الرئيسية أخبار القضاء النيابة العامة خصم شريف لا تعادي إلا من يعادي القانون

النيابة العامة خصم شريف لا تعادي إلا من يعادي القانون

IMG 20180723 WA0029.jpg
كتبه كتب في 23 يوليو، 2018 - 12:02 مساءً

 

من اعداد الأستاذ نجيم الشاوني

 

النيابة العامة هي المخول لها قانونا تمثيل المجتمع والدفاع عن مصالحه، ودرء الضرر الذي قد يلحقه باعتبارها ممثلة للحق العام تمثل طرفا ايجابيا اصيلا في الدعوى العمومية، تملك صلاحية تحريكها وممارستها ومراقبة سيرها الى غاية صدور الحكم، ثم السهر على تنفيذه بعدما يكتسي قوة الشيء المقضي به، وتسخير القوة العمومية إذا اقتضى الامر ذلك.

وتعتبر النيابة العامة جهازا مستقلا عن قضاء التحقيق وقضاء الحكم والمطالب بالحق المدني بقوة القانون وبحكم وظيفتها، ويشكل كل اعضائها وحدة متكاملة لا يقبل عملها التجزئة، ولا يمكن تجريحهم لأنهم خصم شريف، وطرف أصلي في الدعوى، والخصم كما هو معروف قانونا لا يمكن التجريح فيه.

ومن خلال الاطلاع على الدراسات الحديثة المنجزة في اطار القانون المقارن نجد أن النيابة العامة اصبحت تطرح عدة اشكاليات قانونية في ظل علام معولم وتحولات عالمية جديدة ومتسارعة، مما جعلها محل اثارة للجدل، وأكثر تعقيدا وغموضا، وهناك من رجال القانون من وصل حد التشكيك في مدى انتمائها للسلطة القضائية، بعدما كان ذلك من المسلمات والبديهيات، خصوصا بعد القرارين القضائيين المشهورين، الصادرين عن المحكمة الأوربية لحقوق الانسان الأول في ما يعرف بقضية “ميدفيدف”، والثاني فيما يعرف بقضية “مولان”، ومن أراد البحث أكثر في هذا الشأن يمكنه الاطلاع على:

1- CEDH: 29 mars 2010, Medvedeyv et autres. France; reqeute no 3394/03.
2- CEDH: 20 novembre 2010; Moulin C, France. Reqeute no 37104/ 06.

هذان القراران انتهيا الى إدانة فرنسا (باعتبار وزير العدل هو رئيس النيابة العامة) بانتهاك قواعد الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان، وذلك بعلة أن تقديم المتهمين أمام النيابة العامة التابعة هرميا (بفرنسا) لوزير العدل يشكل خرقا لأحكام المادة 05 من هذه الاتفاقية وفيه خرق لحقوق الإنسان، وذلك باعتبار أن النيابة العامة تفتقر لأهم ضمانة تميز السلطة القضائية عموما ألا وهي الاستقلالية، كل هذا نتج عنه جدل فكري كبير بين رجال القانون وصل الى حد أن البروفيسور “فريديريك سودر” أعلن قرع كاس النيابة العامة، وغيرها من الاسئلة الشائكة التي طرحت في هذا الباب، منها هناك من نادى بضرورة استقلالية النيابة العامة عن السلطة التنفيذية، والدعوة الى اعادة النظر في دورها الكبير الذي تلعبه داخل الدولة، ومن أراد الاطلاع والبحث أكثر أيضا في هذا الشأن هناك المراجع التالية:

1- Frédéric Sudre; le glas du parquete, commentaire sous CEDH: 20 novembre 2010, Moulin c / France, JCP G, no 49, 06 décembre 2010.

2-Jean-pièrre marguenaud, tempête sur le parquet, commentaire sous CEDH; 10 juillet 2008. Medvedyev c/ France 2009.

