المصداقية: بوصلة الوجود الإنساني.

نشر في: آخر تحديث:

صوت العدالة- معاذ فاروق

في مسرح الحياة، حيث تتشابك الأدوار وتتصارع الأقنعة، تتوارى المصداقية كجوهرة نادرة لا تُلتقط إلا بأيدي من نبذوا المظاهر الزائفة. إنها ليست صفة تُعلق على جدار الذات، بل هي جذوة دفينة، تُشعل أركان الروح لتضيء بها أفق الحقيقة.ما المصداقية إلا ذلك العهد السري بين الإنسان ومرآة كيانه، حيث الكلمات لا تعود أصواتًا عابرة، بل تصبح أحجارًا تُبنى بها حصون الثقة. هي تماهي الجوهر مع المظهر، حيث لا يتسلل الزيف عبر الثنايا، ولا ينكسر الوعد على صخور الرياء.في عالم أنهكته التناقضات، يُصبح البحث عن المصداقية أشبه بالسير في غابة ضبابية، حيث تضيع المعاني بين الأشجار الملتوية، وتُغيب العقول في سراب التصورات. إنها المعيار الوحيد الذي لا يقبل الانحناء أمام الأهواء، والمعادلة التي لا تحتمل حلولًا وسطى: إما أن تكون صادقًا في ظاهرك وباطنك، أو تُلقي بنفسك في هاوية التناقض.لكن، دعنا نتساءل:
كيف تُعرف المصداقية؟ أهي حقيقة مطلقة، أم أنها مفهوم متحول يتغير بتغير الزمان والمكان؟ أم أنها تلك القوة الغامضة التي تفرض احترامها دون أن تحتاج إلى تبرير؟
المصداقية لا تقاس بالكلمات المنمقة أو الأفعال الظاهرة، بل تتجلى في أبسط التفاصيل؛ في نظرة عين صادقة، في صمت يُترجم ما يعجز اللسان عن البوح به، في انحناءة رأس خجلاً من خطأ، وفي الاعتراف بما هو غير مثالي دون خوف أو ادعاء. إنها دليل السائرين نحو الصفاء، والضوء الذي لا ينطفئ مهما اشتدت عواصف الزيف.والأكثر إرباكًا، أن المصداقية ليست مجرد أداة لتحقيق غاية، بل هي الغاية ذاتها. إنها ذاك الخط المستقيم الذي لا يلتوي تحت ضغوط المصالح، ولا ينكسر أمام جاذبية المنفعة. هي إعلان مستمر لوجود الذات الحقيقية، بلا مواربة ولا تصنع.والواقع أن المصداقية في عالم السياسة تُرفع شعارًا من قِبل الكثيرين، لكنها نادرًا ما تُترجم إلى مبدأ يتغلغل في الممارسة. فالفارق كبير بين أن تكون المصداقية لافتة تُعلَّق على واجهة الخطاب، وبين أن تكون قاعدة راسخة تحكم كل خطوة وكل قرار. إنها التحدي الحقيقي الذي يواجه كل من يتطلع إلى بناء الثقة، ليس فقط مع الآخرين، بل مع نفسه أولاً.المصداقية ليست مجرد فضيلة، بل هي اختبار دائم لمدى شجاعة الإنسان في مواجهة ذاته، ومدى استعداده لتحمل عبء الصدق في عالم يغري بالزيف.

اقرأ أيضاً: