كلمة الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ، رئيس النيابة العامة في الندوة المنظمة من طرف الاتحاد الدولي للمحامين وهيئة المحامين بالدار البيضاء وجمعية المحامين بالمغرب حول استقلال القضاء والمحاماة بالدار البيضاء يومي 5 و6 يوليوز 2019
حضرات السيدات والسادة؛
منذ سنتين ونيف شهدت هذه المدينة، مدينة الدار البيضاء، ميلاد سلطة ثالثة في الدولة، حين نصب جلالة الملك محمد السادس نصره الله يوم سادس أبريل 2017 أعضاء المجلس الأعلى للسلطة القضائية. هذه السلطة التي استقلت عن السلطتين التنفيذية والتشريعية ابتداء من ذلك التاريخ.
ولذلك فإننا – في هذه المرحلة، نعيش تحولا تاريخياً في بناء علاقات جديدة بين سلطات الدولة الثلاث أملته مقتضيات الباب السابع من دستور 2011، المتعلقة باستقلال السلطة القضائية. وهي مرحلة تتميز على الخصوص بتأسيس مؤسسات السلطة القضائية، وتستدعي بالضرورة رسم حدود استقلالها الدستوري. لأن هذا الاستقلال يجسد صرح العدالة القوية القادرة على حماية الحقوق والحريات والتصدي للانتهاكات، ومدخلاً أساسياً من مداخل استقرار بنيان دولة الحق والقانون والمؤسسات، القادرة على تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز فرص النزاهة والشفافية.
من أجل هذا، لا يسعني سوى أن أشد بحرارة على أيدي المنظمين، وأهنئهم على اختيار موضوع الندوة الحالية التي تتناول استقلال مهنة المحاماة على ضوء استقلال السلطة القضائية. وأشكر على الخصوص، هيئة المحامين بالدار البيضاء نقيباً وأعضاءً، وجمعية هيئات المحامين بالمغرب والاتحاد الدولي للمحامين، الذين يرجع لهم الفضل في عقد هذا اللقاء العلمي الجاد والمسؤول، ودقة اختيار موضوعه في هذه الفترة الفاصلة في تاريخنا القضائي.
حضرات السيدات والسادة؛
إذا كان استقلال السلطة القضائية قد أصبح شأناً دستورياً ببلادنا حيث ينص القانون الأساسي للدولة على استقلال المؤسسات القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويجعل جلالة الملك ضامن هذا الاستقلال. وهو ما يوفر للنظام القضائي استقلاله المؤسساتي عن باقي سلطات الدولة من جهة، ويضمن للقضاة استقلالهم الذاتي داخل مؤسستهم القضائية من جهة أخرى، مما يمكنهم من التطبيق العادل والمنصف للقانون، بعيداً عن كل المؤثرات التي يمكن أن يكون مصدرها السلطات الأخرى، ويحول دون التأثير على مؤسسات السلطة القضائية، إلاَّ في حدود الصلاحيات الدستورية التي تمارسها المؤسسات القضائية نفسها وفقاً للقانون، وتخضع لرقابة المجلس الأعلى للسلطة القضائية. ولاسيما التعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطات الرئاسية التسلسلية للنيابة العامة، وفقا للفقرة الأخيرة من الفصل 110 من الدستور.
فإن استقلال المحاماة يعد جزءً لا يتجزأ من استقلال القضاء، لأن القانون اعتبر المحاماة جزءً من أسرة القضاء، وقرر استقلالها كمهنة، تساعد القضاء وتسهم في تحقيق العدالة. )المادة الأولى من القانون رقم 28.08 المنظم لمهنة المحاماة(. فالمحامي جزء من الهيأة القضائية، وفاعل أساسي في مشهد العدالة، لا تستقيم موازينها دون انخراطه الأكيد في برامج الإصلاح والتطوير التي تشهدها بلادنا.
غير أن استقلال القضاة واستقلال المحامين، وإن كان يصدران من نفس المنبع، ويمضيان نحو نفس الهدف، المتمثل في التطبيق العادل للقانون، فإن طريقهما مختلف.
فاستقلال القضاة يتحقق بتحقق استقلال مؤسستهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وخضوع تسييرهم لمؤسسات السلطة القضائية وحدها، من جهة. واستقلالهم في إصدار أحكامهم عن كل المؤثرات والأوامر والتعليمات، وعن نوازع الانحياز والمحاباة والمجاملة، بمن فيهم قضاة النيابة العامة الذين وإن كان الدستور يضعهم داخل تسلسل رئاسي، فإن تعليمات رئيس النيابة العامة يجب أن تكون كتابية وقانونية، مما يبعدها عن الأهواء والرغبات الشخصية، باعتبارها مجرد أوامر تسعى لفرض تطبيق القانون نفسه، ويحرص المجلس الأعلى للسلطة القضائية على شفافية هذا التطبيق وفقاً للفقرة الثانية من الفصل 109 من الدستور والمادة 104 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.
كما أن القضاة ملزمون باستعمال استقلالهم لإقامة موازين العدالة وإصدار أحكام منصفة مؤطرة بالقانون، وذلك لتحقيق الأمن القضائي، وحماية مصالح الأطراف التي تميل كفة القانون إلى جانبها، بما تقتضيه مبادئ العدل والإنصاف، وليس بما يوافق مزاج القاضي ورغباته. فالاستقلال كما عرفه جلالة الملك “لم يشرع لفائدة القضاة، وإنما لصالح المتقاضي. وأنه إذ يرتب حقاً للمتقاضين في أن يحكم القاضي بكل استقلال وتجرد وحياد. وأن يجعل من القانون وحده مرجعاً لقراراته، وما يمليه عليه ضميره سنداً لاقتناعه. وهو واجب على القاضي، الذي عليه أن يتقيد بالاستقلال والنزاهة، والبعد عن أي تأثير أو إغواء يعرضه للمساءلة التأديبية أو الجنائية” .
ولذلك فإن استقلال القاضي يكتمل بتوفره على حماية تَقِيهِ من تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتحصنه من نفوذ رؤسائه القضائيين والإداريين، ومن ضغط الجاه وإغواء المال. فهذا يسمح له بإصدار أحكامه وفقاً للقانون دون خشية أو خوف.
وأما استقلال المحامي فإنه أمر في غاية التعقيد. ومرد هذا التعقيد لا يرجع لكون المحاماة مجرد مهنة ذات رسالة نبيلة، وليست سلطة من سلطات الدولة تفرض نظام العدل. كما أن صعوبة تجسيد استقلال المحامي في الوقت الراهن، لا تكمن في محافظته على استقلاله إزاء المحكمة وقدرته على الدفاع عن موكليه بحرية واختيار أسلوب الدفاع الملائم .. فَهذه أمور يضمنها القانون، وباتت من المسلمات التي لا جدال حولها، يمارسها المحامون وتحرص على تطبيقها المحاكم والسلطات المختلفة، وهيئات الدفاع.
كما أن الصعوبة لا تتجلى في استقلال المهنة بتسيير شؤونها وتدبير وضعيات المنتمين إليها .. التي تنفرد بها هيئات المحامين المنتخبة من طرف أعضاء هيئات الدفاع أنفسهم، في إطار الضمانات المكفولة لأعضائها، التي تسهر الهيئات القضائية على مراقبة شرعيتها وفقاً للإجراءات والمساطر المحددة في القانون … رغم أن هذه كلها مقومات أساسية للحفاظ على نبل المحاماة وضمان ممارستها لمهامها في مساعدة القضاء.
ولكن الصعوبة تكمن في كيفية تحقيق المحامي استقلاله عن موكله، وعدم تنفيذ مطالبه ورغباته التي تتنافى مع مبادئ العدالة.
فالمحامي يتقاضى أتعابه من موكله، دون أن يكون أجيراً عنده، ويعيش مما يوفره له قيامه بمهامه المختلفة ولاسيما مؤازرة الأطراف والدفاع عنهم، ولكنه رغم ذلك مطالب بأخذ مسافة معينة من هؤلاء الأطراف، فمطاوعتهم في بعض رغباتهم قد تعتبر خيانة لرسالة الدفاع وإخلالاً بأمانة المهنة ونكثا لقسم الحفاظ على شرفها.
استقلال المحامي في مهمته يجعله لا يخضع سوى لضميره المستقل .. ولكن الرهان يكمن في كيفية محافظة المحامي على صفاء الضمير، والاستماتة في الإخلاص لمبادئ العدالة، والدفاع عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، حينما ينوب عن موكل سخي، يسعى للحصول على ما ليس له، أو يؤازر صديقاً أو قريباً يهدف إلى طمس الحقيقة عن القضاء ؟
ليس المحامي سوى إنسان .. يتفاعل مع المواقف والأحداث ويتأثر وينحاز ويتعاطف ويتضامن .. ولذلك يمكن أن يميل لموقف صديقه أو قريبه، أو يساند موكله في الدفاع على ما ليس حقاً له .. ولا يتيح القانون إمكانية تجريحه أو إبعاده عن القضية .. ولا تعتبر الأتعاب المالية من مظاهر الإرشاء أو استغلال النفوذ … فإذا كان القانون يحظر هذه السلوكات على القاضي، فإنه بالنسبة للمحامي عاجز عن إيقاف تأثيرها .. ضمير المحامي وحده قادر على ذلك. فالمحاماة كما قال عنها دوجيسوه )رئيس مجلس القضاء في فرنسا(، “هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب .. حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان .. المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبداً له”. إذا استطاعت المحاماة الحفاظ على سلامة ضمائر أعضائها .. استطاعت ضمانة استقلالهم، ووفرت لنظام العدالة لساناً للحق، ومكيالاً للإنصاف. ولذلك فإن تحقيق استقلال مهنة المحاماة يتطلب دعم القدرات الفكرية للمحامين الشباب وتقوية مناعتهم المهنية للإيمان بقدسية استقلالهم عن الموكلين فيما يمس بقيم العدالة، والدفاع عن هذا الاستقلال.
ويتطلب من جهة أخرى بناء نظام اجتماعي يحمي المحامين ويضمن لهم فرص العيش الشريف .. حتى لا يكونوا لقمة سائغة لأصحاب المصالح، وحتى يتمكنوا من استعمال استقلالهم في تمثيل موكليهم وعملائهم، والدفاع عنهم دون تغيير الحقيقة التي تبحث عنها العدالة، والتي يعتبر المحامي لسانها والمدافع عليها.
أيتها السيدات والسادة؛
إن استقلال القضاء والمحاماة، وإن كان مطلباً لا يُختلف عليه في الدول الديمقراطية، فإن غايته هي تحصين القضاة والمحامين وحمايتهم من التأثيرات التي قد تبعدهم عن روح العدل والإنصاف، التي يسعى إليها كل منهما بطريقته، ويجتهد لبلورتها طبقاً للقانون ووفقا للإجراءات والمساطر المقررة. وهو ما يجعل الاستقلال مسؤولية تقتضي من القضاة والمحامين محاسبة أنفسهم عليها، قبل أن يخضعوا للمحاسبة القانونية.
فيا معاشر القضاة والمحامين، العدالة أمانة بين يدينا فلنحافظ على الأمانة، وفقكم الله. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
مَحمد عبد النباوي
الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة