الرئيسية غير مصنف التبني .. حسنة ام كارثة ؟!

التبني .. حسنة ام كارثة ؟!

IMG 20191010 WA0007
كتبه كتب في 10 أكتوبر، 2019 - 8:06 صباحًا


كتبه : مصطفى أمجكال .

صوت العدالة.


الحديث عن التبني من زاوية نفسية حديث يصعب بكل المقاييس ، فأصعب ما يمكن سبر أغواره و الكشف عنه هو نفسية الإنسان المضطربة و المتألمة و الحزينة بسبب موضوع ما ، يؤرقها و يضنيها ، و لعل ما يترتب على التبني و انكشاف الحقائق في مرحلة معينة لدى الشخص المتبنى من صدمات نفسية و معانات داخلية و صراعات و هواجس يجعلنا نقف منذرين و محذرين و صارخين في وجه المجتمع كي يقف عند هذه الظاهرة الخطيرة و المعضلة المؤرقة و قفة بحث و دراسة و تحليل .
المجتمع يغص بالحالات المحزنة و القصص المؤلمة حول مسألة التبني ، و الكثير من البرامج التي تتطرق لذلك تحاول الكشف عن حقائق صادمة يعيشها أشخاص عانوا و لا يزالون يعانون من هول صدمة الحقيقة و التي في غالب الأحيان لا تكون في الوقت المناسب أو بالطريقة المناسبة ، لكننا غالبا أيضا ما ننحاز لا شعوريا إلى جانب المتبني لما قدّمه من خدمات جليلة في التربية و الإحسان ، و لما قاساه في سبيل تنشئة ذلك الطفل و رعايته ، لكن هل تساءل أيّ منا ذلك السؤال الصريح و الخطير و الواقعي أيضا : كيف تربى ذلك الطفل في ظل تلك الأسرة ؟؟ بل لماذا تبنوه أصلا ؟؟ هل كان ذلك بدافع الإحسان و التربية أم بدافع إشباع رغبة الأبوة أو الأمومة ؟؟ لماذا تقسوا بعض الأسر على الطفل المتبنى ثم تريد منه الإحسان و العطف و الحنان ؟؟ لماذا لا يسمح للطفل المتبنى أن يعبر عن عاطفته الدفينة و تساؤلاته العميقة حول أصل ولادته و جذوره التي لا ينفك عنها بل و تلاحقه وجوديا ؟؟ لماذا العتب غالبا عليه بأنه عاق و ناكر للإحسان و المعروف الذي أسدي إليه في طفولته ؟
أنا أريد أن أناقش هذا الموضوع من هذه الزاوية الدفينة في نفسية المتبنى و أعلم أن الحقيقة تتنازعها الظروف و الحيثيات و التفاصيل ، لكننا من منطلق البحث في موضوعات الأسرة لابد أن نكون منصفين و وواقعين ، فالمسالة لا تناقش من زاوية أحادية ننتصر فيها لطرف على الآخر ، كما لا نناقشها دون المعطيات الأساسية حول أسرة المتبني و المتبنى و علاقتهما التربوية . بمعنى : كيف كانت تربية الطفل المتبنى داخل الحاضنة الجديدة ؟
إنني أفترض دواعي كثيرة للتبني ، و أنظر إليها مبدئيا من ناحية مشروعة ، مشروعة نفسيا و اجتماعيا و دينيا إذا ما انتفى الإلحاق بالاسم ، فنقول مثلا من تلك الدواعي النفسية : الفراغ العاطفي لدى الزوجين بالحرمان من الإحساس بعاطفة الأبوة و الأمومة ، و هو دافع كاف للتفكير في البحث عن وسيلة لسد ذلك الفراغ و إشباعه ، ثم هناك دافع اجتماعي مثلا ، يتمثل في امتداد الأسرة و تخليد اسمها كباقي العائلات ، و هو دافع مشروع أيضا ، و هو يتقاطع مع الدافع الأول العاطفي في كونه حالة نفسية تقتضي البحث عن أسباب البقاء و تخليد الأثر ، قال تعالى في شأن زكرياء عليه السلام { فهب لي من لدنك وليّا يرثني و يرث من آل يعقوب و اجعلها ربي رضيا } ،و قد يكون الدافع دينيا يتمثل في كفالة اليتيم و رعاية المتخلى عنهم و هو من أجل المقاصد و أعظم القربات ، لكن في الغالب لا تراعى فيه الشروط الشرعية الدينية التي تضمن له صيرورة طبيعة و تحقيقا لمقاصده النبيلة ، و ما ذلك إلا لأننا نعيش وفق العادات و التقاليد أكثر مما نعيش وفق التعاليم و التشريعات .
فإذا افترضنا كل ذلك ، فلابد أن نناقش الموضوع وفق هذه المعطيات الأساسية ، و بالطبع قد تكون هناك معطيات أخرى لكنها لا تخرج عند التدقيق عمّا ذكرنا .
الدوافع النفسية التي تأتي في مقدمة كل الدوافع و تطغى عليها أساسا ، إنه دافع الإشباع و سد الفراغ العاطفي ، إنه حب الولد و العاطفة الفطرية الربانية التي لا تنفك عنّا و تلازمنا، هذا الدافع يجعل الكثير من الأسر التي تعاني من أمراض العقم مثلا أو تأخر الإنجاب لسبب من الأسباب ، تلجأ إلى فكرة التبني و احتضان بنت أو ولد داخل الأسرة ، تتغير به الحياة و تعلو به الابتسامة و يزول به حرمان السنين … هذا الدافع القوي له من الآثار الإيجابية على تربية المتبنى الشيء الكثير ، فهو دافع يتميز بالتجدد و الاستمرار ، حب يكبر يوما بعد يوم ، و عاطفة تتأجج بكرة و أصيلا ، و دفئ يشعر به المحضون في كل ساعة ، لكن ما الذي يحصل يا ترى في بعض الأسر فينقلب الحب بغضا ، و القرب هجرا ، و الابتسامة ألم و معانات ؟؟
