الرئيسية تعليم قراءة في كتاب اللغة العربية كائن حي للمؤلف جورجي زيدان ،بقلم حبيل رشيد.

قراءة في كتاب اللغة العربية كائن حي للمؤلف جورجي زيدان ،بقلم حبيل رشيد.

IMG 20251218 WA0034
كتبه كتب في 18 ديسمبر، 2025 - 2:42 مساءً

يقول مصطفى صادق الرافعي:
«إن اللغة ليست ألفاظًا تُحفظ، ولا قواعد تُلقّن، بل هي روح الأمة، وذاكرتها الحيّة، وصورتها في مرآة الوجود؛ فإذا ضعفت اللغة، ضعف الإحساس بالذات، وإذا استُبدلت بغيرها، ضاع الطريق بين الماضي والحاضر، ولم يبقَ من الأمة سوى أسماء بلا معنى، وأصوات بلا أثر».

حين نقرأ كتاب «اللغة العربية كائن حي» لجورجي زيدان، نشعر أننا لا نقرأ عن اللغة، بل نقرأ عن أنفسنا من زاوية مختلفة. الكتاب لا يخاطب المختصين فقط، ولا يكتب بلغة معقّدة، بل يتوجّه إلى القارئ العادي ليقول له ببساطة: اللغة التي تتكلم بها كل يوم ليست شيئًا ثابتًا أو جامدًا، بل كائن حي يعيش معك، يتأثر بك، ويضعف أو يقوى بحسب علاقتك به.

زيدان لا يبدأ كتابه بالدفاع عن العربية، ولا بالتحسر على حالها، بل ينطلق من فكرة هادئة وعميقة في آن واحد: كل لغة في العالم تمر بمراحل نمو، والعربية واحدة منها. هي لم تُخلق كاملة منذ البداية، ولم تُحفظ لأنها مقدسة فقط، بل لأنها كانت لغة حياة، تستجيب لحاجات الناس، وتتطور مع الزمن.

يرى زيدان أن العربية نشأت ضمن عائلة اللغات السامية، وكانت في بداياتها قريبة من لغات أخرى مثل السريانية والآرامية. هذا الطرح لا ينتقص من قيمتها، بل يضعها في سياقها الطبيعي. فاللغة، مثل الإنسان، تولد في بيئة، وتتأثر بما حولها، ثم تشق طريقها الخاص. العربية، قبل الإسلام، كانت قد نضجت في بنيتها، وتكوّنت فيها الأسماء والأفعال والاشتقاقات، وجاء الإسلام ليمنحها مجالًا أوسع للانتشار والتدوين، لا ليصنعها من العدم.

أكثر ما يلفت في قراءة زيدان هو حديثه عن الاشتقاق. يقدّم الاشتقاق على أنه قلب اللغة العربية النابض، وسر مرونتها. فالعربية قادرة على توليد كلمات كثيرة من أصل واحد، دون أن تفقد المعنى أو تتشوه. وهذا ما يجعلها لغة قادرة على استيعاب المفاهيم الجديدة، سواء كانت علمية أو فكرية أو اجتماعية. المشكلة، كما يفهم من الكتاب، ليست في اللغة، بل في طريقة تعاملنا معها.

زيدان يلفت الانتباه إلى فكرة مهمة جدًا: كثيرًا ما نعتقد أننا نفهم الكلمة العربية، بينما نحن في الحقيقة لا نعرف منها إلا ظاهرها. فالمفردة الواحدة تحمل تحتها تاريخًا طويلًا من التحولات والمعاني، وقد تكون الكلمة البسيطة التي نستعملها اليوم قد مرت عبر قرون من الاستعمال والتغيير. هذا العمق هو ما يجعل العربية لغة ثرية، لا فقيرة كما يُشاع.

في حديثه عن دخول ألفاظ غير عربية إلى اللغة، يتعامل زيدان مع الموضوع بهدوء وعقلانية. لا يراها خيانة للغة، ولا خطرًا عليها، بل يعتبرها نتيجة طبيعية للاحتكاك بين الشعوب. فاللغة التي لا تأخذ ولا تعطي، لغة مهددة بالجمود. غير أن الفارق الكبير، في نظره، هو بين الاقتباس الواعي الذي يضيف إلى اللغة، وبين الاستعمال العشوائي الذي يُفقدها شخصيتها.

