صوت العدالة : حسن بوفوس
شهدت كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، يوم الجمعة 5 دجنبر الجاري ، حدثا أكاديميا متميزا تمثل في مناقشة أطروحة الدكتوراه للباحث أنس ريري في التاريخ المعاصر تحت إشراف الأستاذ الدكتور محمد مزيان. حملت الأطروحة عنوان “الاستراتيجية الدبلوماسية الألمانية بالمغرب خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”، حيث قدمت قراءة معمقة للتفاعلات السياسية المغربية الأوروبية خلال مرحلة حاسمة من التاريخ. تحولت جلسة المناقشة إلى فضاء فكري لتأمل مسارات التاريخ والفكر الاستراتيجي والعلاقات الدولية. عبر تحليل الخطاب الدبلوماسي وإعادة تركيب الوقائع التاريخية عبر عدسة نقدية تتسم بالجرأة والدقة.
اعتمد الباحث في مسعاه العلمي على ركيزتين منهجيتين أساسيتين: الأولى هي التنقيب في الوثائق الأرشيفية غير المنشورة، والثانية تطبيق التحليل البنيوي على المسار الدبلوماسي للعلاقات الثنائية. ومن خلال تفكيك مراسلات الدبلوماسيين وتقاريرهم السرية والسياقات الثقافية والتاريخية التي أنتجتها، تمكنت الدراسة من رسم تطور الاستراتيجية الألمانية. حيث أفصحت عن تحولها من سياسة قائمة على “التوازن” و”التهديد غير المباشر” للمصالح الفرنسية والبريطانية، إلى سعي حثيث لخلق “منطقة نفوذ” اقتصادية ألمانية في المغرب، قبل أن تذوب هذه الطموحات في حسابات التحالفات الأوروبية الكبرى عشية الحرب العالمية الأولى. وبهذا، تخلص الأطروحة إلى أن ألمانيا لم تكن مجرد ظل أو تابع للإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية في ذلك المشهد، بل كانت فاعلا مركبا ساهم بشكل ملحوظ في تعقيد المشهد الجيوسياسي وزعزعة المعادلات القائمة آنذاك.
ضمت لجنة المناقشة هيئة علمية مرموقة، مكونة من نخبة من المتخصصين في مجال التاريخ السياسي والعلائقي والدبلوماسي. وقد تبادل أعضاء اللجنة المداخلات التي أبرزت ثراء المادة الوثائقية التي اعتمدها الباحث وانفتاحه على مناهج بحثية واعدة من حقول معرفية مجاورة. كما أشادت اللجنة بجدة الطرح وقدرته على الكشف عن الأبعاد الخفية للتفاعل المغربي الألماني. وفي المقابل، دار سجال نقدي بناء حول طبيعة التأثير الألماني ومداه على القرار الداخلي المغربي في تلك الفترة، ومدى استقلالية هذا التوجه الدبلوماسي عن إطار الصراع الأوروبي الأوسع.
بعد نقاش علمي مكثف وغني، خلصت اللجنة إلى منح الباحث أنس ريري شهادة الدكتوراه بميزة “مشرف جداً”، مع التوصية بنشر الأطروحة ككتاب ليكون مرجعا أكاديميا يثري المكتبة التاريخية المغربية والعالمية. وقد شكل هذا التتويج تأكيداً على أن كتابة التاريخ الحقيقية لا تكمن فقط في سرد الأحداث، بل في بذل الجهد العلمي المنهجي لقراءة ما بين سطور الوثائق، وفك شفرات الماضي بهدف فهم أعمق لتحديات الحاضر واستشراف أفضل لمستقبله.