محاولة منا لفهم ما يحدث و لو على سبيل التقريب و التمثيل ، سأحاول أن أعرض لحياة طفل متبنى ، يحكي فيها عن نفسه و عن طفولته الأولى كيف كانت ناعمة و دافئة : ” لم أصدق أن أبي و أمي هما في الحقيقة ليسا سوى من رباني و احتضنني ، و ما ذلك إلا لأنهما لم يشعراني أبدا بفقدان العاطفة ، بل غمراني بحب كبير و حنان منقطع النظير ، كانا يحرصان على سعادتي و إسعادي بكل الوسائل ، لكن عندما أدركت الحقيقة عن طريق المصادفة حينما سمعتهما يتحدثان عني و عن الكيفية التي سوف يخبراني بها عن الحقيقة ..كان سني حينها 15 سنة ، واجهتهما بسؤال طبيعي وواضح : من هو أبي و من هي أمي ؟؟ و لماذا تخلوا عني ؟؟ كل تلك الأسئلة الطبيعية لم أجد لها أجوبة محددة و مريحة ، بل كل ما في الأمر أنني بدأت أحس بعتابهما و لومهما لي عن السؤال و الإلحاح فيه ، بدأت أسمع كلمات المن و التفضل ” نحن ربيناك و سهرنا على راحتك .. ماذا ينقصك ؟… ماذا تريد من عائلتك الأصلية …؟ و حتى لو عرفت الحقيقة ….و ماذا بعد ؟؟؟ كلها أسئلة كانت تذبحني أكثر مما تجعلني استشعر حبهما الأول و حنانهما القديم ، بدأت أدرك أن احتضاني كان لسد فراغهما العاطفي ، أو ربما حتى لا يبقيا وحيدين في منزلها الكبير ، أو ربما ليتسليا بوجودي و حركاتي و بكائي و ….. ”
إن تنامي الحس الإدراكي لدى المحضون في مرحلة مبكرة من مراحله العمرية ، يفرض علينا التذكير بأن تربية الأطفال ليست بالأمر الهين و السهل ، فالطفل إنسان ، له تفكيره و إدراكه و إحساسه ، له طريقته الخاصة في التلقي و بناء المواقف ، له القدرة على تكوين الانطباعات و تكوين القناعات ، فمن العبث أن نظن أن أطفالنا – سواء كانوا أبنائنا الطبيعيين أو بالتبني – لا يدركون عواطفنا و أحاسيسنا إذا ما كانت مشروطة أو طبيعية و خالصة ، و من العبث أيضا إغفال نظراتهم و تساؤلاتهم و استفساراتهم و كيفية ربطهم للمقدمات بالنتائج ، فبالرغم من البساطة التي يتمتعون بها في ذلك ، إلا أن أفكارهم تتراوح بين الحقيقة و مقاربة الحقيقة ، لذلك لابد من الحذر من الانغماس في إشباع الرغبة و سد الفراغ و تأثيث البيت بالبهجة و السرور ، و إسقاط نفسية الطفل و تفكيره و إدراكه و مكونات القناعات لديه من أي اعتبار ، فقد يكون اليوم و هو طفل صغير مصدر دفئ و حب ، لكن الأسرة تدمر كل تلك المصادر عبر السنين ليصبح فيما بعد مصدر ألم و حزن و شقاء .
نعم قد ندمر أطفالنا من حيث لا نشعر و لا ندرك أننا نفعل ذلك ، ندمرهم بالحب المفرط و المشروط ، ندمرهم بنظراتنا لهم على أنهم مشاريع لنا نصل بها إلى مدح الناس و ثنائهم و إعجابهم ، نعم مدح الناس لنا بكوننا ناجحين في التربية ، و متقنين لفن التعامل مع الأبناء ، لكن في الحقيقة ناجحين في ذلك على حساب عواطف الأبناء و قدراتهم و نفسيتهم و تفكيرهم ، ثم نتساءل فيما بعد ، لماذا أنكر الابن كل هذا الخير العميم و صار مصدر الم و شقاء للأسرة ؟؟
لا ينبغي أن يكون همنا هو الفوز باستحسان الناس في تربيتنا لأبنائنا ، استحسان مستواهم التعليمي أو السلوكي أو الديني ، ففي هذه الحالة هم وسيلة لإشباع أنانيتنا دون أن ندري أننا نجني عليهم في فقدانهم الكثير من التجارب و المكاسب و من ثم تكوين ردود أفعال نفسية سرعنا ما تنفجر فيما بعد ،إننا نجعلهم في الغالب موضع فخر لنا و هو أمر في الحقيقة يؤذيهم نفسيا ( هذا الشعور يعطيهم الانطباع أنهم شيء يتحدث عنه أو أنه نجاح للوالدين و ليس لهم ) للإشارة هذا التحليل يظهر غالبا في سن المراهقة و عندما تبدأ تتفتق القدرة لديهم على التحليل و الملاحظة و التعبير عن الشعور .
إن الحب المشروط يساهم في تدمير شخصية الطفل و من ثم انعكاسه على طريقة المعاملة مع الآباء و الأمهات في المستقبل ، لأن هذا النوع من الحب يجعل الأبناء لا يشعرون بالأمان : هل هم محبوبون أم مكروهون ؟ ولا يؤمن على الطفل المحضون من تفاقم صدماته النفسية و العاطفية عندما يصبح قادرا على الربط بين إحساسه هذا و بين مجموع التصرفات و المواقف و الأحداث و الكلمات التي سمعها خلال حياته داخل الأسرة الحاضنة ، و من ثم تعزيز مواقفه الانطوائية و الانعزالية ، أو ربما مواقفه العدائية بل و حتى موافق الهروب و الانسحاب و التخلي ……
هذا التحليل يجعلنا نستشعر الصعوبة في تحمل المسؤولية ، مسؤولية احتضان طفل و السهر على تربيته ، يجعلنا نفكر في الدوافع كلها ، و خاصة النفسية و العاطفية بالأساس ، لأننا بعواطفنا قد نصنع و قد ندمر ، و قد نحي قلوبا و قد نقتل أخرى ، و كل ذلك من حيث نظن الخير و الإحسان .
إذا كان هذا في حال أسرة بذلت من الحب أقصاه ، و من العطف منتهاه ، و من الإحسان غايته و ذروته ، لكنها كانت تبذل ذلك لإشباع رغباتها العاطفية و راحتها النفسية أكثر من العناية بالمحضون نفسيا و عاطفيا ، نظرت إليه كشيء و مكسب لها و لسعادتها ، كأثاث أدخل عليها البهجة السرور ، فكانت النتيجة أن ذلك الإحساس انقلب كرها و حقدا و انتقاما … فكيف بأسرة لم توفر للمتبنى أي شرط من شروط التربية السليمة ، و لا الرعاية النفسية أو الصحية أو الاجتماعية ؟؟ لابد أن الكارثة ستكون أكبر و أخطر .

