الرئيسية غير مصنف قُبْلَة على الجبين

قُبْلَة على الجبين

a44f9785 f1ab 4421 ba00 23524e8c67c5
كتبه كتب في 21 مارس، 2025 - 9:18 مساءً

في سياق دراسة وتحليل أشكال التعبير الجماعية التي تشير إلى الطرق التي يعبر بها الأفراد أو الجماعات عن آرائهمومواقفهم بشكل جماعي او منظم، والتي من الممكن أن تتنوع وتختلف حسب السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي والتيتشمل الاحتجاجات والمظاهرات والاضرابات والتجمعاتواللقاءات السياسية وغيرها.

 تظهر لنا العلاقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية على أنها علاقة تنتج لنا محورا أساسيا وتبلور لنا مساحة إضافية من أجل تفصيل وتفسير ديناميات الاحتجاج وأشكال التفاعل بين السلطة والمجتمع. وفي ظل التحولات الرقمية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، باتت بعض اللحظات الإنسانية التي تجمع بين الطرفين محط اهتمام واسع، اعتبارا لما تعكسه من أبعاد معقدة للسلطة والشرعية والتواصل السياسي.

وفي هذا الإطار سنقف من خلال هذه الأسطر، امام رمزية احدى الصور المتداولة على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، التي يظهر من خلالها رجل أمن بالزي النظامي وهو يقبل جبين سيدة في الشارع العام كانت من بين المشاركين في وقفة احتجاجية نظمها أطر جمعية أباء وأصدقاء الاطفال المعاقين ذهنيا بتاريخ 20/03/2025 بمدينة الدار البيضاء. هذه الصورة التي عرفت انتشارا واسعا بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي، نقلت مشهدا غير مألوف لدى الكثير من الناس في سياقات الاحتجاج، في تفصيل مرئي يجمع بين الرمزية والعاطفة والتفاعل الميداني المباشر.

  الموقف اثار تساؤلات متعددة حول طبيعة العلاقة بين الدولة والمواطن، وحدود السلطة في تعاطيها مع مثل هذه الانعطافات.

فالبعد الرمزي والتفاعلي للعاطفة في الفضاء العام ينظر اليه كأداة ذات تأثير مزدوج؛ فمن جهة، يعكس هذا النوع من التفاعل بعدا إنسانيا يمكن أن يسهم في تعزيز الثقة بين المواطنين وأجهزة الدولة، ومن جهة أخرى، قد يستخدم كآلية لاحتواء الغضب الشعبي وإعادة تشكيل صورة المؤسسة الأمنية في الوعي الجماعي.

إذ أنه في الغالب الشائع يتم تصوير المؤسسة الامنية داخل البيئة الاحتجاجية، على انها جهة صلبة لإنفاذ وتفعيل القانون. إلا أن مثل هذه المشاهد التي تجمع بين التعاطف والاحتجاج تكشف عن أنماط أخرى من التواصل، حيث يصبح للعواطف والبعد الانساني جزء كبير في الممارسة الأمنية.

تاريخيا، حاكت الاحتجاجات فضاءا للمواجهة والمجابهة بين الفاعلين الاجتماعيين وأجهزة الدولة، حيث تتحدد العلاقة وفقا لمعادلة التفاوض أو القمع أو الاحتواء. إلا أن بعض اللقطات كما هوا الحال في هذه الصورة، تعيد تعريف هذه العلاقة عبر تصدير خطاب أكثر مرونة يقوم على إشارات رمزية تعكس تحولا في أسلوب التعامل مع الاحتجاجات.

إن فعل تقبيل رأس مواطنة في سياق احتجاجي قد يفسر بوصفه محاولة لإظهار المؤسسة الأمنية في صورة “الأب المؤازر” أو”الشريك المجتمعي”، وهي صورة تختلف عن النموذج القمعي الذي يرتبط سلفا ببعض التجارب الاحتجاجية. ورغم أن مثل هذه المواقف قد تعكس ممارسات فردية، إلا أنها تحمل دلالات سياسية حول كيفية إعادة إنتاج السلطة لصورتها في المجال العام.