وإذا ما حاولنا التأصيل تاريخيا لمؤسسة النيابة العامة، نجد أن جذورها ترجع الى سنوات العصر الوسيط بفرنسا، حيث أن الملك كان يعين ممثلوه ليقوموا بجمع الغرامات لفائدة خزينة الملك، ويهتمون بتوقيع العقوبات المالية على المخالفين، ومن هنا جاءت تسمية “وكيل الملك”، وفي سنة 1303 ميلادية قام الملك “فيليب ليبون” بتكليف بعض الأشخاص للقيام بمهام وكلاء الملك، وأطلق عليهم لقب نواب عامون للملك لذى المحكمة العليا، ونواب وكيل الملك لذى المحاكم الابتدائية، ومن هنا تبلورت فكرة وحدة النيابة العامة وعدم تجزئة عملها، وفي هذا الاطار قال الفيلسوف الكبير، صاحب فكرة فصل السلط، السيد مونتيسكيو في كتابه: “روح القوانين” سنة 1748 وهو يصف مؤسسة النيابة العامة بما يلي:

– L’esprit des lois; ” nous avons aujourd’hui une loi admirable, c’est celle qui veut que le pince prépose un officier dans chaque tribunal pour poursuivre en son nom tous les crimes…”
أي ما معناه ” لدينا اليوم قانون رائع، فالأمير وضع على مستوى كل محكمة ضابطا ليتابع باسمه كل الجرائم…”. وبغض النظر عن أصل كلمة النيابة العامة فإنها اعتبرت من طرف البعض بمثابة ” دركي القانون الجنائي” المدافع عن المجتمع، وحارسة للمصلحة العامة، وهي كلها تبقى تعابير تعكس وظيفة النيابة العامة، وسلطاتها واهميتها الكبرى، كما يمكن القول أن النيابة العامة عرفت عدة تطورات بفرنسا عبر سيرورتها التاريخية الى غاية الاصلاح القضائي لسنة 1958 الذي أعطى لأعضاء النيابة العامة كل الضمانات تقريبا التي يستحقونها والملائمة لطبيعة عملهم واختصاصاتهم.
أما في المغرب فان التطور التاريخي لمؤسسة النيابة العامة يبقى مقترن بالتطور التاريخي لقانون المسطرة الجنائية نفسها، حيث هنا لابد من التمييز بين ثلاث مراحل، مرحلة ما قبل الحماية، ومرحلة الحماية، ثم ما بعد الحماية. ففي مرحلة ما قبل الحماية لم يكن هناك شيء اسمه النيابة العامة بالمفهوم القانوني الحديث، وإنما كانت أحكام الشريعة الاسلامية والفقه المالكي هي المطبقة، وكان قاضي الحكم يجمع كل سلط الدعوى تقريبا، لكن بالرجوع الى بعض النوازل التي كان القضاة المسلمون يبثون فيها انذاك نجد انها لا تخرج في البعض منها عن اعتبارها من مهام النيابة العامة، مثل قطع الخصام والتشاجر اما عن طريق الاجبار أو الصلح، واستنفاذ الحق اما بالإقرار او البينة، والنظر في المصالح العامة للبلد بما في ذلك كف الأذى عن الطرقات العامة وغيرها. لكن بعد 30 مارس 1912 في فترة الحماية عرف المغرب القضاء الشرعي، والقضاء المخزني، والقضاء العرفي، ثم القضاء العبري، وكان جهاز القضاء انذاك يخضع مباشرة اما الى (مندوب الحكومة أو للمراقب المدني)، هذان الجهازان كانا يلعبان دورا شبيها بدور النيابة العامة، أما القضاء الفرنسي الذي كان سائدا بالمغرب أنداك فان النيابة العامة كانت ممثلة في محاكم الصلح، والمحاكم الابتدائية، ومحكمة الاستئناف بالرباط.
وبعد الاستقلال، عمل المغرب على احداث جهاز النيابة العامة في ظهير المسطرة الجنائية بتاريخ 10 فبراير 1958، حيث كان يطلق على ممثل النيابة العامة آنذاك اسم “وكيل الدولة”، وسبق أن جاء في مقتطف من كلمة المغفور له الملك محمد الخامس طيب الله ثراه، بتاريخ 20 يونيو 1956، بمناسبة تعيين وكلاء الدولة الجدد ما يلي: ” الحمد لله وحده وكلاء الدولة لدى المحاكم الاقليمية كلكم على علم بان أول ما أوليناه أكيد اهتمامنا في مستهل العهد الجديد هو تحقيق السيادة المغربية في جميع مظاهرها. ومن البديهي أن من أبرز مظاهر السيادة أن يصبح القضاء بأيد مغربية، وكان في مقدمة ما هدفنا اليه تنظيم القضاء تنظيما يلبسه حلة مغربية خالصة ويجعله في جميع فروعه يتلاءم ومقتضى تطور البلاد وازدهارها. وكان من جملة ما أقررناه ضمن هذا التنظيم الجديد وظيف وكيل الدولة لذى المحاكم الذي هو من مستحدثات الوضع القديم، وأنتم تعلمون أن محتل هذا الوظيف الذي لم يسمح للمغربي بتبوئه كان فيما سلف يتعدى نطاق مأموريته مما يخل باستقلال القضاء، ان اقرار وظيف وكيل الدولة ضرورة لا مندوحة عنها، ومن الضروري ان يصبح وكلاء الدولة بحكم الوضع الجديد…. وعليكم أن تحرصوا على أن يكون القضاء مطهرا من جميع الأدران موفور الكرامة…”.

