صوت العدالة – د.عثمان الزياني
تُظهر الممارسة الحديثة أن أحد أهم العوامل التي تشوه الصورة المثالية للمنافسة بشكل ملحوظ -باعتبارها الآلية الرئيسية لعمل الدولة الديمقراطية-،هي ظاهرة الفساد التي تشجع على إنشاء احتكارات “غير طبيعية” في مختلف مجالات الحياة العامة. فالفساد أصبح لا يمكن إنكاره ،ويظهر دائمًا في “الزوايا المظلمة” لأي نظام سياسي وإداري وفق سياقات وممارسات مختلفة. و قد لعب الفساد تاريخيا الدور الأساسي في أداء الأنظمة الاستبدادية وبأشكال مختلفة ( من الرشوة المباشرة إلى المحسوبية …)، وكذلك في الأنظمة الشمولية من خلال أنماط محددة من الامتيازات المادية والاجتماعية.ففي ظل هذه الأنظمة يتم خلق الظروف التي تولد المسؤولين الفاسدين الجدد وتحفيز الفساد.
وفي هذا الخضم ندرك جيدا الآثار السلبية المترتبة عن الفساد، فعلى المدى القصير يعتبر مناقضًا لسيادة القانون ، يتعارض مع القواعد والإجراءات الرسمية التي تؤثر على توزيع الموارد ، والوصول إلى العدالة ، وفعالية مؤسسات إنفاذ القانون، وعلى المدى البعيد ، يقوض مبدأي الإنصاف والعدالة المجسدين بروح القانون ، ويضعف نزاهة الحكومات ، ويضعف شرعية الدولة في حد ذاتها .
في المغرب عادة ما يتخذ الفساد شكلا هرميا منظما يخضع ويضبط مختلف المؤسسات والقطاعات السياسية والادارية، التي تعمد النخب السلطوية من خلالها إلى توليد شروط مسبقة مواتية للفساد البيروقراطي من خلال خلق ضوابط مريحة وتسلسلات هرمية فضفاضة،كما تسمح لمثل هذا الفساد بالازدهار والتطور.ففي الأنظمة السلطوية الجديدة ، يكتسب الفساد باعتباره الآلية الدافعة لنشاطه طابعًا شاملاً ،ويمكن تعريفه على أنه “سيطرة الدولة” التي تمثل الجزء العلوي في النظام الهرمي لأشكال الفساد السياسي والاقتصادي، والنموذج المغربي لا يخرج عن هذا السياق، وعليه نجد في الغالب أن الديمقراطيات الهجينة تولد الفساد البيروقراطي،إذ غالبا ما يولد النمط السلطوي في الحكم بيئة مواتية لإساءة استخدام المنصب العام لتحقيق مكاسب خاصة. وفي هذا الإطار يزعم منظرو نظرية الاختيار العام أن معدلات الفساد تتناسب طرديًا مع درجة الاحتكار الذي يتمتع به أصحاب المناصب على مجال بيروقراطي محدد، و يتناسب تناسبا عكسيا مع متطلبات المساءلة نتيجة المسؤوليات التي يتحملونها، وبالاستناد إلى نظرية الاختيار العام دائما، هناك احتمال كبير في ارتفاع منسوب الفساد في الأنظمة السلطوية ، التي تتميز بانخفاض المساءلة العامة ووجود هياكل من الحوافز المشوهة في البيروقراطيات الحكومية الواسعة ، ودائما ما ينظر مواطنوها إلى الفساد على أنه مفيد أو حتى لا مفر منه ، وبالنظر إلى المغرب وفي ظل سيادة بيئة سلطوية تشهد على تدخل الدولة في الاقتصاد وتفتقر إلى المنافسة الاقتصادية والصحافة الحرة و غياب عمليات الفحص والرقابة والتدقيق و انعدام التوازن البيروقراطي، المركزية المالية ، وعدم فعالية النظام القانوني ، ونقص الحريات المدنية ، فإن تكريس ثقافة الانفلات من العقاب المرتبطة بالفساد تكون هي السائدة والمهيمنة. وحتى القيم الأخلاقية والمعيارية يتم تخريبها بشكل منهجي وتراكمي، بطريقة تفيد الجهات الفاعلة في تحصين مواقعها وضمان الاستمرارية في الاستفادة من مختلف موارد الدولة.ذلك أن الفساد ليس عرضيا فقط،وإنما هو متأصل في دواليب الدولة،وأضحى عبارة عن مؤسسة غير رسمية بحسب تعبير “نورث”،يفرض قانونه الخاص بشكل جبري على الجميع ،وأصبح عبارة عن فساد نسقي متحكم إلى حد كبير في تدبير مختلف مؤسسات الدولة.فهو عبارة عن “فساد مشبك “أيضا ، بمعنى وجود شبكات من الأفراد/المسؤولين الفاسدين المرتبطين ببعضهم البعض. بمعنى ليس الشخص الوحيد الذي يستفيد ؛ هناك دائما مجموعات من المسؤولين الذين يكسبون. يقول Moerdyk أن بعض القيم الثقافية ، مثل “الحاجة إلى المشاركة والرعاية” ، قد تؤدي إلى الضغط على التصرف بشكل فاسد، “إن الميل إلى الفساد قد يكمن في حاجة بعض الأفراد إلى المشاركة والرعاية ، والحاجة إلى أن ينظر إليهم على أنهم ناجحون، بقدر ما يمكن إرجاعه إلى الجشع والشعور بالاستحقاق “.وتاريخيا دائما ما يتم التعامل مع الفساد بصورة انتقائية عن طريق اعتماد آلية فضح بعض النخب وتشويه سمعتها كنمط من أنماط تصفية الحسابات ،أو استثمار ملفات الفساد في ضمان ولاء بعض النخب،وحتى التقارير التي يتقدم بها المجلس الأعلى للحسابات،يتم تسويقها بطريقة محكمة، بهدف التلاعب بالوعي الجماهيري و خلق نوع من الإثارة والدعاية من أجل تعبئة المجتمع لدعم نظام الحكم أكثر.
ومن الطبيعي أن نشهد على أن ميولات الطبقة الحاكمة للنظام السياسي المغربي تنزاح أكثر نحو إساءة استخدام السلطة السياسية من خلال وسائل غير ديمقراطية، مثل القمع والسيطرة الاقتصادية والانتخابات المتحكم فيها والمزورة، والتلاعب من أجل تحقيق المصالح الذاتية، مما يشكل انتهاكًا صريحا للثقة التي يمنحها الشعب لبعض النخب الحاكمة، التي غالبا ما تتخذ قرارات تخصيص الموارد من خلال اعتماد سياسات وطنية تخدم أهدافها الخاصة، مما يجعلها توظف كل الآليات في سبيل الحفاظ على السلطة بدلاً من خدمة مصالح المواطنين .وهنا يتجسد على مستوى ديناميات النسق في مجمله ما يصطلح عليه L. Geveling ب “الكليبتوقراطية” kleptocracy – بمعنى الحضور الوازن ل”قوة ناهبي الأموال العامة” التي تمثل “هيئة السلطة القائمة على الفساد والمجموعة الاجتماعية السياسية من الأعضاء الذين يسمحون بانتهاكات خطيرة للمعايير العامة ،ويستخدمون سلطتهم (عادة ما تكون الدولة و السلطة السياسية) لإثراء الذات بسرعة وتعزيز المناصب الرئيسية في المجتمع “. وعادة ما يعتمد أداء هذا النظام الذي يمكن تعريفه على أنه نوع من” الحكم الكلي-الكليبتوقراطي ” أو تقديمه على انه نوع من السلطوية الجديدة ، يقوم على أساس الترابط الديناميكي للإكراه والفساد اعتمادًا على الوضع السياسي الداخلي والمهام السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يقوم بها النظام ، ويتم تقديم هذه الآلية المسيطرة إما عن طريق الإكراه ، أو أعمال الفساد.
وهنا نكون بصدد تكريس معطى” الاستيلاء على الدولة” هذا الشكل من الفساد الذي تتم فيه عملية خصخصة السلطة العامة من قبل المجموعات السياسية والاقتصادية الحاكمة ، كما تذهب إلى الاستيلاء على الموارد الطبيعية والأرض ، والروافد الرئيسية للوسائل المالية ، والممتلكات الحكومية والخاصة ، وأيضًا احتكار الوسائل الأكثر تأثيراً للتوزيع الشامل للمعلومات، لاستخدامها في الإثراء المادي لأعضاء الجماعات الحاكمة وزعمائهم، مما يؤدي إلى منافسة غير عادلة و غير شفافة تشجع تشكيل الاحتكارات التابعة للجماعات الحاكمة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها من المجالات المعنية بنشاط الدولة والمجتمع.
كما نلاحظ دائما أن السياسيين الذين وصلوا إلى السلطة دائما ما يسعون إلى خصخصتها والاستيلاء على مقدرات الدولة، ونشاطهم دائمًا يمتد إلى إساءة استخدام الموارد التشريعية والموارد التنظيمية، و مجال الموارد البشرية للسلطة العامة ،و نجد أيضا عمليات إدماج النخبة الاقتصادية و المجموعات المالية والصناعية والشركات من نوع “الأوليغارشية” مباشرة في نظام السلطة العامة ، و الذين يشغلون مناصب سياسية وإدارية عامة، فهناك تغلغل مباشر للأعمال في السلطة ، ويتم الجمع بين النخب السياسية و الاقتصادية التجارية ، وبالتالي يتم تشكيل المجموعات السياسية والاقتصادية الحاكمة ،وعليه تنجح عملية إشراك رجال الأعمال الكبار في هياكل السلطة التشريعية والتنفيذية، الذين تكون لديهم اليد الطولى في عمليات صناعة القرار، ومن الواضح أن الفساد ينطوي على ضعف الخدمات العامة لأن الرشاوى – الشكل الأكثر شيوعًا للفساد – تؤدي إلى سوء تخصيص الموارد ، حيث يكون صناع القرار أكثر اهتمامًا بالحصول على مستوى أعلى من الرشاوى ، وليس اتخاذ القرار الأفضل. كما آن الفساد يزيد أيضا من تكلفة الخدمات العامة.
وفي هذا الخضم يتم أيضا خلق التربة المغذية لتوزيع جميع أنواع الفساد الاقتصادي في الدولة والبيئة البيروقراطية من أجل احتلال مناصب الدولة من قبل المجموعات السياسية والاقتصادية الحاكمة. وما يلاحظ أن هناك جشع بالفطرة لدى مختلف النخب الحاكمة، حيث لا يمكن احتواء الرغبة في إثراء الذات والإشباع الفوري ؛ فهم يشعرون باستمرار في الحاجة إلى تجميع الثروة ويغتنمون أي فرصة للقيام بذلك. وبالنسبة للمسؤولين ، إذا كان هناك احتمال لإشباع الذات ، فمن المرجح أن ينتزعوا ذلك بأي وسيلة ما لم تتم مراقبتهم عن كثب، والنقص في المراقبة والمساءلة يفتح المجال أمامهم، ويحفزهم أكثر على القيام بممارسة الفساد.
إن النخبة الحاكمة في المغرب تحمل تمثلا مشخصنا للسلطة ،وبالنسبة إليهم الوصول إلى مناصب السلطة يعني امتلاك القوة وحسب Klitgaard . في هذا السياق ، تُعرَّف القوة بأنها أفراد معينون يتحملون درجة من السلطة في عمليات صنع القرار ، مما يخلق نوافذ مربحة من الفرص للسلوك غير الأخلاقي. ووفقًا لهذا الفهم ، بدون سلطة لا يوجد فساد. وقد وجد العديد من الباحثين دليلًا على وجود علاقة سلبية بين السلطة والفساد، قد يكون هذا نتيجة لأن أصحاب السلطة يميلون إلى أن يكونوا أكثر عرضة للخطر ،السعي الدائم للحصول على المكافآت،تجربة أقل في الشعور بالذنب والإحراج،ضعف الشعور بالتعاطف مع الآخرين،العمل من أجل المصلحة الذاتية. ويلاحظ أيضا في هذا الاطار Moerdyk أن الخصائص الأخرى المرتبطة بالفساد تتضمن: السلوك الذي يبحث عن التشويق ، والتوافق الاجتماعي ، والحاجة إلى الإشباع الفوري ، وسلوك المخاطرة ، والحاجة القوية إلى السلطة،كما يعتقد الأشخاص الذين ينظرون إلى السلطة على أنها شخصية أنه يجب استخدام القوة لمتابعة الأهداف المتمحورة حول الذات لصالح الفرد.