الدوافع الاجتماعية : قد تلجأ بعض الأسر إلى التبني كما أسلفنا قصد سد الفراغ و إشباع الرغبة العاطفية نحو الأبناء ، لكن يتقاطع مع ذلك دافع آخر لا يقل أهمية : هو الدافع الاجتماعي ، دافع استمرارية النسل و الأثر ، دافع تمدد الأسرة و رفعت مكانتها بين العائلات و الأقارب و الجيران .. هذا الدافع كان و لا يزال يشغل الكثير من الأسر ، و يؤرقها حتى عندما يكون سبب الحرمان من الأطفال هو المرض العارض الذي قد لا تحتاج معه الأسرة إلى تبني طفل و احتضانه ، لكن للأسف الشديد ، التركيز على هذا الهدف و فعل كل ما بوسع الأسرة فعله من أجل تحقيقه قد ينقلب على حياة الطفل سلبا و يجعل منه شيئا ماديا لا روح فيه و عاطفة و لا إحساس ، لأن هذا الهاجس الذي يشغل الأسرة حينها هو كيفية الامتداد عبر الزمن ، أفقيا عبر التناسل و التكاثر ، و ليس عموديا عبر بناء الإنسان و تقوية العلاقات الاجتماعية و الإنسانية بين الأفراد .
من الأخطاء التي تقع فيها بعض الأسر الحاضنة و التي يكون دافعها تقوية مكانتها الاجتماعية ، أنها ترى في الطفل المتبنى حامل هذا المشروع ، هو من سيحقق هذا الهدف المنشود ، و هو من سيرفع اسمها و يخلد ذكرها ، و بالطبع لابد أن يحافظ على هذا الاسم بالشكل الذي حافظت عليه عبر السنين ، و لا ينبغي له أن يكون مستقلا في اختياراته و تطلعاته ، لابد أن يكون متفوقا و ناجحا لتتباهى به الأسرة أمام الآخرين .. لابد أن يكون أحسن من أقرانه … لابد أن يكون الأول دائما … ليس المهم أن يشعر بالحب أكثر مادام أنه يتلقى الدعم المادي ليصير ناجحا و متفوقا ، فهو رمز الأسرة و حامل اسمها في المستقبل .. لابد ترى فيه الأسرة ما تحلم به لا ما يحلم به هو … و هذه عبارة متداولة بشكل كبير في ثقافتنا العامية – بغيت ولدي يحقق لي داكشي لي كنتمنى – لكن أين هو من هذا و ذاك ؟؟
قد يبدوا الأمر غريبا أو مبالغا فيه ، لكن في الحقيقة هو أمر عميق من الناحية التحليلية ، فكثير مما نظنك عاديا يشكل مشاكل نفسية عميقة و دفينة و آهات و آلام داخلية في نفسية الإنسان ، يريد أن يصرخ و يقول : ” أنا لست كما تظنون ، أنا لست آلة تؤدي وظيفة معينة ، روتينية و تتكرر دائما ، أنا لست خادم أو عبد من العبيد تسلمتموه ليخدم غاياتكم و أهدافكم و يحقق أحلامكم ثم يموت في الأخير دون تحقيق حلمه و أهدافه …. أرجوكم افهموني .”
إن ما يحصل بالضبط داخل بعض الأسر من انشقاقات و اضطرابات من جراء سوء الارتباط بين الدوافع و الغايات مهما كانت تلكم الغايات نبيلة و حسنة ، هو ما نحاول كشفه و إماطة اللثام عن بعض الجوانب الخفية فيه ، فالمسالة ليست مجرد خلافات بدأت بكلمة أو بسوء فهم أو بعصيان أمر
من الأوامر ، الأمر أكبر من ذلك بكثير ، تبدأ جذوره في المراحل الأولى من التربية ، و هنا تعاود و نقول أن حبنا لابنائنا لا ينبغي أن يكون مشورطا بشيء ، بل لأنهم نعمة ربانية و هبة إلهية تستوجب الشكر لذاتها أولا ، ثم لما ينتج عنها من نعم لاحقة ثانيا .

الدوافع الدينية : يعتبر هذا الدافع من أجل المحفزات المبدئية التي تدفع الأسر الراغبة في احتضان الأطفال ، فهو محفز داخلي شعوري إيماني يربط ما نقوم به في الدنيا من عمل صالح بما عند الله تعالى في الدار الآخرة ، في الغالب ما يستحضر لتعزيز قراراتنا و اختياراتنا ، وقد يغيب في إجراءاتنا و سلوكنا ، و هذه ملاحظة دقيقة لابد من التنبه لها في دراسة هذا الموضوع الهام .
الدافع الديني يجعلنا نستحضر قيم التضامن و البر و الإحسان ، قيم كفالة الأيتام و العطف على المحتاجين و رعاية المتخلى عنهم ، إكرام الأرامل بتربية ابنائهم و الاعتناء بهم بعد احتضانهم و تبنينهم . كل ذلك جميل و رائع إذا ما روعي فيه الجانب الشرعي التطبيقي ، الذي يضمن حقوق الأطفال و كرامتهم ، فهذا الدافع سرعان ما يغيب كما قلنا عند بعض الأسر عند أول مشكل ، فيبدأ المنّ و الأذى ، و تبدأ عبارات التفضل و التكرم ، لقد قال لي صديقي المتبنى ذات يوم ” لماذا يقولون لي نحن ما تبنيناك إلا في سبيل الله .. و لولا أن في ذلك أجر و أنك كنت معرض للضياع لما اقبلنا عليك و احتضناك …”
لقد صدق الله العظيم حين قال { خلق الإنسان من عجل } سرعان من تتهاوى كل القيم و الأخلاق و المبادئ عند أول امتحان ، و عند أول مشكلة أو مصيبة ، نتغافل الدوافع و الأسباب و ما تقتضيه من واجب الصبر و الحلم و الأناة ، فيفجر الإنسان أمام كل مصيبة ، و يشتم و ينتقص عند الغضب ، ثم لا يرضى أن يتحمل عواقب كل ذلك …

مشاركة