وحين يصل زيدان إلى العصر الإسلامي، يوضح أن هذا العصر كان مرحلة تحول كبرى في تاريخ العربية. ظهرت مصطلحات جديدة للتعبير عن معانٍ دينية وفقهية وإدارية لم تكن موجودة من قبل. وأصبح للكلمة الواحدة أكثر من معنى بحسب السياق: معنى لغوي، وآخر ديني، وثالث فقهي، ورابع علمي. وهذا التعدد لا يدل على فوضى، بل على حياة داخل اللغة.

العربية، في هذا الكتاب، ليست لغة الماضي فقط، بل لغة قادرة على الاستمرار. زيدان يؤكد أن اللغة تنمو مع العلوم، والسياسة، والتجارة، والإدارة، وكلما تطورت حياة الناس، تطورت اللغة معهم. لذلك، فإن ضعف العربية في بعض الفترات لا يعني أنها عاجزة، بل يعني أن أهلها قصّروا في استعمالها وتطويرها.

ومن الأفكار الجميلة في الكتاب أن زيدان لا يدعو إلى رفض الألفاظ الجديدة، ولا إلى الانغلاق اللغوي. هو يدعو فقط إلى التوازن. أن نأخذ من اللغات الأخرى بقدر الحاجة، دون أن نفقد ملامح لغتنا. فالعربية، في نظره، لغة قادرة على الأخذ والعطاء، لكنها تفقد قيمتها حين تُستعمل بلا وعي.

الرسالة التي يخرج بها القارئ من هذا الكتاب بسيطة وواضحة: اللغة العربية ليست في خطر لأنها ضعيفة، بل لأنها أُسيء فهمها. هي كائن حي، وإذا عاملناه كشيء حي، منحناه عناية واهتمامًا، استعاد عافيته. أما إذا تعاملنا معه كعبء ثقيل أو مادة دراسية مملة، فلا غرابة أن يذبل.

في النهاية، لا يطلب جورجي زيدان من القارئ أن يكون عالم لغة، ولا شاعرًا، ولا نحويًا. يطلب فقط أن يكون منصفًا. أن يرى في العربية لغة حياة، لا لغة متحف. لغة قادرة على التعبير عن الحاضر، مثلما عبّرت عن الماضي. وأن يدرك أن الحفاظ على اللغة لا يكون بالبكاء عليها، بل باستعمالها بثقة، وبساطة، ووعي.

هذا الكتاب، في جوهره، دعوة هادئة لإعادة النظر في علاقتنا بلغتنا. ليس بوصفها واجبًا ثقافيًا فقط، بل بوصفها جزءًا من كينونتنا اليومية. فاللغة التي نهملها اليوم، قد نستيقظ غدًا لنبحث عنها فلا نجدها، لا لأنها ماتت، بل لأننا تركناها تمشي وحدها، دون أن نرافقها.

———- Forwarded message ———
De : habil rachid habilrachid843@gmail.com
Date: jeu. 18 déc. 2025, 13:56
Subject: قراءة في كتاب اللغة العربية كائن حي للمؤلف جورجي زيدان ،بقلم حبيل رشيد.
To: mahtat rakas mahtat5@gmail.com
Masquer les messages précédents

يقول مصطفى صادق الرافعي:
«إن اللغة ليست ألفاظًا تُحفظ، ولا قواعد تُلقّن، بل هي روح الأمة، وذاكرتها الحيّة، وصورتها في مرآة الوجود؛ فإذا ضعفت اللغة، ضعف الإحساس بالذات، وإذا استُبدلت بغيرها، ضاع الطريق بين الماضي والحاضر، ولم يبقَ من الأمة سوى أسماء بلا معنى، وأصوات بلا أثر».

حين نقرأ كتاب «اللغة العربية كائن حي» لجورجي زيدان، نشعر أننا لا نقرأ عن اللغة، بل نقرأ عن أنفسنا من زاوية مختلفة. الكتاب لا يخاطب المختصين فقط، ولا يكتب بلغة معقّدة، بل يتوجّه إلى القارئ العادي ليقول له ببساطة: اللغة التي تتكلم بها كل يوم ليست شيئًا ثابتًا أو جامدًا، بل كائن حي يعيش معك، يتأثر بك، ويضعف أو يقوى بحسب علاقتك به.

زيدان لا يبدأ كتابه بالدفاع عن العربية، ولا بالتحسر على حالها، بل ينطلق من فكرة هادئة وعميقة في آن واحد: كل لغة في العالم تمر بمراحل نمو، والعربية واحدة منها. هي لم تُخلق كاملة منذ البداية، ولم تُحفظ لأنها مقدسة فقط، بل لأنها كانت لغة حياة، تستجيب لحاجات الناس، وتتطور مع الزمن.

يرى زيدان أن العربية نشأت ضمن عائلة اللغات السامية، وكانت في بداياتها قريبة من لغات أخرى مثل السريانية والآرامية. هذا الطرح لا ينتقص من قيمتها، بل يضعها في سياقها الطبيعي. فاللغة، مثل الإنسان، تولد في بيئة، وتتأثر بما حولها، ثم تشق طريقها الخاص. العربية، قبل الإسلام، كانت قد نضجت في بنيتها، وتكوّنت فيها الأسماء والأفعال والاشتقاقات، وجاء الإسلام ليمنحها مجالًا أوسع للانتشار والتدوين، لا ليصنعها من العدم.

أكثر ما يلفت في قراءة زيدان هو حديثه عن الاشتقاق. يقدّم الاشتقاق على أنه قلب اللغة العربية النابض، وسر مرونتها. فالعربية قادرة على توليد كلمات كثيرة من أصل واحد، دون أن تفقد المعنى أو تتشوه. وهذا ما يجعلها لغة قادرة على استيعاب المفاهيم الجديدة، سواء كانت علمية أو فكرية أو اجتماعية. المشكلة، كما يفهم من الكتاب، ليست في اللغة، بل في طريقة تعاملنا معها.

زيدان يلفت الانتباه إلى فكرة مهمة جدًا: كثيرًا ما نعتقد أننا نفهم الكلمة العربية، بينما نحن في الحقيقة لا نعرف منها إلا ظاهرها. فالمفردة الواحدة تحمل تحتها تاريخًا طويلًا من التحولات والمعاني، وقد تكون الكلمة البسيطة التي نستعملها اليوم قد مرت عبر قرون من الاستعمال والتغيير. هذا العمق هو ما يجعل العربية لغة ثرية، لا فقيرة كما يُشاع.

في حديثه عن دخول ألفاظ غير عربية إلى اللغة، يتعامل زيدان مع الموضوع بهدوء وعقلانية. لا يراها خيانة للغة، ولا خطرًا عليها، بل يعتبرها نتيجة طبيعية للاحتكاك بين الشعوب. فاللغة التي لا تأخذ ولا تعطي، لغة مهددة بالجمود. غير أن الفارق الكبير، في نظره، هو بين الاقتباس الواعي الذي يضيف إلى اللغة، وبين الاستعمال العشوائي الذي يُفقدها شخصيتها.

وحين يصل زيدان إلى العصر الإسلامي، يوضح أن هذا العصر كان مرحلة تحول كبرى في تاريخ العربية. ظهرت مصطلحات جديدة للتعبير عن معانٍ دينية وفقهية وإدارية لم تكن موجودة من قبل. وأصبح للكلمة الواحدة أكثر من معنى بحسب السياق: معنى لغوي، وآخر ديني، وثالث فقهي، ورابع علمي. وهذا التعدد لا يدل على فوضى، بل على حياة داخل اللغة.

العربية، في هذا الكتاب، ليست لغة الماضي فقط، بل لغة قادرة على الاستمرار. زيدان يؤكد أن اللغة تنمو مع العلوم، والسياسة، والتجارة، والإدارة، وكلما تطورت حياة الناس، تطورت اللغة معهم. لذلك، فإن ضعف العربية في بعض الفترات لا يعني أنها عاجزة، بل يعني أن أهلها قصّروا في استعمالها وتطويرها.

ومن الأفكار الجميلة في الكتاب أن زيدان لا يدعو إلى رفض الألفاظ الجديدة، ولا إلى الانغلاق اللغوي. هو يدعو فقط إلى التوازن. أن نأخذ من اللغات الأخرى بقدر الحاجة، دون أن نفقد ملامح لغتنا. فالعربية، في نظره، لغة قادرة على الأخذ والعطاء، لكنها تفقد قيمتها حين تُستعمل بلا وعي.

الرسالة التي يخرج بها القارئ من هذا الكتاب بسيطة وواضحة: اللغة العربية ليست في خطر لأنها ضعيفة، بل لأنها أُسيء فهمها. هي كائن حي، وإذا عاملناه كشيء حي، منحناه عناية واهتمامًا، استعاد عافيته. أما إذا تعاملنا معه كعبء ثقيل أو مادة دراسية مملة، فلا غرابة أن يذبل.

في النهاية، لا يطلب جورجي زيدان من القارئ أن يكون عالم لغة، ولا شاعرًا، ولا نحويًا. يطلب فقط أن يكون منصفًا. أن يرى في العربية لغة حياة، لا لغة متحف. لغة قادرة على التعبير عن الحاضر، مثلما عبّرت عن الماضي. وأن يدرك أن الحفاظ على اللغة لا يكون بالبكاء عليها، بل باستعمالها بثقة، وبساطة، ووعي.

هذا الكتاب، في جوهره، دعوة هادئة لإعادة النظر في علاقتنا بلغتنا. ليس بوصفها واجبًا ثقافيًا فقط، بل بوصفها جزءًا من كينونتنا اليومية. فاللغة التي نهملها اليوم، قد نستيقظ غدًا لنبحث عنها فلا نجدها، لا لأنها ماتت، بل لأننا تركناها تمشي وحدها، دون أن نرافقها.

———- Forwarded message ———
De : habil rachid habilrachid843@gmail.com
Date: jeu. 18 déc. 2025, 13:56
Subject: Fwd: قراءة في كتاب اللغة العربية كائن حي للمؤلف جورجي زيدان ،بقلم حبيل رشيد.
To: hamidjmahri@yahoo.fr
Masquer les messages précédents

———- Forwarded message ———
De : habil rachid habilrachid843@gmail.com
Date: jeu. 18 déc. 2025, 13:56
Subject: قراءة في كتاب اللغة العربية كائن حي للمؤلف جورجي زيدان ،بقلم حبيل رشيد.
To: mahtat rakas mahtat5@gmail.com

يقول مصطفى صادق الرافعي:
«إن اللغة ليست ألفاظًا تُحفظ، ولا قواعد تُلقّن، بل هي روح الأمة، وذاكرتها الحيّة، وصورتها في مرآة الوجود؛ فإذا ضعفت اللغة، ضعف الإحساس بالذات، وإذا استُبدلت بغيرها، ضاع الطريق بين الماضي والحاضر، ولم يبقَ من الأمة سوى أسماء بلا معنى، وأصوات بلا أثر».

حين نقرأ كتاب «اللغة العربية كائن حي» لجورجي زيدان، نشعر أننا لا نقرأ عن اللغة، بل نقرأ عن أنفسنا من زاوية مختلفة. الكتاب لا يخاطب المختصين فقط، ولا يكتب بلغة معقّدة، بل يتوجّه إلى القارئ العادي ليقول له ببساطة: اللغة التي تتكلم بها كل يوم ليست شيئًا ثابتًا أو جامدًا، بل كائن حي يعيش معك، يتأثر بك، ويضعف أو يقوى بحسب علاقتك به.

زيدان لا يبدأ كتابه بالدفاع عن العربية، ولا بالتحسر على حالها، بل ينطلق من فكرة هادئة وعميقة في آن واحد: كل لغة في العالم تمر بمراحل نمو، والعربية واحدة منها. هي لم تُخلق كاملة منذ البداية، ولم تُحفظ لأنها مقدسة فقط، بل لأنها كانت لغة حياة، تستجيب لحاجات الناس، وتتطور مع الزمن.

يرى زيدان أن العربية نشأت ضمن عائلة اللغات السامية، وكانت في بداياتها قريبة من لغات أخرى مثل السريانية والآرامية. هذا الطرح لا ينتقص من قيمتها، بل يضعها في سياقها الطبيعي. فاللغة، مثل الإنسان، تولد في بيئة، وتتأثر بما حولها، ثم تشق طريقها الخاص. العربية، قبل الإسلام، كانت قد نضجت في بنيتها، وتكوّنت فيها الأسماء والأفعال والاشتقاقات، وجاء الإسلام ليمنحها مجالًا أوسع للانتشار والتدوين، لا ليصنعها من العدم.

أكثر ما يلفت في قراءة زيدان هو حديثه عن الاشتقاق. يقدّم الاشتقاق على أنه قلب اللغة العربية النابض، وسر مرونتها. فالعربية قادرة على توليد كلمات كثيرة من أصل واحد، دون أن تفقد المعنى أو تتشوه. وهذا ما يجعلها لغة قادرة على استيعاب المفاهيم الجديدة، سواء كانت علمية أو فكرية أو اجتماعية. المشكلة، كما يفهم من الكتاب، ليست في اللغة، بل في طريقة تعاملنا معها.

زيدان يلفت الانتباه إلى فكرة مهمة جدًا: كثيرًا ما نعتقد أننا نفهم الكلمة العربية، بينما نحن في الحقيقة لا نعرف منها إلا ظاهرها. فالمفردة الواحدة تحمل تحتها تاريخًا طويلًا من التحولات والمعاني، وقد تكون الكلمة البسيطة التي نستعملها اليوم قد مرت عبر قرون من الاستعمال والتغيير. هذا العمق هو ما يجعل العربية لغة ثرية، لا فقيرة كما يُشاع.

في حديثه عن دخول ألفاظ غير عربية إلى اللغة، يتعامل زيدان مع الموضوع بهدوء وعقلانية. لا يراها خيانة للغة، ولا خطرًا عليها، بل يعتبرها نتيجة طبيعية للاحتكاك بين الشعوب. فاللغة التي لا تأخذ ولا تعطي، لغة مهددة بالجمود. غير أن الفارق الكبير، في نظره، هو بين الاقتباس الواعي الذي يضيف إلى اللغة، وبين الاستعمال العشوائي الذي يُفقدها شخصيتها.

وحين يصل زيدان إلى العصر الإسلامي، يوضح أن هذا العصر كان مرحلة تحول كبرى في تاريخ العربية. ظهرت مصطلحات جديدة للتعبير عن معانٍ دينية وفقهية وإدارية لم تكن موجودة من قبل. وأصبح للكلمة الواحدة أكثر من معنى بحسب السياق: معنى لغوي، وآخر ديني، وثالث فقهي، ورابع علمي. وهذا التعدد لا يدل على فوضى، بل على حياة داخل اللغة.

العربية، في هذا الكتاب، ليست لغة الماضي فقط، بل لغة قادرة على الاستمرار. زيدان يؤكد أن اللغة تنمو مع العلوم، والسياسة، والتجارة، والإدارة، وكلما تطورت حياة الناس، تطورت اللغة معهم. لذلك، فإن ضعف العربية في بعض الفترات لا يعني أنها عاجزة، بل يعني أن أهلها قصّروا في استعمالها وتطويرها.

ومن الأفكار الجميلة في الكتاب أن زيدان لا يدعو إلى رفض الألفاظ الجديدة، ولا إلى الانغلاق اللغوي. هو يدعو فقط إلى التوازن. أن نأخذ من اللغات الأخرى بقدر الحاجة، دون أن نفقد ملامح لغتنا. فالعربية، في نظره، لغة قادرة على الأخذ والعطاء، لكنها تفقد قيمتها حين تُستعمل بلا وعي.

الرسالة التي يخرج بها القارئ من هذا الكتاب بسيطة وواضحة: اللغة العربية ليست في خطر لأنها ضعيفة، بل لأنها أُسيء فهمها. هي كائن حي، وإذا عاملناه كشيء حي، منحناه عناية واهتمامًا، استعاد عافيته. أما إذا تعاملنا معه كعبء ثقيل أو مادة دراسية مملة، فلا غرابة أن يذبل.

في النهاية، لا يطلب جورجي زيدان من القارئ أن يكون عالم لغة، ولا شاعرًا، ولا نحويًا. يطلب فقط أن يكون منصفًا. أن يرى في العربية لغة حياة، لا لغة متحف. لغة قادرة على التعبير عن الحاضر، مثلما عبّرت عن الماضي. وأن يدرك أن الحفاظ على اللغة لا يكون بالبكاء عليها، بل باستعمالها بثقة، وبساطة، ووعي.

هذا الكتاب، في جوهره، دعوة هادئة لإعادة النظر في علاقتنا بلغتنا. ليس بوصفها واجبًا ثقافيًا فقط، بل بوصفها جزءًا من كينونتنا اليومية. فاللغة التي نهملها اليوم، قد نستيقظ غدًا لنبحث عنها فلا نجدها، لا لأنها ماتت، بل لأننا تركناها تمشي وحدها، دون أن نرافقها.

مشاركة