بقلم عزيز بنحريميدة
في زحمة القضايا وتراكم الملفات داخل ردهات المحاكم، قد يغيب عن البعض الجانب الإنساني للمحامي، ذاك الرجل أو المرأة الذي لا يكتفي بمرافعة قانونية باردة، بل يتحول أحياناً إلى صديق، ورفيق، وسند لأسرة أنهكها الغياب، وجرحها قاسٍ اسمه “الاعتقال”.
حين يُعتقل أحد أفراد الأسرة، يتغير كل شيء. تنهار التوازنات، وتتحول تفاصيل الحياة اليومية إلى معارك مؤلمة. وفي خضم هذا الألم، يبرز دور المحامي الرحيم، ذاك الذي لا ينحصر عمله في صياغة دفوع قانونية ومرافعات رصينة، بل يتعداه ليشمل احتضان الأسرة نفسياً، ودعمها معنوياً، وتبديد عزلتها القانونية والاجتماعية.
المحامي الرحيم يُجيد الاستماع قبل أن يُتقن الإقناع. يزور الأسرة، يشرح لها الوضع بلغة مبسطة، يهدّئ من روع الأم القلقة، ويمنح الأمل للزوجة المكسورة، ويعيد الثقة لأبناء لم يفهموا بعد ما يجري. لا يُتاجر بمأساتها، ولا يستغل جهلها بالقانون، بل يعتبر نفسه طرفاً في معركة إنسانية قبل أن تكون قانونية.
بل إن بعض هؤلاء المحامين، الذين يحملون في قلوبهم حساً وطنياً وإنسانياً عالياً، يتطوعون أحياناً لمتابعة ملفات لأسر معوزة، لا تملك سوى دموعها، ولا تجد من يحاورها أو يدافع عنها. يقدمون من وقتهم، ومن علمهم، ومن تجاربهم، ما يساهم في تخفيف المحنة، وإعادة التوازن لأسرة تتخبط بين المحاكم والقلق.
في مثل هذه النماذج، يتجلى المعنى النبيل لمهنة المحاماة، كما أرادها الفقهاء الأوائل: مهنة للدفاع عن المظلومين، لا مجرد وسيلة للربح أو الوجاهة الاجتماعية. فالمحامي الرحيم لا يقف فقط أمام القاضي، بل يقف أيضاً أمام ضميره، أمام إنسانيته، وأمام مسؤولياته الأخلاقية.
وسط واقع لا يخلو من التحديات والضغوط، يظل المحامي الرحيم مشعلاً للثقة، ورمزاً للتضامن، وبلسماً يُداوي جراحاً قد لا تندمل إلا حين تجد من يُحس بها. هو المحامي الذي لا تنساه الأسرة أبداً، لأنه لم يكن فقط مدافعاً عن حرية فرد، بل سنداً لعائلة بأكملها.
حيث تختلط أوراق العدالة بوجع الإنسان، أعاين يومياً مشاهد لا تُنسى، تكتب في الذاكرة قبل أن تُسجَّل في المحاضر. هناك، حيث تُوزن الكلمات بميزان القانون، تئن الأرواح تحت وطأة الانتظار والخوف، وتتكسر الأحلام على أبواب الجلسات.
آخر ما هزّ وجداني مشهد أم عجوز، لم تعد قدماها تقويان على حملها، تقف عند زاوية المحكمة، ترتجف وجنتاها ودمعتها تحكي حكاية طويلة من القهر والألم. كانت تمسك صورة لفلذة كبدها المعتقل، تبكيه بصمت الأم الذي لا يضاهيه وجع، تسأل بين تنهيدات متقطعة عن مصيره، عن أمل في براءته، عن لحظة لقاء قد تطول.
لم يكن بجوارها سوى محامٍ بوجه هادئ وصوت دافئ، اقترب منها كما يقترب ابن من أمه، وضع يده برفق على كتفها، وربت على حزنها بحكمة العارف. لم يقل لها الكثير، لم يعدها بما لا يستطيع، لكنه بث فيها أملاً صادقاً، وجعلها تشعر أن العدالة لا تزال ممكنة، وأن ابنها لم يُنس، وأن هناك من يُدافع عنه، بضمير ويقين.
ذاك المشهد لم يكن استثناء، بل هو من المشاهد التي تكشف الوجه الآخر لمهنة المحاماة، ذاك الذي لا نراه في المرافعات ولا نقرؤه في الأحكام. إنه وجه الرحمة في قلب القانون، حين يتحول المحامي إلى مواسٍ، ومعين، ورفيق للضعفاء الذين لا سند لهم سوى الكلمة الطيبة وأمل العدالة.
هكذا عرفت المحامي الحقيقي… لا فقط من خلال دفوعه، بل من خلال إنسانيته، التي قد تزرع في قلب أم مكلومة زهرة أمل، ولو في أرض موحشة من الانتظار والخوف