صوت العدالة- الرباط
احتضنت قاعة الاجتماعات الكبرى بمحكمة الاستئناف بقصر العدالة بالرباط، يوم الجمعة 4 يوليوز 2025، اجتماعاً هاما للجنة الجهوية للتكفل بالنساء ضحايا العنف، خُصص لموضوع مستجد يرتبط بالتحولات الرقمية المتسارعة و هو “مظاهر العنف ضد النساء في نظم الذكاء الاصطناعي الحديثة: الحماية القانونية والقضائية”.
وقد ترأس هذا الاجتماع السيد الوكيل العام للملك الأستاذ عبد العزيز راجي و بحضور الأستاذة لمياء بن سلامة النائبة الأولى للوكيل العام للملك و رئيسة الخلية الجهوية للتكفل بالنساء ضحايا العنف ونواب وكلاء الملك رؤساء الخلايا المحلية لدى المحاكم الابتدائية التابعة لدائرته القضائية، وقضاة الأحداث والمساعدات والمساعدين الاجتماعيين بها، وكذا ممثلي الخلايا بمصالح الأمن الوطني والدرك الملكي، وممثلين عن قطاعات حكومية ومؤسسات وهيآت أخرى، كوزارة التضامن والتنمية الاجتماعية والمساواة والأسرة، والمركز المغربي للأبحاث المتعددة التقنيات والابتكار، واللجنة الوطنية لحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، وقطاع المغاربة المقيمين بالخارج بوزارة الخارجية، ونقابة هيأة المحامين بالرباط، والهيأة العليا للسمعي البصري، والمندوبية الجهوية للصحة، والمنسقية الجهوية للتعاون الوطني بالرباط، والمركز الوطني محمد السادس للمعاقين، ومؤسسة محمد السادس لإعادة إدماج السجناء ومجلس الجهة والرابطة المحمدية للعلماء والمرصد الوطني لحقوق الطفل، بالإضافة إلى رؤساء وممثلي جمعيات فاعلة في مجال التكفل بالنساء ضحايا العنف.
و قد تميز هذا اللقاء بكلمة افتتاحية وازنة ألقاها السيد الوكيل العام للملك سلطت الضوء على التحديات الجديدة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي في مجال حماية النساء والفتيات نظرا للتحولات العميقة التي أحدثها في حياة المجتمعات، وما رافقها من بروز ممارسات عنيفة جديدة تستهدف النساء والأطفال عبر الوسائط الرقمية، حيث أكد على أن الذكاء الاصطناعي رغم حياده الظاهري، ليس بمنأى عن الانحيازات الاجتماعية والثقافية التي تُغذيه عبر البيانات التي يتعلم منها. فبعض تطبيقاته قد تعيد إنتاج صور نمطية وتمييزية في حق المرأة، وتُستخدم أحيانًا كأدوات للعنف الرقمي كما هو الحال في التزييف العميق (Deepfake)، الذي يُستغل في صناعة محتوى إباحي مفبرك لنساء حقيقيات بهدف التشهير أو الابتزاز، أو في التحرش والتجسس الرقمي، وانتحال الهوية، بل وحتى اختراق الحسابات الخاصة وانتهاك الخصوصية.
و قد نبه الأستاذ راجي في كلمته إلى أن العنف الرقمي القائم على الذكاء الاصطناعي لا يمس النساء فقط كأفراد، بل قد يتعزز بخوارزميات بعض المنصات الاجتماعية الكبرى التي تروّج أحيانًا – دون رقابة كافية – لمحتويات تحريضية أو تمييزية ضد النساء، مما يخلق بيئة رقمية سامة تحدّ من مشاركتهن في الفضاء العام. و أضاف أن تعقيد هذه الأشكال من الجرائم وصعوبة تعقب مرتكبيها، خاصة عند استخدام هويات وهمية ومنصات أجنبية، يدعو إلى تقوية التنسيق بين الفاعلين والاستعانة بأطر تقنية وقانونية متخصصة، والعمل على تحيين الترسانة القانونية بما يضمن مواكبة الجرائم الرقمية الحديثة، مشيرا إلى الإطار القانوني الوطني الذي يضم مجموعة من النصوص التي تتيح تكييف هذه الأفعال قانونيًا، من ضمنها القانون 103.13 لمحاربة العنف ضد النساء في الفصلين 447-1 و447-2 والقانون رقم 09-08 المتعلق بحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، والقانون 03-07 المتعلق بالمس بنظم المعالجة الآلية للمعطيات. كما أشار إلى دوريات السيد رئيس النيابة العامة التي توجه قضاة النيابة العامة إلى حماية الحياة الخاصة والتصدي للعنف الرقمي، إضافة إلى البرامج والمبادرات الوطنية التي أطلقتها مؤسسات مختلفة للحد من هذه الظواهر وتعزيز الوعي الرقمي. و في ختام كلمته دعا السيد الوكيل العام للملك الى ضرورة تظافر الجهود بين مختلف المتدخلين تشريعياً ومجتمعياً وتقنياً، لضمان حماية فعلية للنساء في الفضاء الرقمي، ومواكبة التطورات التي تفرضها الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي .
من جانبها، قدمت الأستاذة لمياء بن سلامة – رئيسة الخلية الجهوية للتكفل بالنساء ضحايا العنف – عرضاً توثيقياً حول “الذكاء الاصطناعي والعنف ضد المرأة” أبرزت من خلاله الوجه الآخر لهذا التطور التكنولوجي الذي بدأ يثير قلقًا متزايدًا، خاصة في ما يتعلق باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في ارتكاب أشكال مستحدثة من العنف ضد النساء، حيث تحول إلى سلاح رقمي خطير، يستعمل في الابتزاز والتشهير. ومن أبرز مظاهر العنف التي تم تسليط الضوء عليها: التنمر الإلكتروني، التحرش عبر الرسائل والتسجيلات الرقمية، الانتحال بواسطة روبوتات المحادثة، التزييف العميق الذي يستعمل صور النساء دون إذنهن في وضعيات لاأخلاقية أحيانا، إضافة إلى الابتزاز الجنسي ونشر صور ومقاطع مفبركة تهدف إلى تدمير سمعة الضحية وابتزازها مادياً أو معنوياً، و هو ما يترك آثاراً نفسية عميقة عليها خصوصاً حين ترتبط بالتشهير والتهديد، مما يدفع العديد من النساء إلى الصمت أو الاستسلام، حفاظاً على كرامتهن أو تجنباً للفضيحة، وهو ما يساهم في افلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب. و أشارت الأستاذة لمياء بن سلامة الى إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط لسنة 2024 التي سجلت أن ما يقارب 13.8% من النساء المغربيات يتعرضن للعنف الرقمي، غالبيتهن بين سن 15 و24 سنة، و أن 86% من المعتدين هم رجال، و72% منهم مجهولي الهوية. كما استعرضت القوانين الوطنية المؤطرة لهذه الجرائم كالقانون 103-13، والقانون المتعلق بالمعالجة الآلية للمعطيات، و القانون 09-08 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية، بالإضافة الى مناشير السيد رئيس النيابة العامة الصادرة في الموضوع و المبادرات التي اتخذتها عدة قطاعات و هيآت وطنية كإطلاق منصات إلكترونية للتبليغ، وإنشاء فرق أمنية متخصصة في الجرائم السيبرانية. و دعت في ختام مداخلتها الى ضرورة مراجعة بعض القوانين، وإصدار تشريعات جديدة خاصة بهذه الجرائم الرقمية المستحدثة بفعل الذكاء الاصطناعي كالتزييف العميق والابتزاز الرقمي مع ضرورة تعزيز الوعي و الثقافة القانونية والرقمية لدى النساء، لحماية خصوصيتهن وكرامتهن في الفضاءات الافتراضية.