لكن على الارجح تظل مجموعة من التساؤلات قائمة ومطروحة في ذهن المواطن تتباين بين التلقائية والاستراتيجية وتغير طبيعة السلطة؛ وأن مثل هذا السلوك يعكس تحولا حقيقيا في سياسات التعامل مع مثل هذه الأحداث؟ أم أنه مجرد سلوك فردي يعكس استجابة شخصية غير مؤطرة ضمن توجه سياسي واضح؟ هي اسئلة مفتوحة على عدة احتمالات، تأخذنا للنبش في جدلية القوة والرفق التي تمثل قضية فلسفية وأخلاقية تثير العديد من التساؤلات حول الصلة بين مفهومي القوة والرفق ومدى التناقض أو التداخل بينهما. فالقوة هي قدرة الفرد أو الجماعة على التأثير والسيطرة على الآخرين أو على احداث معينة، وتتجسد في السلطة والقدرة على اتخاذ قرارات حاسمة قد تكون قاسية أو حازمة. أما الرفق فيشير إلى تعاطف الفرد مع معاناة الآخرين والقدرة على العفو والتسامح. على الرغم من أن القوة والرفق قد يظهران كعنصرين متناقضين إلا أن العلاقة بينهما يمكن أن تكون معقدة وتستدعي التفكر العميق.

في العديد من الاوضاع، ينظر إلى القوة باعتبارها أداة للسيطرة والهيمنة، بينما يشار إلى الرفق كعاطفة تضعف القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة. لكن إذا تأملنا في العديد من النماذج الإنسانية، نرى أن القوة لا تعني بالضرورة القسوة أو الظلم. يمكن أن تكون القوة أداة لتحقيق العدالة إذا تم استخدامها بحكمة وحذر، بحيث تعزز الرحمة والرفق من خلالها ولا تبطلها. هذا التوازن بين القوة والرفق قد يظهر بشكل جلي في نظرية القيادة، حيث يستطيع القائد الناجح أن يتخذ قرارات صعبة تنفذ بالقوة ولكن مع مراعاة مصلحة الناس وحقوقهم.

من جهة أخرى، ينظر الى ان الرفق والتعامل بعطف مسألة ضرورية لتخفيف آثار القوة، خاصة إذا كانت هذه القوة قد تكون مفرطة أو مجحفة. فالرفق والرأفة في هذا السياق لا تعني الضعف أو الاستسلام، بل هي نوع من الحكمة التي تساعد على إدارة القوة بشكل يراعي الكرامة الإنسانية. في بعض الأحيان، قد تكون الرحمة هي القوة الحقيقية، حيث أن القدرة على التسامح والفهم يمكن أن يحدث تأثيرا أعمق وأكثر ديمومة من استخدام القوة والقهر.

إن جدلية القوة الرفق تبرز في العديد من السياقات الثقافية والدينية، حيث تتباين التصورات حول كيفية استخدام القوة بشكل يتماشى مع القيم الأخلاقية والإنسانية. في الفكر السياسي، يعتبر استخدام القوة مشروطا بتحقيق مصلحة العامة وصون حقوق الأفراد، بينما يعتبر الرفق عنصراً أساسيا في بناء علاقات قائمة على العدالة والمساواة. من هنا يظهر التحدي الكبير في إيجاد توازن بين هذين العنصرين بحيث لا تؤدي القوة إلى القسوة أو الظلم، ولا يتخذ الرفق على التهاون مع الحقوق أو الواجبات.

بالتالي، نجد أن القوة والرفق ليستا متناقضتين بالضرورة، بل يمكن أن تكونا متكاملتين إذا ما تم استخدامهما بحذر وحكمة. القوة قد تكون أداة فعالة لتحقيق العدالة، ولكنها تحتاج إلى الرفق لتخفيف آثارها السلبية ولضمان ألا تُستخدم بشكل غير مقبول.

في الاخير، يظهر لنا من كل هذا ومن خلال مجموعة من التدخلات الإنسانية في السياق المغربي أن العلاقة بين السلطة والمجتمع ليست جامدة، بل تتشكل وفقا لظروف سياسية واجتماعية متغيرة. وبينما قد ينظر إلى هذا التفاعل العاطفي بوصفه استثناءا لدى البعض، فإن تكراره في أوضاع ومواقفمختلفة قد يشير إلى إعادة تشكيل استراتيجيات السلطة تجاه الاحتجاجات، عبر إدماج أبعاد عاطفية وإنسانية في التعامل مع مثل هذه الوقائع، التي تعكس بمختلف تفاصيلها ديناميات معقدة تتجاوز الثنائية التقليدية بين القمع والمقاومة، لتشمل أبعادا رمزية وعاطفية تعيد رسم العلاقة بين الدولة والمواطن. كما أنه وفي ظل تنامي دور الإعلام الرقمي في تشكيل الرأي العام، يصبح توثيق مثل هذه اللحظات جزءا من صناعة الصورة السياسية للمؤسسة الأمنية ولباقي المؤسسات الموازية لها، وهو ما يستدعي تحليلا دقيقا لمضامينها وتأثيراتها على المجال السياسي والاجتماعي.

عماد الدين/ب : باحث في العلوم السياسية.

مشاركة