وهذا ما تم تكريسه ايضا في ظهير 1974، وفي القانون رقم 22 – 01 المتعلق بتنفيذ الظهير الشريف المتعلق بالمسطرة الجنائية، مع تغيير الاسم من وكيل الدولة الى وكيل الملك.

وبعد صدور دستور سنة 2011 الذي نص بشكل صريح في الفصل 107 منه، على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، وأن الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية. وفي أعقاب مصادقة البرلمان على مجموعة من التعديلات القانونية المتعلقة بالسلطة القضائية بالبلاد، أمر الملك محمد السادس حفظه الله، في أكتوبر 2017، بنقل اختصاصات الإشراف على النيابة العامة من الحكومة في شخص وزير العدل، إلى مؤسسة النيابة العامة، ممثلة برئيسها، الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيساً للنيابة العامة.
وتقوم النيابة العامة بدور مهم ونبيل في المجتمع ألا وهو البحث عن التطبيق الجيد للقانون، وحفظ النظام العام والدفاع عنه وحمايته من كل مساس به، وعلى عكس ما يعتقده الكثير من القانونيين، أن دور النيابة العامة ينحصر في المطالبة بالعقوبات وأقصاها أبدا، بل ان النيابة العامة نفسها التي تابعت متهم ما من أجل ارتكاب جريمة معينة وأحالته على المحاكمة قد تطالب اثناء الجلسة ببراءته، وذلك متى ظهرت أدلة أو قرائن قوية على ذلك، لان النيابة العامة هي المدافع الأول عن القانون وعن المصلحة العامة للمجتمع، وليس من مصلحة المجتمع إدانة بريء أو تبرئة مذنب، انها تبحث عن الحقيقة فقط. وهكذا إذا تبين مثلا اثناء الجلسة ان متهم بالسرقة هو أحد أصول الضحية، أو فروعه أو زوجها، تطالب ببراءة المتهم أو سقوط العقوبة عنه حسب الأحوال وذلك تطبيقا للقانون.
وتلعب النيابة العامة أيضا دورا مهما حتى أمام القضاء المدني، سواء باعتبارها طرفا اصليا أو منظما أو تلقائيا للدفاع عن النظام العام، وكذلك القضايا التي تعتبر الدولة طرفا فيها او احدى مؤسساتها معنية بذلك، وقضايا الحالة المدنية والزور الفرعي وغيرها من القضايا ذات الصلة، كما عمل المشرع المغربي على توسيع دور النيابة العامة في قانون المسطرة الجنائية الحالي من خلال منحها العديد من الصلاحيات ذات البعد الانساني والاجتماعي، اضافة الى صلاحياتها الكلاسيكية المعروفة سلفا، وسنحاول تبيان بعضها على سبيل المثال لا الحصر.

1- دورها المحوري في السند القابل للتنفيذ في المخالفات: وذلك تجنبا لإهدار الطاقة البشرية والوقت، وتبديد امكانيات مادية هائلة، والتخفيف من كثرة الملفات المعروضة على المحاكم، وأصبحت النيابة العامة هي صاحبة الاختصاص الاصلي بإصدار السند القابل للتنفيذ.