يمكن أن تؤدي السلطة إلى زيادة الثقة ، وزيادة قبول المخاطر ، والتركيز على المكافآت، ويظهر أن السلطة تؤدي إلى زيادة الثقة في عملية صنع القرار ، وتؤدي في النهاية إلى قرارات رديئة تؤدي إلى خسائر مادية لحامل القوة. إن تأثير الثقة المفرطة قد يؤدي إلى الفساد في المؤسسات عندما تغلب الثقة الشخصية في الأحكام على الدقة الموضوعية، وهذا يؤدي إلى تشويه التصور الذاتي للقضايا الأخلاقية. عندما يكون هناك فجوة كبيرة بين كيف يعتقد المسؤولون أنهم سوف يتصرفون في موقف معين مقابل كيف يتصرفون بالفعل. بمعنى آخر، فإن الثقة المفرطة التي يتمتع بها الأفراد في أخلاقهم الخاصة قد تمنع هؤلاء الأفراد أنفسهم من إدراك أو الاعتراف بأنهم يتصرفون بشكل فاسد. وهنا يتجسد شكل من أشكال التحيز المعرفي المعروف باسم “التحيز للخدمة الذاتية” حيث يعالج صناع القرار المعلومات بطرق تدعم الآراء الموجودة مسبقًا وتقدم مصالحهم الذاتية بدرجة أولى ،ومن الأرجح أن تتصرف الطبقة الحاكمة بشكل فاسد عندما تكون قادرة على تحقيق مكاسب شخصية ، ولديها تحكم أقل في النفس ، وتدرك أن الفساد لن يؤدي إلا إلى ضرر غير مباشر ، وعندما تعمل في مؤسسات يفلت فيها السلوك غير الأخلاقي من العقاب، مع غياب الآليات المؤسسية التي تحد من قدرة أصحاب السلطة على تحقيق مكاسب مادية من مواقعهم،وعدم دعم تدابير النزاهة لأصحاب السلطة ، بما في ذلك أنظمة المكافآت،وحتى الفاعل السياسي الذي حصل على منصب في السلطة عن طريق الفساد السياسي يفقد الحصانة تجاه جميع أنواع الفساد، حتى وان كان هناك فاعلون لا يرغبون في قبوله ، فهم يطيعونه ، وفقًا لحسابات تتوافق مع طموحاتهم من وجهة نظرهم.
وعلى سبيل الختم يجب أن يكون ارتفاع مؤشر الفساد علامة تحذير لإيلاء الاهتمام أكثر لآثاره المأساوية على الأداء الأساسي للديمقراطية والحكم الرشيد ،وبالتالي لا يمكن التأسيس لديمقراطية حقيقية في المغرب دون وجود إرادة حقيقية لإجتثاث منابع الفساد،خصوصا وأننا مازلنا حبيسي مقاربة “معوجة” في التعامل مع الفساد قوامها “إقطع الأصبع الذي يشير إلى الفساد وسينتهي الفساد”، الأمر الذي يغذي ثقافة الانفلات من العقاب ويحفز أكثر على ممارسة الفساد .والعمل أيضا على تعزيز العنصر الوقائي للديمقراطية ، وهو مبرر قديم يستند إلى فكرة أن المواطنين يجب أن يكون لديهم الأدوات السياسية لمقاومة الحكومات والمسؤولين الفاسدين ،وإذا كان الفساد ينطوي على أضرار ناتجة عن الإقصاء ، فيجب أن تتضمن الوسائل الرئيسية لمحاربة الفساد، تمكين المواطنين /المتضررين من حماية أنفسهم بالوسائل الديمقراطية: من خلال المعلومات والحجج والتنظيم والتصويت، كما يمكن القول انه من المرجح أن يكون المزيد من الديمقراطية جزءًا أساسيًا من أي علاج .
المراجع:
-Yuliy A. Nisnevich : Modern AUTHORITARIANISM AND CORRUPTION ;National Research University Higher School of Economics Address: 20, Myasnitskaya st., Moscow, 101000, Russia.
-Mark E. Warren ; What Does Corruption Mean in a Democracy?; Georgetown University ; American Journal of Political Science Vol. 48, No. 2 (Apr., 2004.
-Marina Zaloznaya ,Does Authoritarianism Breed Corruption? Reconsidering the Relationship Between Authoritarian Governance and Corrupt Exchanges in Bureaucracies ; Law & Social Inquiry ;Volume 40, Issue 2, 345–376, Spring 2015.
-Kendra Dupuy and Siri Neset ; The cognitive psychology of corruption Micro-level explanations for unethical behaviour ; U4 Anti-Corruption Resource Centre, Chr. Michelsen Institute (U4 Issue 2018:2).