات حياته الأخيرة بذكر محبوبته أصيلة تاركا وصايا كثيرة بشأنها .
وها هي أصيلة اليوم قد وصلت إلى مفترق طرق .فإما أن تكون أو لا تكون. واستمراريتها مسؤولية جماعية تتطلب عناية استثنائية من الدولة، حفاظًا على روح المدينة وإشعاعها الذي امتد إلى مختلف الآفاق، وأيضًا حمايةً للصورة التي قدمتها في الخارج عن المغرب المنفتح والمتعدد والواعد.
عن النهار العربي