2-الصلح بين الخصوم طبقا للمادة 41 من قانون المسطرة الجنائية:
3-رد الاشياء المحجوزة التي ضبطت أثناء البحث لمن له الحق فيها: ما لم تكن هذه الاشياء ضرورية لسير الدعوى، أو خطيرة، أو قابلة للمصادرة، وعدم وجود منازعة جدية، طبقا للمادة 40 من قانون المسطرة الجنائية.

4-ارجاع الحالة الى ما كانت عليه طبقا للمادتين 40 و49 من قانون المسطرة الجنائية: حيث أنه وكلما تعلق الأمر بانتزاع حيازة عن طريق اعتداء جرمي بعد تنفيذ حكم باسترداد هذه الحيازة، يمكن للنيابة العامة ارجاع الحيازة الى الأشخاص الذين كانت لديهم بمقتضى حكم قضائي.

5- ايقاف سير الدعوى العمومية طبقا للمادة 372 من قانون المسطرة الجنائية: وذلك في حالة وقوع صلح أو تنازل أثناء سريان اجراءات الدعوى العمومية، أو اقتضت المصلحة ذلك يمكن للنيابة العامة التماس ايقاف سير الدعوى العمومية، وذلك مراعاة للحالات الانسانية والاجتماعية وحفاظا على العلاقات الأسرية، والاجتماعية القائمة بين طرفي النزاع.

اضافة الى ذلك تمتلك النيابة العامة عدة صلاحيات أخرى، غايتها الحفاظ على سلامة المواطنين وأمن البلد واستقراره، منها مثلا:

6- اصدار أوامر دولية بإلقاء القبض طبقا للمادة 40 من قانون المسطرة الجنائية: وذلك باعتبار أن مسطرة تسليم المجرمين تدخل ضمن التعاون القضائي الدولي مع الدول الأجنبية، ومن شأن ذلك مواجهة ومحاربة عدة جرائم خطيرة في وقت انتشرت فيه الجريمة المنظمة، والجرائم العابرة للحدود، وجرائم الإرهاب، مع تعدد المجرمين واختلاف جنسياتهم.

7- سحب جواز السفر وإغلاق الحدود طبقا للمواد 40-49 من قانون المسطرة الجنائية.
8- التقاط المكالمات الهاتفية بوسائل الاتصال عن بعد: هذا الاجراء يتم تحت رقابة السيد الرئيس الاول لمحكمة الاستئناف، ويعتبر اجراءا استثنائيا للسيد الوكيل العام يمكنه اللجوء اليه اذا اقتضت ضرورة البحث ذلك في بعض الجرائم شديد الخطورة على سلامة المواطنين، وأمن الوطن، وتم وضعه اساسا بيد السيد قاضي التحقيق متى كانت القضية معروضة عليه، وقد حدد قانون المسطرة الجنائية شكلية هذا الاجراء بكل دقة، وأحاطه المشرع بعدة قيود صارمة تكفل حماية وحرمة الأشخاص، وتم التنصيص على عقوبات لكل من خالف مقتضيات هذا الاجراء في المواد من 108 الى 116 من قانون المسطرة الجنائية.

وفي الختام لا بد من الاشارة الى ان المغرب دخل في تجربة جديدة، ألا وهي تجربة نيابة عامة مستقلة، يترأسها السيد الوكيل العام للملك لدي محكمة النقض، وذلك بغاية توطيد دولة الحق والقانون، وتكريس مبدأ استقلال السلطة القضائية عن باقي السلط، والفصل بشكل واضح بين ما هو سياسي وبين ما هو قضائي، وبالتالي النأي والابتعاد بالقضاء عن أي استغلال سياسي أو انتخابي.

واستقلال النيابة العامَّة لا يعني العمل بمنأى عن أي مساءلة أو محاسبة، بل إن “النيابة العامة، ورغم استقلاليتها، فهي جزء من سلطات الدولة، التي يقرّ الدستور على توازنها وتعاونها لما فيه مصلحة الوطن والمواطنين، وهي مؤطرة بقانون يحكم مختلف تدخلاتها، ما يجعل قراراتها خاضعة للرقابة، بما لا يخل بالمسؤولية الملقاة على عاتقها، ولا المس باستقلاليتها.

 

مشاركة