وفي مداخلته، أشار الدكتور يوسف بن الطالب، رئيس المركز المغربي للأبحاث المتعددة التقنيات والابتكار، الى أن التحول الرقمي السريع الذي تعرفه المجتمعات، وانتشار تطبيقات الذكاء الاصطناعي، أحدثا نقلة غير مسبوقة في طبيعة التهديدات الرقمية، خصوصًا تلك التي تستهدف النساء والفتيات. وشدد على أن الذكاء الاصطناعي، رغم إمكانياته الإيجابية، بات يُستغل كذلك لإنتاج محتويات مزيفة، والتحرش، والانتحال، وتغذية خطاب الكراهية، بل وحتى ارتكاب جرائم جديدة كالاغتصاب الافتراضي داخل عوالم الميت فيرس. كما استعرض جهود المركز المغربي للأبحاث المتعددة التقنيات والابتكار، خاصة من خلال منصة “فضاء مغرب الثقة السيبرانية” www.cyberconfiance.ma، التي تُعد أول بوابة وطنية للتبليغ والدعم في مجال العنف الرقمي بالمغرب. وتشمل تدخلات المنصة استقبال الإبلاغات، التوجيه القانوني والنفسي للضحايا، التنسيق مع شركات التواصل الاجتماعي لحذف المحتوى الضار، وتوفير دعم مباشر من فريق متخصص.
و أبرز الدكتور بن الطالب أن المنصة المذكورة تلقت أكثر من 2970 إبلاغًا سنة 2024، 70% منها قدمتها نساء، مع تصدر فيسبوك وإنستغرام كأكثر المنصات استعمالًا في العنف. وشدد في ختام مداخلته على أن مواجهة العنف الرقمي في عصر الذكاء الاصطناعي يقتضي تطوير التشريعات الوطنية، وتعزيز الوعي الرقمي، وتكثيف التكوينات، وبناء تحالف وطني لحماية النساء والفتيات في الفضاءات الرقمية، خاصة في ظل الاستخدام التجاري والسياسي المتزايد للمعطيات الشخصية من طرف عمالقة الإنترنت ، مؤكدا على ان الذكاء الاصطناعي يجب ان يكون في خدمة كرامة الإنسان، لا وسيلة للمساس بها.
أما ممثل وزارة التضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، فقد أكد في مداخلته على أن الوزارة تعتبر العنف الرقمي تهديداً استراتيجياً يتطلب تدخلًا شاملاً، مشيرًا إلى أن 1.5 مليون امرأة مغربية تعرضن لهذا النوع من العنف. واستعرض المبادرات الحكومية، منها الحملة الوطنية “جميعاً من أجل فضاء رقمي آمن” والمنصة الرقمية “أمان لك”، بالإضافة إلى الخطة الحكومية للمساواة 2023-2026. وشدد على أن المقاربة الزجرية وحدها لا تكفي، بل يجب دعم الضحايا نفسياً وقانونياً، مع التركيز على الوقاية والتحسيس.
وفي مداخلة ممثلة اللجنة الوطنية لحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، تم التأكيد على أن الفضاء الرقمي أصبح يشكّل بيئة خطيرة على الخصوصية، خاصة مع تطور تقنيات استغلال الصور والبيانات الشخصية لأغراض عنيفة. وأوضحت أن القانون 09-08 يمثل إطاراً قانونياً مهماً، لكنه يحتاج إلى مواكبة عملية وتعاون أوسع مع منصات التواصل، وتكوين الكوادر القضائية والأمنية. ودعت إلى مقاربة شاملة تدمج القانون، التربية والوعي التقني، مشددة على أن حماية المعطيات لم تعد فقط مسألة قانونية، بل مسؤولية وطنية ترتبط بالأمن المجتمعي وحقوق الإنسان.
و أجمع المشاركون في ختام الاجتماع على أن الحماية القانونية للنساء في العصر الرقمي أصبحت ضرورة ملحة تستدعي يقظة دائمة و تشريعا مواكبا و تعاونا بين جميع المتدخلين، كما تم التأكيد على أن مواجهة هذه الجرائم لا تنحصر فقط في العقاب و انما أيضا عبر الوقاية و التحسيس و تطوير ثقافة رقمية تحصن النساء و الأطفال من المخاطر المستجدة للذكاء الاصطناعي .




















