صوت العدالة / أكادير
في مشهد إداري يعكس دقّة المرحلة التي تمرّ بها الإدارة الترابية، برز اسم محمد الزهر مجددًا، بعدما قرّرت الدولة تعيينه عاملاً على عمالة إنزكان آيت ملول، ليخلف العامل المُعفى السيد أبو الحقوق. خطوة تؤكد أن الدولة، في لحظات التحوّل والتوتر، لا تتردّد في العودة إلى “رجال الخبرة” الذين أثبتوا قدرتهم على تدبير الأزمات ومواكبة التغييرات الهيكلية الكبرى.
الزهر، الذي تجاوز 62 سنة من العمر، ليس وجهًا جديدًا في دوائر القرار الترابي؛ بل هو نموذج للمسؤول الذي خَبِر خريطة المغرب من الشرق إلى الشمال فالمركز، وعايش مراحل مفصلية في تاريخ الإدارة الترابية الحديثة.
من الرشيدية إلى درعة تافيلالت… زمن التقسيم الإداري الجديد
كانت سنة 2015 محطة أولى في مسار الرجل، حين تم تعيينه عاملًا على إقليم الرشيدية في ظرف استثنائي تزامن مع اعتماد التقسيم الجهوي الجديد. فبتاريخ فبراير من السنة نفسها، تم الإعلان عن إحداث جهة درعة تافيلالت، ليُصبح الزهر أول من يُشرف فعليًا على تنزيل هذا الورش في الميدان.
تميّزت تلك المرحلة بحساسية سياسية وجغرافية عالية، حيث كان على العامل الجديد التوفيق بين حاجيات التنمية في منطقة شاسعة، وبين بناء هيكل إداري جهوي جديد من الصفر. وقد أبان عن كفاءة في تنظيم المصالح الترابية، وضبط العلاقات بين الإقليم والجهة الناشئة، مما جعله يحظى بتقدير واسع داخل وزارة الداخلية.
الحسيمة… إدارة الغضب وذاكرة الحوار الصعب
المحطة الثانية في مسار الزهر كانت سنة 2016، حين تم تعيينه عاملًا على إقليم الحسيمة، مباشرة بعد زلزال بحر البوران وما تلاه من توترات اجتماعية.
كانت المنطقة تعيش على وقع حراك اجتماعي متصاعد، تطالب فئاته بإصلاحات ومشاريع تنموية مؤجلة. في تلك الأجواء، اختار الزهر لغة الحوار الميداني المباشر مع المحتجين، فوقف بنفسه أمامهم في ساحة الحراك، وخاطبهم بعبارات هادئة ومسؤولة: «أنا هنا لأسمعكم وأبلّغ رسالتكم».
كان ذلك الموقف لحظة فارقة في تاريخ العلاقة بين الإدارة والمواطنين، وأظهر قدرة الزهر على امتصاص التوتر وتدبير الغضب الاجتماعي دون مواجهة، وهو ما جنّب المنطقة آنذاك مزيدًا من التصعيد. واستمر في إدارة الإقليم إلى أن تم استدعاؤه لمهام أخرى بعد استقرار الأوضاع.
مطار محمد الخامس… تجربة التسيير في قلب الأزمة
في سنة 2019، وجد محمد الزهر نفسه في موقع جديد، لا يقل حساسية عن سابقيه: الإشراف على مطار محمد الخامس الدولي، أكبر بوابة جوية للمملكة.
جاء تعيينه عقب تزايد الانتقادات لخدمات المطار واحتجاجات المسافرين بسبب سوء التنظيم وطول الانتظار، لتراهن الدولة على رجل أزمات أثبت نجاعته. فباشر سلسلة من الإصلاحات التنظيمية والإدارية، استهدفت تحسين ظروف الاستقبال والانضباط المهني داخل المرفق الحيوي.
ثم جاءت جائحة كوفيد-19، ليواجه الزهر تحديًا غير مسبوق: إغلاق الأجواء، وإجلاء آلاف العالقين، وتنظيم رحلات استثنائية في ظل ضغط إنساني وأمني وصحي كبير. وأثبت مجددًا أنه إداري هادئ في العاصفة، قادر على اتخاذ القرار في اللحظة الصعبة دون ضجيج.
من المطار إلى إنزكان… عودة إلى الميدان الترابي
بعد مرور أكثر من عقدين من التجارب الميدانية، تعود الدولة لتستدعي محمد الزهر سنة 2025 لتدبير عمالة إنزكان آيت ملول، في مرحلة دقيقة تعرف إعفاء العامل السابق وتزايد الحاجة إلى كفاءة تنفيذية تجمع بين الانضباط والخبرة.
المنطقة، باعتبارها قطبًا حضريًا وصناعيًا حيويًا في جهة سوس ماسة، تواجه تحديات معقدة تتعلق بالبنية التحتية، والنمو الحضري، والاستعداد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة لسنتي 2026 و2027.
واختيار الدولة للزهر ليس اختيارًا اعتباطيًا، بل تأكيد على نهج الثقة في الكفاءات المجرّبة، حتى بعد بلوغها سنّ التقاعد الإداري، ما دام الأداء والقدرة على الإنجاز ما زالا قائمين.
رسالة الدولة… حين تراهن الخبرة على الاستقرار
تعيين محمد الزهر في هذا التوقيت، ومع هذه الخلفية المهنية، يحمل رسالة سياسية وإدارية مزدوجة:
أولاً، أن الدولة لا تتردّد في إعادة توظيف الأطر المجربة لتدبير مراحل حساسة، خصوصًا حين يتعلق الأمر بأقاليم معقّدة كإنزكان آيت ملول.
وثانيًا، أن مفهوم “الإعفاء” لا يعني فراغًا، بل انتقالًا محسوبًا نحو نموذج تدبيري جديد يقوم على الخبرة، والهدوء، والانضباط، والقدرة على امتصاص الأزمات دون إثارة.
بين الرشيدية التي شهدت ميلاد جهة جديدة، والحسيمة التي اختبرت الإدارة أمام الغضب الاجتماعي، ومطار محمد الخامس الذي مثّل عصب الحياة زمن الجائحة، صنع محمد الزهر لنفسه رصيد ثقة خاصًا لدى الدولة.
واليوم، وهو على عتبة الثالثة والستين، يعود ليقود واحدة من أكثر العمالات دينامية وحساسية في المغرب، مجسدًا بذلك فكرة أن الخبرة لا تُحال على التقاعد، بل تُستدعى عندما تشتد الحاجة إليها.

